محمد شتين جولتش
كان رئيس الجمهورية التركي السابق عبد الله جول قد أوضح بلغةٍ دبلوماسية في آخر أيامه في القصر الجمهوري أنه “لن يتقاعد”، وقال إنه “سيواصل خدمة الشعب التركي”.
لم يفهم الجيل الثاني من مسؤولي حزب العدالة والتنمية هذه التصريحات بشكل كافٍ، الأمر الذي أفضى إلى انتشار تصريحات مختلفة حول مستقبل جول السياسي. وظنوا أنه سيخرج خارج الإطار السياسي عقب تركه منصب رئاسة الجمهورية، لتجري تصفيته بعد ذلك.
لكن هؤلاء لم يأخذوا أحد الاحتمالات على محمل الجد، وهو أن بقاء جول خارج حزب العدالة والتنمية ربما يشكل خطرًا بالنسبة للحزب ورئيس الجمهورية الجديد رجب طيب أردوغان.
إن تفكير هؤلاء بأن إقصاء جول من الحياة السياسية بعدما كان اسمًا يكنّ له الجميع كل احترام وتقدير بفضل ما أظهره من إخلاص عندما تولى مناصب “الدولة” الرفيعة في شبابه بنجاح باهر مثل وزاراتي الدولة والخارجية ورئاستي الوزراء والجمهورية، يُظهر أن الذين يحتلون مواقع القرار من حول الرئيس أردوغان يولون أنفسهم اهتماماً أكثر من اللازم من جانب، ويستخفّون بمؤسسي حزب العدالة والتنمية أكثر من اللازم من جانب آخر.
وسؤال اليوم هو: لماذا لا يمكن تصفية عبد الله جول؟
لا يمكن تصفية جول لأنه ساهم في ارتقاء حزب العدالة والتنمية بالقدر الذي ساهم به أردوغان. هذا فضلًا عن أنه لعب دورًا فاعلًا في تأسيس العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الحزب والمجتمع الدولي. كما تعرفت أوروبا والولايات المتحدة إلى أردوغان بمرجعية من جول. كما أن له جهوداً في تأسيس الكادر الاقتصادي لتركيا.
وكان جول هو الذي أرسل علي باباجان إلى لندن للتفاوض مع المؤسسات المالية خلال الفترة الأولى لحزب العدالة والتنمية في الحكم. كما أنه هو الذي عين رئيس الوزراء الحالي أحمد داود أوغلو في منصب كبير مستشاري وزارة الخارجية، وهو الذي فتح الطريق أمامه لتولي حقيبة تلك الوزارة.
وكان جول قد ضمن التوازن من خلال تصرفاته وتصريحاته الهادئة والحذرة في مواجهة ردود الأفعال الطائشة التي كانت تدلي بها الحكومة فيما يتعلق بالعديد من القضايا القومية والدولية.
حسنًا، هل عبد الله جول سياسي رائع؟ بطبيعة الحال لا؛ إذ لا يمكن أن يكون شخصًا كامل الأوصاف. ولهذا السبب فهو ليس استثناء في هذا الأمر. ويمكن أن نقول إنه كان سلبيًا في بعض الأحيان. لكن هذه إحدى خصائص جول المميزة، وهي وضعية ناجمة عن رغبته في التأكد من صلابة الأرضية التي ستطؤها قدمه. ومع وجود صفات إيجابية وسلبية لدى جول، فإنه من غير المتوقع أن يجري التخلي عن سياسي شاب في هذه السن مثَّل الدولة التركية على مستويات مختلفة.
وإذا لم يحظَ جول بالاحترام اللازم ولم يلعب دورًا فاعلًا داخل حزبه، فإنه من الطبيعي جدًا أن يجرّب حظه داخل كيان سياسي آخر، لكن تطورًا كهذا كفيل بأن يشقّ صفوف حزب العدالة والتنمية. ذلك أنه من المحتمل أن يتحول الحزب عقب الانتخابات البرلمانية التي ستجرى في شهر يونيو/ حزيران المقبل إلى تنظيم سياسي لديه الكثير من “المتقاعدين” و”الناقمين”. وفي مناخ كهذا لن يتحمل أحد مخاطرة التخلي عن عبد الله جول، وما يبرهن على ذلك الرسائل الساخنة التي يبعثها الرئيس أردوغان إليه.
لا يريد أردوغان تشكيلات في جناح اليمين الوسط يمكن أن تكون منافسة لحزب العدالة والتنمية. ولهذا السبب فإنه يحاول الحفاظ على جميع أصحاب هذا التوجه تحت سقف واحد. في البداية ضم نعمان كورتولموش الذي يعتبر اسمًا قويًا وكان من الممكن أن يقف أمامه وينافسه. والآن يدلي بتصريحات جديدة تهدف لكسب جول مرة ثانية تحت مظلة الحزب بعدما لاحظ إمكانية لجوء جول إلى تشكيل كيان سياسي بديل لحزبه وقابل لتحقيق نجاح باحتمال كبير.
وباختصار أريد أن أقول إنه من المؤلم أن يظهر البعض شخصية لعبت أدوارًا حاسمة في حياة حزب العدالة والتنمية السياسية بدءًا من السياسات الاقتصادية وحتى السياسة الخارجية كعبد الله جول وكأنه يلهث وراء مقعد بالبرلمان. ذلك أن جول ليس سياسيًا ورجل دولة أكمل مهمته السياسية.
من الممكن أن تنفتح أبواب جديدة في اللحظة التي يعتقد البعض أن كل شيء انتهى فيها…