مصطفى أونال
أمر غريب لكنها حقيقة. رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان هو الذي أعطى إشارة التطورات التي يشهدها حزب العدالة والتنمية فهو لم ينفصل عن حزبه القديم وهو أول مَن أطلق حملة الانتخابات. في الوقت الذي لم يحضر فيه هو مراسم دفن الطيارين الشهداء رغم أن من صفاته وألقابه “القائد الأعلى للقوات المسلحة” خرج إلى الميادين للحملات الانتخابيه كأنه رئيس أحد الأحزاب وطلب أصوات الناخبين لصالح حزب معين. إذ كان قبل يومين في مدينة غازي عنتاب، ولم يتراجع عن طلبه لنفس الحزب 400 مقعد بالبرلمان، فهو يركز استراتيجيته على إقرار النظام الرئاسي في تركيا.
هناك لغزان داخل حزب العدالة والتنمية؛ أولهما متعلق بوضع رئيس المخابرات التركية السابق خاقان فيدان. ولا يبدو أن الغضب والاستياء اللذين يشعر بهما أردوغان سيزولان بسهولة. كان الجواب الذي رد به حول مسألة فيدان عقب صلاة الجمعة الماضية مثيرًا جدا؛ إذ قال: “لقد عبّرتُ عن رأيي، وما يتعلق بالمرحلة المقبلة يخص السيد فيدان”. فهذه رسالة من أردوغان تطالب فيدان بالانسحاب من الترشح في الانتخابات البرلمانية.
لقد استشففت من هذا التصريح المقتضب الذي أدلى به أردوغان أنه يريد أن يقول لفيدان: “لست راضيًا عن استقالتك، كما أنني أعارض ترشحك في الانتخابات البرلمانية”. فقد تخلّى عمَن كان ينعته في الماضي بـ”كاتم أسراره”. أما رئيس الوزراء أحمد داودأوغلو فلا يؤيِّد وجهة النظر نفسها.
لن ننتظر كثيرًا حتى نرى أمر مَن سينفَّذ، فسنعلم ذلك خلال شهر من الآن. ورأيي أن فيدان ليس شخصًا يمكن التخلص منه بسهولة…
أما اللغز الآخر داخل الحزب الحاكم فهو متعلق برئيس الجمهورية السابق عبد الله جول؛ إذ قال رئيس الجمهورية الحالي أردوغان: “ترشُّح السيد جول في الانتخابات البرلمانية أمر صائب”، وهو بذلك يوجِّه “دعوة” صريحة لخوض جول غمار الانتخابات.
لقد خفّف أرودغان أسلوبه إزاء جول. وكان أرودغان لا يستثني أحدًا عندما كان ينتقد أسلافه ممن تولوا منصب رئاسة الجمهورية، وكان لا يستثني جول من هذه الانتقادات. لكنه قال أمس “باستثناء جول”، ليعود مرة ثانية إلى ما كانت بينهما من عهد الأخوة.
حدث كل شيء خلال 10 أيام؛ إذ استخدم نائب رئيس حزب العدالة والتنمية بشير آطالاي لغة حادة، وقال “إن جول لن يترشح في الانتخابات البرلمانية”. وكان أردوغان قد أغلق هو الآخر أبواب حزب العدالة والتنمية في وجه جول قبل 6 أشهر. وكان جول طلب أن يتحدث إلى أردوغان أثناء استعداده لوداع قصر تشانكايا الرئاسي، ولكن أردوغان لم يأبه بطلب جول، كما عقد المؤتمر العام للحزب قبل انتهاء فترة جول الرئاسية للحيلولة دون عودته إلى صفوف الحزب.
كان جول هو السبب الوحيد لانعقاد المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية مبكرًا. لكن لم يقتصر الأمر على ذلك. بل شُنت حملة شرسة للغاية استُهدف جول في الإعلام الاجتماعي على الإنترنت والإعلام الموالي للحكومة. ولاشك في أن هذه المسألة أزعجت جول كثيرًا.
لماذا وارب أردوغان مجددا أمام جول الباب الذي أغلقه في وجهه قبل أشهر؟ الأمور لا تسير في مجراها الطبيعي، والمشكلة عويصة. كما أن أداء داود أوغلو ليس مطمئنًا، والاقتصاد على عتبة أزمة، أضف إلى ذلك انهيار السياسة الخارجية، فإن مكانة تركيا على المستوى الدولي وصلت إلى حد الصفر. فدعوة جول مرة أخرى جاءت عن ضرورة.
وأنا أعتبر الوضعية الجديدة أولى إشارات الاستيقاظ من سبات وخرافات “تركيا الجديدة” تحت حكم رجل واحد على الحقيقة المرة. فأسلوب جول ومهمته لا تتطابق مع أسلوب أردوغان. وكان جول قد رفض إقرار النظام الرئاسي، على عكس أردوغان الذي يريده بشدة.
وكان جول صرح الأسبوع الماضي قائلا: “لا يمكن إقرار نظام رئاسي على الطريقة التركية”. وإذا عاد إلى الحزب فإنه لن يعود باسمه فقط، بل سيعود كذلك بمهمته وأفكاره. ولاشك في أنه سيكون في مواجهة أردوغان. حسنًا، فهل يعود إلى الحزب؟ قد يكون ممتنًا بدعوة أردوغان، لكن هذا ليس كافيًا.
يمكن أن نلخص هذه الوضعية بجملة “نعم لكنه لا يكفي”. يدرك جول جيدًا أن تركيا تسير نحو حافة الهاوية، ويعرف أيضًا أن عمر انتخابات العام الجاري لن يكون طويلًا.
علينا ألا ننتظر من جول أن يقبل دعوة أردوغان على الفور. كما أنه لا يقبل عرض “رئاسة البرلمان”. ففي البداية يجب التخلص من الاستياء الذي تسببت به الحملة الإعلامية التي نالت منه، ثم بعد إظهار جدية مقترح ترشحه لعضوية البرلمان.
لا يمكن أن تتمخّض الدعوة التي وجهها داودأوغلو إلى جول بقوله: “أبواب الحزب مفتوحة أمامه” عن نتيجة. ويبدو أن هذا التطور أزعج داودأوغلو. فهذا أمر طبيعي. وما هي النتيجة؟ سيقوم جول بتقييم الأمور، فلو اعتقد أن بإمكانه إيقاف السير السيئ لتركيا، فسيقبل الدعوة ويترشح في الانتخابات المقبلة. ويبقى لفترة في البرلمان بصفته “أحد العقلاء” أو “خبير سياسي”. ثم يتلو ذلك توليه منصبا فعّالا بالدولة.
إن عودة جول إلى حزب العدالة والتنمية تؤثر في أردوغان أكثر مما تؤثر في داود أوغلو؛ إذ ستكون نهاية نظامه. وبالرغم من ذلك فإن قدوم الدعوة منه هي إشارة قوية إلى المشكلة التي تواجهها الدولة، وهو ما يعني أن “خطوط الصدع” المحيطة بالحزب الحاكم بدأت تتحرك. فمياه البحر نضبت. ولا يمكن لتركيا أن تسير أكثر من ذلك من خلال أساطير “تركيا الجديدة” وخرافات “الكيان الموازي” المزعوم. فيجب على تركيا أن تستيقظ على الحقيقية، سواء بوجود جول أو بدونه…