بقلم: عمر نورالدين
قبل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمملكة العربية السعودية بدأ الإعلام الموالي له وكذلك الأذرع الأخرى ومنها الذراع الأكاديمي والبحثي (مركز البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعروف اختصارا باسم” سيتا”) في عمل ” فَرشة” للتمهيد للتحول الذي طرأ على موقف أردوغان المتصلب من السعودية بوصفها أكبر داعم لـ” الانقلاب العسكري في مصر” من وجهة نظر أردوغان وزمرته وتابعيه.
وركز المحيطون بأردوغان على فكرة ” عودة السديريين للحكم في السعودية” أي انتقال الحكم في المملكة إلى جناح آخر من عائلة آل سعود، وكأن هناك انقطاعا حدث بين ” سعودية خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز” وسعودية خادم الحرمين الشريفين الجديد الملك سلمان بن عبد العزيز” وتغافلوا عمدا أو اندفاعا وراء شهوة الانتقام من مصر وقيادتها بسبب الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين بالحكم إلى تصور أن سياسة المملكة هي قائمة بالأساس على مقاربات الحكم في السعودية مع مصر، وغاب عنهم أن المملكة هي دولة وضع أسس الحكم فيها مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود ويحافظ على هذه الأسس جميع أبنائه، كما سيحافظ عليها احفاده فيما بعد، وأن هذه الأسس هي بمثابة وديعة يؤتمن عليها من يحملها وينقلها إلى من يأتي بعده بكل جوانبها وأهمها الجانب الأخلاقي قبل الجوانب السياسية.
لا يمكن تصور أن بلدا بحجم المملكة العربية السعودية يمكنها أن تبني علاقاتها مع تركيا على أساس علاقاتها مع مصر، أو العكس، أو أن ترتدي كل يوم قناعا مختلفا كما يفعل البعض، فيهاجمون بالأمس ويسعون إلى الصداقة اليوم، على اعتبار أن الآخرين فاقدون للذاكرة.
سياسة تغيير الأقنعة يعرفها من يجدون خلف كل حادث عارض أو غير عارض مؤامرة، ومن يخونون أبناء وطنهم ويروجون الأكاذيب والافتراءات ويسعون لتقديم صفوة رجالات بلادهم للعالم كإرهابيين وجواسيس لمجرد خلاف في الرؤية أو طريقة التفكير حتى لو كان الآخر على حق.
في المقابل، أتصور أن سياسة تبديل الأقنعة يمكن أن تنطبق بشكل أساسي على السياسة الخارجية لتركيا، التي سقطت في الاختبار تلو الآخر، وكنت قد تساءلت في مقال لي من قبل:” بأي وجه سيعود أردوغان إلى مصر ودول الخليج”.. هل بوجه أردوغان الذي يعتبر الثورة على الرئيس المعزول محمد مرسي انقلابا عسكريا ويهاجم رئيس مصر ليل نهار ويقذف الدول العربية المساندة لمصر وفي مقدمتها السعودية والإمارات والكويت والبحرين وغيرها بحجارة الألفاظ الثقيلة ويتهمها بدعم” نظام انقلابي دموي ومجرم”، أم بوجه أردوغان الذي يفترض أن قادة دول الخليج لا عقل لهم وأنهم سيفتحون له أذرع الترحاب لأنه” السلطان الجديد” وينسون تطاوله عليهم ليل نهار، ويفتحون له خزائن الأموال ويضخون له الاستثمارات كما فعلوا من قبل عندما كانوا يعتقدون أن هناك قادة مخلصين في تركيا يعتنقون فكر الإخوة الإسلامية.
الوجه الحقيقي عبر عنه تقرير لمركز البحوث القريب من أردوغان” سيتا” الذي رأى أن هناك تغيرا في موقف السعودية تجاه دعم النظام المصري وتليينا في الموقف تجاه جماعة الإخوان المسلمين وبالتالي سيمارس قادة السعودية الضغوط على مصر من أجل استيعابهم في نسيج السياسة من جديد وأن القيادة التركية (أردوغان) ستسعى لانتهاز هذه الفرصة لتحقيق تقارب مع السعودية.
والحقيقة أن هذا تفكير واقعي للغاية ومتسق مع طريقة تفكير المحيطين بأردوغان، فانتهاز الفرص هو المبدأ الرئيسي الذي يحكم توجهاتهم، وكما انتهز أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) الفرصة بالأمس لدعم الاقتصاد التركي وجذب الاستثمارات الخليجية عبر خطاب زائف عن التقارب مع المحيط الإسلامي لماذا لا ينتهزونها اليوم في محاولة إنعاش الاقتصاد التركي الذي يمر بحالة من التراجع الضاغط على أردوغان وحزبه اللذين يظهران عجزا عن ابتكار حلول جديدة في ظل اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المفصلية في 7 يونيو/ حزيران المقبل.
إذن فالعودة إلى السعودية الآن هي بقناع المصلحة الخاصة بحزب العدالة والتنمية والانتخابات المقبلة التي يبدو أنه سيعاني كثيرا من أجل الفوز بها وأن الفوز أيضا لن يكون مريحا كما حدث ثلاث مرات من قبل.
فالجانب المهم في تفكير أردوغان ومستشاريه وإعلامه هو تعزيز العلاقات الاقتصادية بإبرام عدد من الاتفاقات مع الرياض، إضافة إلى طرح عدد من المشاريع الاستثمارية أمام رجال الأعمال السعوديين خلال المرحلة المقبلة، واستغلال الزيارة في دعم حزب العدالة والتنمية قبيل خوضه الانتخابات التشريعية المقبلة وإعطاء إردوغان الانطباع لأنصاره ومعارضيه بأن هناك اتفاقا وتوافقا مع السعودية التي تعد قبلة المسلمين، بعدما وجهت اتهامات له ولحزبه بأن تركيا تعيش حالة عزلة إسلامية إثر احتضانها لعدد من المنظمات والجماعات التي تعمل ضد بعض الأنظمة العربية والخليجية كحزب الأمة وجماعة الإخوان المسلمين وأيضا الاتهامات بدعم بعض التنظيمات الإرهابية والمتطرفة.
هذا هو المنظور الضيق لمن يقودون تركيا، لكن هناك منظور أوسع أجبر أردوغان على هذا التحرك بعيدا عن الشو الإعلامي وصوره وهو يؤدي العمرة بملابس الإحرام، فهناك خطر داهم على المنطقة بأسرها بسبب تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش) والحوثيين في اليمن وهناك أوراق مختلطة في المنطقة بسبب نشوء محاور تقتضي إحياء التحالف السني المعتدل في المنطقة وهو ما تسعى السعودية إلى تشكيله لمواجهة الزحف الشيعي بقيادة إيران، ومن هنا لم يكن غريبا أن يزور السعودية في خلال أيام كل من أمير قطر وملك الأردن الذي زار مصر عقب زيارته للسعودية، وأن يزور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي السعودية بشكل مفاجئ وأن تتزامن هذه الزيارة بالمصادفة مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسعودية.
ربما حاول أردوغان وإعلامه أن يلبسوا زيارته للسعودية قناعا خاصا به عبر استغلال الكثير من التفاصيل المحيطة بها مثل توظيفها للدعاية الانتخابية لحزب العدالة والتنمية وإظهار أن الجانب السعودي كان متلهفا ومنتظرا لزيارة أردوغان على أحر من الجمر ثم الظهور بملابس الإحرام وأيضا لامانع من الرد على صحفي موال لأردوغان عندما سأله عما إذا كان سيلتقي السيسي في السعودية بقوله:” هل تمزح معي؟” كل هذه ” الحركات” مثل” البهارات” المعروفة عن أردوغان خاصة في مواسم الانتخابات، لكن الحقيقة أن ما وراء الستار أكبر بكثير وأن ما يجري في المنطقة الآن يختلف عن هذه الذهنية المريضة ويتطلب مواقف حاسمة.. والأهم أن نتائج الزيارات والتحركات التي كانت السعودية محورها في الأيام القليلة الماضية ستظهر تباعا في الأيام القادمة.. فانتظروا..