إسطنبول – تركيا – زمان عربي
بقلم: علي بولاج
رد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان على دعوة نائبه بولنت أرينتش بشأن حركة الخدمة، والتي قال فيها “يجب عليهم أن يطلبوا منا المسامحة، حتى نتصالح معهم”، بقوله “لن يحدث ذلك طالما أنا في منصبي…”.
أؤمن بصدق السيد آرينتش، بالرغم من استخدامه عبارة خاطئة. فهذه القضية لا تُحل بـ”الاعتذار”. وإذا كانت ثمة مؤامرة مدعومة من الخارج ضد حكومة حزب العدالة والتنمية، وقام البعض بالتنصت على المسؤولين بشكل مخالف للقوانين والأخلاق، كما يدعون، فيجب الكشف عن ملابسات هذه القضية من خلال الإجراءات القضائية. هذا فضلًا عن ضرورة إتمام التحقيق في دعاوى الفساد والرشوة التي كُشف عنها يومي 17 – 25 ديسمبر / كانون الأول المنصرم. غير أن التعديلات التي أُدخلت على جهاز القضاء ألقت بظلالها على احتمالية أن نشهد محاكمات عادلة ومحايدة بعد الآن.
لم يحزن السيد آرينتش وحده، فهناك ملايين المسلمين الذين تتفطَّر قلوبهم ألماً في تركيا. لا شكَّ في أن الهيكل الرئيس لحزب العدالة والتنمية ومعظم نوابه البرلمانيين ووزرائه لا يوافقون على ما يحدث. ويرى وزير الثقافة السابق أرطغرول جوناي أن “عدد أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين يؤمنون بوجود الفساد كثير”، ويقول وزير الدولة علي باباجان بلغة مهذبة إن تركيا “لم تستطع أن تكون من الدول صاحبة الديمقراطية المتقدمة للأسف”. وأما رئيس الوزراء فقد صرح في ثلاث مناسبات بأنه يسجِّل امتناع حزبه من دعمه، وكذلك يسجِّل من لا يقفون بجانبه.
وإذا كانت العمليات التعسفية مستمرة بالرغم من كل هذا، فهذا يعني أن زمام المبادرة ليس في يد حزب العدالة والتنمية الذي نعرفه، بل في يد “نواة صلبة”. وكان وزير الداخلية السابق إدريس نعيم شاهين قد رسم صورة مناسبة لهذه الوضعية بقوله إن هناك “زمرة قليلة” مسيطرة على زمام الأمور في السلطة.
أنا أكافح في خضم هذا المضمار منذ 45 عامًا، ولم أخطئ في وجهات نظري وتوقعاتي بنسبة كبيرة إلى اليوم. إن قناعتي الضميرية، بحسب ما أرى وأفهم – وأنا أؤمن بأنني سأحاسَب عليها يوم القيامة – هي كالتالي:
1- إن ما يحدث هو “عملية دولية مدعومة من الداخل”. وهذه العملية تطبِّق تكتيك المراوغة؛ إذ يظهر أن الهدف منها حركة الخدمة، بالإضافة إلى أهداف أخرى تسعى لتحقيقها. وهذا يعتبر استمرارًا للانقلابات التي قامت بها “النواة الصلبة” ذات العقلية الاتحادية (نسبة إلى جمعية الاتحاد والترقي) في الدولة.
فحركة الخدمة أُلقيت في حوض فيه تمساح قاتل، وهي تصارع من أجل البقاء. وإن القوميين العلمانيين، كما يقول السيد نوزاد يالتشينطاش، يسعون لتصفية أي جماعة لا يرغبونها في الدولة على الإطلاق؛ إذ إن أكثر عناصر هذه الوتيرة نشاطًا هو أنصار تنظيم أرجينيكون من القوميين العلمانيين والمحافظين. فهؤلاء يتظاهرون بأنهم يقفون خلف السيد أردوغان، ويريدون تجفيف جميع منابع الحياة لحركة الخدمة. ويهدفون لطرد المتدينين، ليس من الجهاز البيروقراطي فقط، بل كذلك من كل مجالات الحياة، بدءًا من الاقتصاد وحتى الإعلام والتعليم.
2- إن حركة الخدمة ارتكبت العديد من الأخطاء بطبيعة الحال، لكن الموضوع الأساسي هو مبادرة الدولة إلى إعادة ترميم نفسها عبر التدخلات المعروفة. فالحركة ما هي إلا وسيلة لتشتيت الرأي العام، وحجّة وظيفية لتنفيذ مهمة أساسية أكبر ترمي في المقام الأول إلى انتزاع كل شيء اكتسبه المتدينون في المجالين الاجتماعي والعام نتيجة كفاح استمر لمائة عام، وإجبارهم على الانزواء والعزلة من جديد، والعودة بالدولة إلى نموذج الدولة الخالية من الدين والمتدينين. ولنتذكر مخطط مكافحة الرجعية: “مخطط القضاء على حزب العدالة والتنمية وحركة فتح الله جولن”. وإذا قُضي على هذين الرافدين الرئيسين، فهذا يعني القضاء على جميع الجماعات الدينية والطرق الصوفية الأخرى في تركيا.
3- يجري الآن تصفية الجماعات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، لتعود الأنظمة الاستبدادية إلى السلطة. وكان حزب العدالة والتنمية قد قدّم بعض التعهدات للقوى الدولية عام 2002. لكنه عجز عن تنفيذ جزء من هذه التعهدات، وأقلع عن تنفيذ بعضها الآخر وخرج عن الإطار المرسوم له. كما كلفته السياسة الخاطئة التي انتهجها اعتبارًا من عام 2011 فاتورة باهظة جدًا. وهناك مساعٍ لجعل تركيا تدفع ثمن هذه الفاتورة.
4- يعتبر نظام “الحوض” لجمع الأموال من رجال الأعمال المشاركين في المناقصات العامة، وما تمخَّض عنه من نتائج في غاية الخطورة بأبعادها الداخلية والخارجية أحدَ العاملين اللذين وضعا أردوغان في موقف حرج في الداخل. وأما العامل الآخر فهو الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة والتعديلات المخالفة للقانون التي أُدخلت على جهاز القضاء فيما بعد. وإن هذين العاملين يدفعان أردوغان نحو “النواة الصلبة”.
5- إذا احتشد آلاف من محبي جماعة لم تشارك في أي مظاهرات قبل ذلك أمام المحكمة، فعلى المسؤولين أخذ هذا التطور على محمل الجد. وكان السيد أردوغان قد ألقى خطابًا أمام الآلاف الذين ملؤوا ميدان “قازلي تشمه” بإسطنبول عام 2013، ثم انتقل مباشرة إلى ملعب “باشاق شهير” الذي يقام به أولمبياد اللغة التركية، ليستقبله هناك حشد غفير داخل الملعب وخارجه لا يقل عن الذين استقبلوه في ميدان قازلي تشمه. ولكن لا يشبه احتجاج مَن في أيهدهم مجموعة من الأذكار (الجوشن الكبير) احتجاج المنظمات اليسارية المتسم بالعنف.
6- هناك احتمالية أن ننجرّ إلى فوضى عارمة. وأنا أخاطب إخواني من أنصار حزب العدالة والتنمية ونوابه البرلمانيين من أصحاب العقل والضمير والكتاب الصحفيين “غير الموظَّفين” والأستاذة وغيرهم من أصحاب المسؤولية والفكر. ويوجد حديث نبوي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا|، فقال رجل “يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصره إذ كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟!” قال: “تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره”. ولنساعد جميعًا أردوغان وحزب العدالة والتنمية وحركة الخدمة، ولكن لنساعد أنفسنا أولًا.