بولنت كينيش
يتفق المؤرخون على أن معاهدة كارلوفتشا التي أُبرمت بتاريخ 26 يناير/ كانون الثاني 1699 هي بداية تراجع الدولة العثمانية وانهيارها.
وبموجب هذه المعاهدة خسرت الإمبراطورية العثمانية جزءا من أراضيها وبدأت بالانسحاب من أوروبا للمرة الأولى في تاريخها. وأعقب ذلك خسائر سياسية وجغرافية أخرى أدت إلى ضياع الإمبراطورية العثمانية بين رماد التاريخ في فترة زمنية استمرت حوالي 200 عام.
وبعد 316 عاما نشاهد اليوم انسحاباً جديداً، في عهد حكومة تذكر الدولة العثمانية على لسانها دوما، وتحث الخطى خلف أحلام العثمانيين الجدد.
إن تركيا ذات قيمة معنوية عالية بصفتها وريثة الدولة العثمانية وتراث الأجداد. وإن ضريح سليمان شاه من ميراث الدولة العثمانية وقد اضطرت تركيا للانسحاب منه. فقد نقل رفات سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية عثمان غازي واثنين من جنده من الضريح إلى مكان آخر.
وإن أصحاب الحكومة يعتبرون أنفسهم قد نفذوا عملية ناجحة بنقل الرفات حيث قامت القوات المسلحة بالتوغل في الأراضي السورية بـ 39 دبابة و57 مصفحة و100 عربة و572 جنديا تنفيذا للأوامر الموجهة إليها من الحكومة وبذلك استحق الجيش التركي فعلا كل الشكر والتقدير المخلصين على نجاحه هذا، لأن عملية نقل ضريح سليمان شاه عملية عسكرية ناجحة بكل المقاييس من ناحية التخطيط والتوقيت الاستراتيجي وتنفيذها بأقل الخسائر.
لكن للأسف ليس هناك أي نجاح في هذه العملية من الناحية السياسية أو التاريخية والمعنوية أو الجغرافية السياسية أو العلاقات الدولية. بل على العكس تماما فالاضطرار للقيام بهذا الانسحاب هو نتيجة فشل سياسي ذريع وجهل دبلوماسي.
ولابد من أن يدفع مسؤولو الحكومة التركية ثمن هذا الانسحاب التاريخي لتركيا، وخصوصا رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو مهندس تدمير السياسة الخارجية لتركيا. لأن المرحلة القادمة ستظهر فيها نتائج كبرى ووخيمة لهذا الانسحاب المفجع على الصعيدين السياسي والدبلوماسي وغيرها من الأصعدة والتي أتمنى ألا تكون لها تأثيرات كتأثيرات كارلوفتشا.
في الحقيقة تعرض ضريح سليمان شاه لسلسلة من عمليات الهدم والنقل وإعادة البناء منذ بنائه للمرة الأولى على ضفاف قلعة جعبر عند ضفة نهر الفرات. إلا أن أيًا من تلك العمليات لم يكن انسحابا ناتجا عن العجز والاضطرار بسبب انهيار السياسات الدبلوماسية والأمنية لمجموعة سياسية كانت تطمع وتحلم ب”إقامة صلاة الجمعة في الجامع الأموي بدمشق”
وقد قال رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان من حزب العدالة والتنمية: “تابعت بنفسي سير وإدارة العملية” وكأنه قائد عسكري أدار مهمة عسكرية وحقق نصرا مؤزَّرا، وهو يستعد فورا لعملية الإدراك. ومهما قال أردوغان فإنه سيدخل التاريخ بوصفه رئيس جمهورية ترك جزءا من الأراضي التركية ذات القيمة المعنوية العالية لتنظيم داعش الإرهابي الذي لم يخف تعاطفه معه حتى قبل وقت قصير.
أما رئيس الوزراء داود أوغلو فسيدخل التاريخ بوصفه مصمم العجز الحقيقي حيث اضطر لترك الأراضي التركية في الوقت الذي كان يخدِّر فيه بعض أطياف المجتمع بأكاذيب” تركيا الكبرى” من خلال تصريحاته الخرقاء حول أن تركيا ستؤسس التوازن في الشرق الأوسط وتكون صاحبة الأمر فيه.
وقد جُرِّدت تركيا اليوم عن العالم الخارجي وأصبحت في عزلة وباتت تعاني من الضعف إزاء حماية وحدة أراضيها ووحدتها القومية بسبب أردوغان وداود أوغلو ومن حولهما من العصابة السياسية.
وأخيرا أصبحنا نواجه خسارة أرض من تراث الأجداد. وكما قال وزير الثقافة السابق والبرلماني المستقل أرطوغرول جوناي على الجميع أن يتأكدوا من أن عظام الأجداد ترتجف بسبب هذا الانسحاب المأسوي. وستستمر النقاشات لسنوات عدة حول نقل نعش سليمان شاه والأمانات ومن ثم تفجير الضريح.
وأسوأ ما في الأمر والذي يجب أن نستخلص منه العبرة هو أن الذين قالوا مثل هذه العبارات وهم يلهثون وراء أهداف جوفاء: “سندخل دمشق وسنصلي في الجامع الأموي التاريخي خلال 3 ساعات” و”سنُسقط الأسد ونسيطر على سوريا خلال 3 أسابيع” ولعبوا الدور الأبرز في جعل سوريا بحرا من الدماء؛ أصبحوا اليوم يسلمون الأراضي التركية.