يوسف كلش
منذ أشهر عدة كنتُ كتبتُ مقالا مستلهماً من العبارة التي صرخ بها أكرم دومانلي “لا تراجع عن الديمقراطية” عندما كان محتجزاً وفي طريقه للفحوصات الطبية في الصباح الباكر.
وكنتُ قد وصلت إلى نتيجة مفادها أن الديمقراطية انعدمت في تركيا بسبب عدم وجود صحافة حرة غير منحازة وتعطيل مبدأ الفصل بين السلطات ودولة القانون وعدم وجود نظام انتخابي نزيه وشفاف.
وعلى الرغم من أن البلد الذي نعيش فيه قريبٌ من دول الشرق الأوسط التي تنتشر فيها أنظمة الحكم الفردي وأشكال الإدارة الملكية والديكتاتوريات المنتخبة، إلا أنني أرى أن هذا النوع من الأنظمة عابرة ولن يطول عمرها في بلدنا وإن ألحقت أضراراً جسيمة به على المدى القريب. وذلك لأنه حتى الجيش الباسط سيطرته على مؤسسات الدولة بصورة أكثر من هذه “الديكتاتورية المنتخبة” كان يضطر لترك إدارة البلد للمدنيين بعد كل انقلاب. ولا أظن أن العسكريين يتركون الإدارة والحكم برغبتهم. فالأسباب والحقائق التي أجبرتهم على التخلّي عن السلطة التي اغتصبوها هي الدليل والمسوّغ والضمان على أن “نظام الديكتاتورية المنتخب” في يومنا هذا هو كذلك مؤقت وعابر وأنه محكوم عليه بالانهيار وأن كل شيئ سيعود إلى مجراه الطبيعي خلال مدة قصيرة. ونذكر بعض تلك الأسباب والحقائق على النحو التالي:
1- أولا ليست لدينا موارد كالنفط أو الغاز الطبيعي أو غيرها تؤمِّن الدخل اللازم لتمويل واستمرار نظام كهذا. فالأنظمة في دول النفط في العالم تضمن استمراريتها من اعتماد ميزانياتها بشكل شبه كلي على الموارد الطبيعية كالنفط والغاز الطبيعي. أما ميزانية الدولة في تركيا فتستند إلى الضرائب المفروضة على الشعب كضرائب الدخل والاستهلاك والأملاك. وقد بلغت كمية الضرائب في سنة 2011 والتي تختلف من سنة لأخرى حسب حجم الاقتصاد ونموه 253 مليار ليرة تركية. وفي سنة 2012 وصلت إلى 278 مليار ليرة، وفي 2013 إلى 326 مليار ليرة.
2- شعبنا يموّل الدولة بالضرائب، ولذلك فالنظام لا بد أن يعود إلى الديمقراطية الحقة. وهذا التحول مبني على الضرائب لأن الديمقراطية تقوم على الإدارة الشعبية المتمثلة في الطبقة البرجوازية والمتوسطة لا على طبقة الملوك والأرستقراطيين. وكما نرى في التاريخ السياسي فإن الملوك حين يزيدون من الضرائب يضطرون للتخلي عن بعض صلاحياتهم ومنحها للمكلفين بدفع تلك الضرائب. وقد أجريت أبحاث تجريبية حول العلاقة بين الديمقراطية والضرائب، وهذه الأبحاث شملت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أيضاً. وقد أظهرت هذه الأبحاث أن الدول التي تشكِّل فيها الضرائبُ نسبة 1إلى 12% من الاقتصاد فهي دول ديكتاتورية. وإذا كانت تلك النسبة 12إلى 25% فهي نصف ديكتاتورية. وإذا كانت النسبة أكثر من 25% فدول ديمقراطية. وهذه النسبة في تركيا هي 40% تقريباً. وبناء على ذلك فلا يمكن أن تستمر الديكتاتورية المنتخبة، ما يعني أن النظام الحالي نظام مؤقت وعابر.
3- وبسبب فجوة الادخار في تركيا لا يمكنكم أن تنقطعوا عن العالم الخارجي وتواصلوا تلبية متطلبات 80 مليون نسمة، كما لايمكنكم إدارتها وتطويرها من خلال ديكتاتورية منتخبة. ولابد من إضافة المزيد من الموارد لرأس المال من أجل تحقيق النمو الاقتصادي وزيادة مستوى الرفاهية. وإن متوسط نسبة فجوة الادخار في العالم هي 33% ولكنها في تركيا قرابة 12%. والأسوأ من ذلك أن الديون التي تكبل العائلات تزداد يوما بعد يوم، حيث كانت هذه النسبة 3% في 2003، والآن أصبحت قرابة 20%، وبسبب ضعف الاعتياد على الادخار فإن تراكم رأس المال في تركيا يوجد ضمن الودائع التي في البنوك، أما ما يُدخر في البيوت فهو غير كاف. ولذلك فإن البنوك والشركات الكبرى تضطر للاقتراض من الشركات الأجنبية بشكل مستمر. فالديون الخارجية التي يقترضها القطاع الخاص المتمثل في البنوك والشركات قد بلغت 29 مليار دولار في سنة 2002، ولكن هذا الرقم وصل إلى 6 أضعاف أي إلى 168 مليار دولار في سنة 2014.
4- إن أحد المشاكل الاقتصادية البنيوية الأساسية لم تستطع حكومات العدالة والتنمية حلها طيلة 12 عاما هي مشكلة عجز الحساب الجاري الذي يؤدي إلى الاستمرار في الديون الخارجية. وحتى يمكن الاقتراض من الدول الأجنبية فإنها تطلب مختلف أنواع الضمانات. فتطلب الفائدةَ بالدرجة الأولى، كما تطلب شيئا أهم من ذلك وهو وجود نظام حقوقي ودولة القانون لتضمن استعادة أموالها. وتعتمد الدول على تقارير وكالات التصنيف الدولية حول الدول التي ستقدم لها القروض. وعندما أرادت تقديم قروض للدول التي تُحكم بالديكتاتورية فإن مبالغ القروض تكون قليلة، ويتم نهب أموال تلك الدولة عن طريق رفع نسبة الفائدة إلى أعلى مستوياتها. وقد ارتفع عجز الحساب الجاري خلال 12 عاما من 600 مليون دولار إلى 63 مليار دولار حيث ارتفع إلى 12 ضعفاً. ولا يمكن التغلب على مشكلة عجز الحساب الجاري إلا بالتعاون والتعامل مع رؤوس الأموال الأجنبية والدول الديمقراطية.
5- وازدياد حركة رأس المال بشكل كبير جدا تقصر من أمد الدكتاتورية المنتخبة وتضمن سقوطها. فقد صدرت طوال تاريخ الجمهورية التركية قوانينُ تشجع على الاستثمارات الأجنبية، ومن أجل ذلك فقد استُخدمت الكثير من العناصر التشجيعية كقبول تحكيم المحاكم الدولية وتخصيص الأراضي ذات المزايا الضريبية وغير ذلك. وقد كان عدد الشركات ذات رؤوس الأموال الأجنبية في بلدنا 12 ألفا في 2005، وازداد هذا العدد في 2013 إلى 37 ألفا. وأصبحت نسبة الأسهم الأجنبية في البورصة 65%. ولكن محاولات التسلط عن طريق المحاكم وأجهزة القضاء كالمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العموم والمحاكم العليا ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية قد غيَّرت نظرة الشركات لبلدنا. فكل خطوة تبعدنا عن كوننا دولة قانون تساعد على فرار رؤوس الأموال الأجنبية من بلدنا. وقد تحدثت الصحف بالأمس عن أن نسبة هروب رؤوس الأموال المحلية مع نظيرتها الأجنبية إلى خارج البلاد بلغت أرقاماً قياسية. وقد انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا عام 2014 بنسبة 13% حيث تراجعت إلى 8.4 مليار دولار. كما تضاعفت كمية رؤوس الأموال المحلية المغادرة إلى الدول الأجنبية. وقد ازدادت رؤوس الأموال التركية المغادرة للاستثمار في الخارج بنسبة 89% لتصل إلى 6.7 مليار دولار. وفي عهد العدالة والتنمية منذ 12 عاما بلغت رؤوس الأموال التركية المغادرة للبلاد 27.5 مليار دولار. وإن نسبة البطالة تشير إلى خسارة هذه الكمية من رؤوس الأموال. وقد أفادت آخر الإحصائيات بأن أكبر نسبة بطالة عاشتها البلاد هي في السنوات الأربع الأخيرة.
6- لاتزال الحركة الإنشائية بطيئة بسبب الزيادة في أسعار العملة الأجنبية وارتفاع نسبة البطالة والعجز في كل من ميزانية البلديات والحكومة وارتفاع أسعار الأراضي بين الحين والآخر. كما تنتشر المخاوف مع مرور الوقت نتيجة توقعات زيادة العمليات الإرهابية في الربيع. وقد انقطعت العلاقات مع مصر التي تعد بلد “الإخوان المسلمين” الذين جرتهم حكومة العدالة والتنمية نحو الانتحار. وبسبب مصر وصلت العلاقات السياسية مع دول الخليج ولاسيما السعودية إلى نقطة النهاية. وقد خربت حكومة العدالة والتنمية الأسواق العراقية والسورية من خلال تصدير البضائع بطرق غير مشروعة. وانخفضت الصادرات بنسبة 9.8% في يناير/كانون الثاني. وإن إلغاء الحجوزات الفندقية في منطقة البحر المتوسط بسبب المغامرة الروسية في أوكرانيا، أثّر سلباً على دخول العملة الأجنبية إلى البلاد وأدى إلى خسارة حقيقية في الدخل السياحي. وتضاف إلى ذلك الأزمات في العلاقات مع أمريكا والاتحاد الأوروبي. ويبدو أن عام 2015 وما يليها من سنوات ستكون مسرحا للأزمات. وحين يتعرض الاقتصاد للأزمات ستختفي أرباح الدولة والمناطق الحضرية التي تمول السياسة وبالتالي ستتوقف عملية تغذّي أنصار الديكتاتورية المنتخبة عليها. وهذا سيؤدي إلى الصراع على المحاصصة الذي سيقضي بدوره على النظام الكليبتوقراطي (الاختلاسي).
7- ولايمكن أن تستمر الديكتاتورية المنتخبة في تركيا التي تمتلك قطاعا خاصا منفتحا على العالم ومتكاملا معه، كما تمتلك الطبقة المتوسطة. وفي عهد تورجوت أوزال فُتحت المنافذ الحدودية بعد أن كانت مغلقة، وأصبح الاقتصاد منفتحا على العالم بعد أن كان منغلقا وبعيدا عن المنافسة وحكرا على الأغنياء. وبالتالي فقد اكتسب اقتصاد بلدنا دعم تجار الطبقة المتوسطة الذين كانوا يُلقبون بأسود الأناضول حيث كانوا يدعمون كل الأعمال الخيرية. وقد حدَّث أوزال كثيرا من القطاعات كالتعليم والصحة والاتصالات والدفاع. وكان كثير من الصحفيين القدماء قد اطلعوا على العالم الخارجي بفضل أوزال. وقد تعلم كثير من رجال الأعمال عملية التصدير عبر توجيهات أوزال وتشجيعه. وفي أيامه أُلغي احتكار الدولة للاتصالات وصار نصيب فيها لشتى أنواع الشركات. وارتفع إجمالي الصادرات إلى 151.8 مليار دولار في عام 2013 بعد أن كان 2.9 مليار دولار في 1980. وقد فتح البحر المتوسط للسياحة ما أدى إلى دخول كميات من النقد الأجنبي التي أسهمت في تمويل نمو الاقتصاد التركي. وهذه التغيرات كانت ناجمة عن وعي أوزال الذي أصبح زعيما إصلاحيا من خلال هذه الإجراءات. وبذلك أصبحت تركيا تستقبل 40 مليون سائح سنويا وترسل 10 ملايين سائح إلى خارج البلاد.
إن الدكتاتورية المنتخبة الموجودة بنسبة معينة في بلدنا، والتي تبذل جهودا جبارة لتدعيمها حالياً، حلم وخيال باهظ التكلفة بالنسبة لبلادنا. بسبب العوامل الداخلية والخارجية التي ذكرتُ بعضها في هذا المقال، فإنها مؤقتة وزائلة في تركيا ولا يمكن أن تستمر طويلاً.