ممتازار تركونه
قال رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان “إنهم بدأوا يهددونني أنا شخصيا وأفراد عائلتي”. هل يستطيع أحد أن يتصور أن رئيس الجمهورية بعظمته وسيطرته يتعرض للتهديد هو وأفراد عائلته، وهو من هو وسط موكب الحرس، مئات بل آلاف من رجال الشرطة المدربين تدريبا خاصا. وهو لايأكل ولايشرب إلا بعد فحص ما يأكله ويشربه ولا يخطو خطوة إلا بعد تفقد كل نقطة في مساره مرات عديدة.
هل صادفتم في يوم من الأيام موكب رئيس الجمهورية أثناء سيره في الشوارع؟ هناك سيارات الحراسة من أمامه ومن خلفه، وسيارة الإسعاف، ومن فوقه طائرة مروحية، إضافة إلى طابور من رجال الأمن منتشرين طوال طريق سيره ممتدا على مسافة كيلومترات. فها هو الشخص الذي يدعي أنه مهدد، مع أنه أهم شخصية في تركيا وأكثر شخص يحظى بعناية لامثيل لها لحراسته وحمايته، لأنه يشغل أعلى منصب في إدارة وتمثيل الدولة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] إن تركيا تعج بعلماء القانون والمختصين في الدستور والخبراء في العلوم السياسية. أليس من الظلم أن ندع مناقشة كبيرة مثل مناقشة نظام الحكم في البلاد للمؤهلات العلمية الموقرة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية الذي يحمل على عاتقه أصلًا الكثير من المسؤوليات وهو مشغول بأعمال جليلة وكثيرة؟[/box][/one_third]يصعب علينا تعداد جميع الوسائل والإجراءات التي تستخدم وتتخذ من أجل حماية رئيس الجمهورية أردوغان، بخلاف النظام الأمني القائم في القصر الرئاسي الجديد (القصر الأبيض). لكن ما نفهمه من كلامه أنه لايكفيه كل هذه الوسائل والإجراءات. فمن ذا الذي تسوِّل له نفسه تهديد رئيس الجمهورية بالرغم من كل هذه التدابير الأمنية؟ فإذا كان حتى فخامة رئيس الجمهورية نفسه وأفراد عائلته مهددا، لربما يتساءل الواحد منا قائلا ماذا إذن عن أمننا نحن المواطنين البسطاء في تركيا في حين يشتكي رئيس الجمهورية إلى عامة الشعب من التهديدات الموجهة له؟ لكن قد لايحق لنا أن نقول هذا، بل علينا أن نقول كما يقول الإنجليز في مثل هذه الحالات “God save the Queen” “فليحفظ الرب الملكة”.
لايمكن أن يكون رئيس الجمهورية هو المسؤول عن فقدان المنطق السليم في تركيا لأنه “لايسأل” وفقًا للدستور.
كتبت قبل ما يقرب من ثلاث سنوات سلسلة من المقالات حملت عنوان “مناقشات حول النظام الرئاسي”. وكان عمل لجنة صياغة الدستور يسير بشكل مثمر حتى خرج علينا رئيس الوزراء وقتها أردوغان بطرح “النظام الرئاسي” ليكون أساسًا للحكم، لينقلب كل شيء رأسًا على عقب. فأخذت على عاتقي مناقشة هذا الموضوع في مقالاتي نظرًا لخبرتي بشأن هذا الأمر بمقتضى عملي، وقارنت بين النظامين البرلماني والرئاسي، وخلصت إلى نتيجة مفادها: “من المؤكد أن هناك شيئًا لانعرفه: لاشك في أن النظام البرلماني أقوى من النظام الرئاسي نظرًا للتوافق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وما يترتب عليه من استقرار سياسي”.
عندما رأيت هذا المقال المناوئ للنظام الرئاسي فيما نشره الكاتب إيرول جوكا في تويتر إذ تناوله كمثال سيئ يقيس به مدى “فراستي وإخلاصي”، شعرت في أعماق نفسي بإحساس مدى ما وصل إليه البعد عن العقل السليم في تركيا. إذ رأيت أن هناك بعض أناس صاروا لاينتبهون حتى إلى الذخيرة التي يستخدمونها في الحرب، أي أنهم لايحسنون حتى قراءة وفهم المقال الذي يريدون أن يضربوا به خصومهم. فكيف لأحد أن يحمِّل رئيس الجمهورية مسؤولية هذه الظروف والأوضاع التي اختلط فيها الدخان بالغبار وحرم أغلب الناس الرؤية الصحيحة وعجزوا عن التفكير بالمنطق السليم وفشلوا في صيد ما يحلمون به من الصيد بسبب “المياه العكرة”؟
في الواقع، يختار رئيس الجمهورية أردوغان كلماته بعناية فائقة، وهو يقول: “علينا الفوز بـ 400 مقعد في البرلمان حتى يصير في استطاعة الحزب الذي يحكم إنجاز مفاوضات السلام مع الأكراد والنظام الرئاسي وتحقيق حلم تركيا الجديدة”.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]ألن يكون النظام الرئاسي الذي لاتراقِبه السلطة القضائية نظامًا خاصًا بتركيا في نهاية المطاف، وقد يصفها بعضهم بأنها “ديكتاتورية” في الواقع؟ وكيف ستكون وضعية جهاز القضاء في هذا النظام؟ طالعوا مرسوم المجلس الأعلى للقضاء! فهل هناك ضمانة لحماية القضاة في تركيا؟ فلو جرى ربط المحكمة الدستورية العليا كذلك بالنظام الهرمي، فهل سيبقى من السلطة القضائية غير اسمها؟[/box][/one_third]وهو بالضبط كما قال نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش، فهل يسمّي في كلامه حزبًا من الأحزاب بعينه؟ فهو لم يتلفّظ بأية عبارة تدل عن حديثه عن حزب العدالة والتنمية، أليس كذلك؟ وربما يكون هذا الحزب الذي يتحدث عنه رئيس الجمهورية هو الحزب الجمهوري في أمريكا أو الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا. وإذا اعترضتم وقلتم: “إن هذه البلدان ليست في مرحلة الانتخابات”، ولم لايكون ذلك الحزب الذي يقصده هو حزب الشعوب الديمقراطية. ولاتعترضوا على الفور لتقولوا: “ولكن مصطلح تركيا الجديدة أصبح علامة مميزة لحزب العدالة والتنمية“، بل اقرأوا كلمات أردوغان مرة ثانية. فهو لايطلب إطلاقا الحصول على 400 مقعد بالبرلمان، بل يقول: “يجب علينا أن نمنح 400 مقعد”. أي أنه يقول بلسان ظريف باستخدام صيغة الجمع ويعرب عن إرادته هو، أي إنه هو الذي “سيمنح”.
أضف إلى أن تركيا تعج بعلماء القانون والمختصين في الدستور والخبراء في العلوم السياسية. أليس من الظلم أن ندع مناقشة كبيرة مثل مناقشة نظام الحكم في البلاد للمؤهلات العلمية الموقرة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية الذي يحمل على عاتقه أصلًا الكثير من المسؤوليات وهو مشغول بأعمال جليلة وكثيرة؟
وقد كان محقا بمعنى الكلمة عندما قال: ” جاهل مَن يدعي أن النظام الرئاسي نظام دون رقيب أو حسيب”. فالنظام الرئاسي نظام يتمتع بالديمقراطية بقدر النظام البرلماني على أقل تقدير. بل إن مراقبة النظام البرلماني تعتبر أصعب من النظام الرئاسي لأنها تترك السلطتين التشريعية والتنفيذية إلى جهة واحدة. ويمكنني أن أقسم بصفتي مختصا في الموضوع: الأمر كذلك بالفعل، لكن…
يبدو أن أحدهم أخرج “السلطة القضائية” من بين سلطات الدولة في عالم الشخصية الوحيدة الذي يعيش فيه الرئيس أردوغان. ولن يبقى سوى السلطتين التشريعية والتنفيذية، وسيقوم البرلمان بـعملية مراقبة الرئيس”، بتعبيره الخاص. ألن يكون النظام الرئاسي الذي لاتراقِبه السلطة القضائية نظامًا خاصًا بتركيا في نهاية المطاف، وقد يصفها بعضهم بأنها “ديكتاتورية” في الواقع؟ وكيف ستكون وضعية جهاز القضاء في هذا النظام؟ طالعوا مرسوم المجلس الأعلى للقضاء! فهل هناك ضمانة لحماية القضاة في تركيا؟ فلو جرى ربط المحكمة الدستورية العليا كذلك بالنظام الهرمي، فهل سيبقى من السلطة القضائية غير اسمها؟
مختصر الكلام “فليحفظ الرب رئيس الجمهورية”! وليحفظ الله عز وجل صحة وسلامة عقولنا.. والسلام.