مصطفى أونال
كنتُ قد نوهتُ بأن رئيس الوزراء داود أوغلو التزم الصمت فيما يتعلق بالنظام الرئاسي. ولكنه كف عن السكوت وأخذ يخوض في النقاش، واضطر أخيرا لتأييد فكرة “النظام الرئاسي”. ولكن صوته لا يوحي بأنه صوت رئيس للوزراء بل هو صوت ضعيف. فواضح أنه غير مقتنع بما يقوله. وكلامه يشبه كلام شخص أكاديمي أكثر من كلام رجل السياسة.
صحيح أن داود أوغلو أيد النظام الرئاسي قولا ولكنه كان مجبرا على ذلك. ولم يكن أمامه خيار آخر. فله الحق في اعتراضه على وجهة نظر المعارضة إذ قال: “النظام الرئاسي لا يؤدي إلى الاستبداد” وكلامه صحيح. ولكن لا حاجة لإقامة النظام الرئاسي من أجل الاستبداد. فهو ممكن أن يحدث على أية حال، والوضع الراهن مثال على ذلك. وليس هناك نظام يعبر عن الوضع الراهن. فمبدأ الفصل بين السلطات والنظام البرلماني واستقلالية القضاء وعدم انحياز الرئيس… ليست كل ذلك إلا حبرا على ورق. والوضع الفعلي كارثة بكل معنى الكلمة. فالدستور معطل. والقانون يحتضر، وعلى وشك الموت، والقصر يمارس من الصلاحيات ما يفوق صلاحيات النظام الرئاسي أصلا. وإن خطاب أردوغان ليس موجها للجماهير فحسب بل هو تلخيص للوضع الراهن. في حين أن داود أوغلو مضطر أن يسأل ساكن القصر عن رأيه في المرشحين لعضوية البرلمان. ونحن نعلم أنه سأل عن رأيه في بعض منهم.
وهل يمكن أن يحدث ما حدث لبنك آسيا في أي نظام في الظروف العادية؟ وهذه المداهمة موضوع الساعة منذ يومين. ولم يستطع وزير الدولة المسؤول عن الشؤون الاقتصادية علي باباجان الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بمداهمة البنك. وهو التقى بالصحفيين فور وقوع الحدث ولكنه لم يجد ما يقوله. فالسكوت لا يُنقذه ولا يساعده للهروب عن المسؤولية لا من حيث السياسة ولا أمام التاريخ.
لقد كان باباجان وزيرا ناجحا. فقبل عدة أيام من وداعه لحياته السياسية نالت سمعته ومكانته المعتبرة ضربة قاسية بسبب قرار المداهمة على بنك آسيا. وسيذكَر مستقبلا على أنه “الوزير الذي لم يمنع الظلم وانتهاك الحقوق”.
من الواضح أن هذا القرار سياسي وليس له أي مستند قانوني أو اقتصادي. بل هو انتهاك للقانون. مؤسسة رقابة البنوك مستقلة بنص القانون، ولكنها خاضعة لرقابة حزب العدالة والتنمية في الواقع. فهي كالحديقة الخلفية للحزب الحاكم. ففيها أعضاء مرشحون لممارسة السياسة في حزب العدالة والتنمية وبعضهم كانوا عضوا فيه من قبل. فهم على نهج الحكومة تماما. وسجل أعمالهم معلوم لدى الجميع.
لا يزال بنك آسيا مستهدفا منذ عدة شهور من قبل الحكومة والإعلام الموالي لها. فأقوال الساسة التي تمس سمعة البنك جريمة. وما ينشره الإعلام الموالي ما يخص البنك أيضا جريمة. فالحديث أو الكتابة عن الأمور المصرفية يستوجب توخي الدقة والحذر. فلا يمكن لأحد أن يتفوه بكلما يخطر بباله. ورغم ذلك لم يتركوا كلاما إلا قالوه، ولا كذبة إلا كتبوها.
ولم تحرك مؤسسة رقابة البنوك ساكنا في الوقت الذي كان عليها أن تتدخل في الأمر. فلم تطالب المؤسسة المتكلمين ولا الكتّاب فيما يخص بأحد البنوك بالكف عن الكذب. ولم تطبق القانون المصرفي. وأصلا سجلها غير نزيه فيما يتعلق ببنك آسيا. فقد سيطرت على إدراة البنك منذ يومين بحجج واهية. فالحكومة أمرت وهي نفذت. وليس هناك أي مسوغ. والمواد القانونية التي ذكرتها كحجة لفعلته لا تستدعي الحجز.
جاءت تصريحات من الرئيس المؤسس لمؤسسة رقابة البنوك زكريا تميزال، حيث قال: “إن اتخاذ قرار المداهمة لعدم التوصل بالمستندات أو تأخر المعنيين في تسليمها لا يمكن إيضاحها منطقيا”. إنني لم أصادف أي خبير اقتصادي يؤيد هذا القرار باستثناء القائمين على الإعلام الموالي للحكومة. لأنهم مستعدون للتصفيق لأي قرار يأتيهم من “الأعلى”. منشوراتهم في هذا الموضوع أيضا لا تختلف عن بعضهم البعض. فهم كمشجعي فرق كرة القدم الذين يقومون معا ويهتفون معا بصوت واحد “الهدف” “GOAAAL”.
واليوم ثمة انتهاك للقانون وغصب للصلاحيات في بنك آسيا. وكما عبرت رسم الكاريكاتير المنشور في إحدى الصحف أمس (YENİ ASYA) أمس فإن مبنى بنك آسيا موضوع في قفص .. وهي مستلهمة من عملية حرق الطيار الأردني وهو حي من قبل داعش. حيث إن أحدا ما يضرم النار. والحزب الحاكم لا يخفي استهدافها لبنك آسيا. وكل شيء واضح. والهدف النهائي هو الإستيلاء على بنك آسيا من خلال إحداث خوف وهلع لدى زبنائه حتى يسحبوا إيداعاتهم منه.
ولكن الوصول إلى الهدف ليس بأمر هين. فالبنك عاش هذه التجربة من قبل. والشعب انسالوا إلى فروع البنك في جميع أنحاء تركيا ولكن من أجل إيداع مزيد من الأموال وليس من أجل أن يسحبوا ما فيها من أموالهم كما كان يتوقع الذين يريدون إفلاسه. إن هذا المشهد سيدخل تاريخ الاقتصاد. ولا شك أن بنك آسيا سيكون موضوع أطروحات الدكتوراه في المستقبل.
ولن يتخلص حزب العدالة والتنمية ولا مؤسسة رقابة البنوك ولا صندوق تأمين ودائع المدخرات من مسؤولية هذه المظالم وانتهاكات القانون التي ارتكبوها. ولا يمكن لهذه المنظومة العجيبة أن تستمر إلى ما لا نهاية وهي تعطل الدستور ولا تأبه بالقانون. بل ستكون لها نهاية. ولا بد أن تعود المياه إلى مجاريها في نهاية المطاف، ليعود العمل بالقانون والالتزام بالقواعد. ولا بد أن تكلفة فاتورة بنك آسيا ستكون باهظة الثمن كثيرا.