بروكسل (زمان التركية) – نشر موقع يورونيوز مقالة عن مستقبل العلاقات التركية الالمانية والمأزق الذي يعيشه الغرب في تعامله مع تركيا، وقد كتب المقالة الكاتب والصحفي المتخصص في العلاقات الدولية أوليفر هارتويش، وقد جاء في المقال:
لقد أصبحت ألمانيا التي تضم أكبر عدد من السكان الأتراك خارج تركيا، مركزا لسياسة الخارجية التركية،حيث تنظر الحكومة التركية إلى الشتات التركي في ألمانيا كجزء من دائرة الانتخابات الوطنية الممتدة، وتاريخيا فقد أدى موقف الحزب الحاكم التركي إلى تأجيج التوترات، داخل ألمانيا ، خاصة عندما تضمنت الحملات الانتخابية في ألمانيا مسيرات واسعة النطاق وخطابات متطرفة. وبينما يزور أردوغان ألمانيا هذا الأسبوع للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات، فقد أصبحت الأجواء أكثر توتراً بشكل واضح مقارنة باللقاءات السابقة. ويعد جوهر التوتر المتصاعد في العلاقات التركية الألمانية هو الحرب المستمرة في غزة، حيث تتبنى ألمانيا وتركيا مواقف متعارضة بشكل صارخ، فبينما تتضامن ألمانيا مع إسرائيل، كما عبرت عنه المستشارة أنجيلا ميركل وأكده مؤخرًا نائب المستشار روبرت هابيك.
فالحكومة التركية تتبنى وجهة نظر مختلفة تماما حيث تدعم الحكومة التركية القضية الفلسطينية حيث أشاد مؤخرا بحماس ووصفها بأنها ليست منظمة إرهابية ولكنها “تقاتل من أجل الحرية” وأدان إسرائيل بخطاب عنيف، ويسلط الخلاف القوي حول حرب غزة الضوء على الهوة الأيديولوجية العميقة بين البلدين. ولكن على الرغم من هذه الخلافات العميقة الجذور، فإن زيارة الرئيس التركي سوف تستمر، وإن كان ذلك تحت وطأة تدابير أمنية صارمة، واحتجاجات واسعة النطاق، وتدقيق إعلامي مكثف، وبالتالي فإن هذه الزيارة بعيدة كل البعد عن كونها شكلية دبلوماسية، حيث يلعب الرئيس التركي دورًا في الصورة الأكبر لعلاقة ألمانيا المعقدة مع تركيا وتوازن القوى المتغير بين أوروبا وبقية العالم.
ومن جهة أخرى فإنه يتعين على ألمانيا أن تتعامل مع تركيا بغض النظر عن مدى صعوبة ذلك، لأسباب ليس أقلها أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، حيث انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي في عام 1952 عندما كانت دولة علمانية ذات توجهات غربية، وحتى في ظل التغيرات الجذرية في الحكم، لا يستطيع حلف شمال الأطلسي أن يطرد أعضائه، ونظراً لأهمية تركيا الاستراتيجية في الشرق الأوسط، فإن الحلف لن يقدم على مثل تلك الخطوة حتى لو استطاع ذلك، فعلاقات تركيا مع اللاعبين المحوريين مثل أوكرانيا وروسيا وإيران تجعلها محاوراً جيوسياسياً حاسماً، ولا يمكن لأي عضو آخر في حلف شمال الأطلسي أن يتجاهل ذلك، وعلى كل فإن هناك سبب ألماني محدد لمواصلة المحادثة مع الرئيس التركي بغض النظر عن مدى صعوبته تلك المحادثات، وذلك لما يتمتع به الرئيس التركي من نفوذ على الجالية التركية في ألمانيا، ولا سيما من خلال مؤسسة DITIB وهي منظمة مسجدية شاملة تشرف على أكثر من 900 جمعية ومسجد تركي سني تابع لها في جميع أنحاء ألمانيا، حيث تعمل المؤسسة كقناة أيديولوجية يقوم من خلالها الحزب الحاكم التركي بنشر أجندته القومية بين الأتراك الألمان، ويثير هذا التأثير مخاوف بشأن التكامل والاستقلال الثقافي ونفوذ الحكومات الأجنبية داخل ألمانيا. وتسلط الجهود التي تبذلها الحكومة الألمانية لمواجهة هذا النفوذ الضوء على التحدي الأوروبي الأوسع المتمثل في إدارة التأثيرات الثقافية والسياسية الخارجية.
والجدير بالذكر أن زيارة الرئيس التركي لألمانيا تأتي في ظل تراجع الديمقراطية في تركيا، حيث شهدت تركيا حملة قمع على الحريات المدنية وحرية الصحافة والسلطة القضائية، وتم سجن الآلاف، وكانت ألمانيا تنتقد بشدة هذا الابتعاد عن الديمقراطية، كما أنه و على مر السنين، تم اعتقال عدد من المواطنين الألمان (بما في ذلك الصحفي البارز دنيز يوجيل) في تركيا لأسباب سياسية، مما تسبب في أزمات دبلوماسية. ومن العناصر المحورية الأخرى في العلاقة الألمانية التركية دور أردوغان في إدارة تدفقات اللاجئين السوريين والأفغان وغيرهم إلى دول الإتحاد الأوروبي، الأمر الذي يمنح الرئيس التركي نفوذًا كبيرًا على الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا.
وخلال أزمة اللجوء إلى أوروبا عام 2015 فهمت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل بالطريقة الصعبة أن أردوغان كان لديه القدرة على تخفيف أو تجفيف موجات اللاجئين إلى أوروبا، وهو ما تبعه اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا للحد من الهجرة مقابل أموال طائلة تُدفَع لأنقرة، وتؤكد قدرة تركيا على التأثير على تدفقات الهجرة هذه الطبيعة المحفوفة بالمخاطر لاعتماد أوروبا على الخارج لضمان أمنها الداخلي واستقرارها الاجتماعي، ومن ثم فإن تعامل ألمانيا مع تركيا في عهد الحزب الحاكم يشكل حالة كلاسيكية من السياسة الواقعية. وعلى الرغم من الفجوة الأيديولوجية، تدرك برلين ضرورة الحفاظ على علاقة عمل مع أنقرة، ليس لأن ألمانيا تريد ذلك، و ليس لأن أي شخص في السياسة الألمانية يحمل أي تعاطف كبير مع الرئيس التركي ولكن ببساطة لأن ألمانيا يجب أن تفعل ذلك وفي أحسن الأحوال، يمكن للمرء أن يطلق على هذا اسم “البراغماتية” .
وبهذا المعنى تأتي زيارة أردوغان في وقت حيث أصبح نفوذ أوروبا المتضائل واضحا بالكامل، ولم تعد أوروبا تلعب أي دور في الشرق الأوسط بعد الآن، فهي لا تمتلك القوة العسكرية أو الوحدة السياسية اللازمة لإحداث تغيير حاسم فيما يحدث في الشرق الأوسط، بل إن تركيا ورغم ما تمر به من وضع اقتصادي صعب تتمتع اليوم بنفوذ على الساحة العالمية أكبر من نفوذ الاتحاد الأوروبي، وتدفع زيارة أردوغان ألمانيا إلى حسابات غير مريحة مع حقائق النظام الناشئ المتعدد الأقطاب. فمن ناحية، هناك القيم الديمقراطية الليبرالية التي لا تزال ألمانيا تدعي أنها تدافع عنها. ومن ناحية أخرى، هناك ضرورات السياسة الواقعية المتمثلة في التعامل مع جميع الدول بغض النظر عن تبنيها للقيم الغربية أم لا ، وبالطبع سوف يشجب البعض في ألمانيا مثل هذه التنازلات باعتبارها خيانة للمبادئ ، ولكن المثل العليا التي لا تضبطها الواقعية تشكل ترفاً لم تعد ألمانيا وأوروبا الأضعف قادرتين على تحمله.
وما يمكننا قوله في نهاية المقال: إن علاقة ألمانيا مع تركيا علاقة معقدة، وهي علاقة تمثل نموذجًا مصغّرًا للتحدي الأعظم الذي يواجه الغرب الآن وعلى مدى العقود المقبلة.