بقلم: ياوز أجار *
٢. السيناريو الصدامي
يرى بعض المحللين أن اللجوء إلى إعلان “الخلافة” أو تشكيل محور جديد لقيادة العالم الإسلامي، ولو تحت مسميات أخرى، لخفض ردود الفعل المحتملة، بين خيارات وأوراق أردوغان في الولاية الثالثة، بعد التذبذب بين المحورين الغربي والشرقي خلال الفترة الأولى والثانية من حكمه.
الإحباط في نيل هوية الاتحاد الأوروبي، رغم تنفيذه المعايير الأوروبية في العقد الأول من حكمه، قبل ظهور نزعته القمعية اعتبارا من عقده الثاني، قد يدفع أردوغان إلى البحــث عــن هويــة جديدة ومكانـة إقليميــة في محيطها الإسـلامي الذي يضم ثلاث مجالات حيويـة جيوســـتراتيجية، وهي البلقان، وآســـيا الوسطى والقوقاز، والشرق الأوسط، بعيدًا عن أي من التكتل الغربي بقيادة واشنطن وبروكسل، والتكتل الشرقي بقيادة موسكو وبكين.
اتهمت العديد من الأحزاب التركية ذات التوجه العلماني أردوغانَ بامتلاك أجندة إسلامية خفية حتى قبل توليه السلطة في عام ٢٠٠٢. وتفاديا لمواجهة هذا النوع من الاتهامات، ضمّ أردوغان أسماء ديمقراطية وليبرالية إلى صفوف حزبه خلال العقد الأول من حكمه، وطاف العواصم الغربية لطمئنة القلقين من هذا الاحتمال. لكنه بالتزامن مع ظهور فضائح الفساد والرشوة التي طالت حكومته في عام ٢٠١٣، حوّل مساره من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الصين وروسيا في الخارج، وتخلص في الداخل من جميع الديمقراطيين والليبراليين الذين أطلق مشواره السياسي معهم، في خطوة دلَّت على صحة مخاوف تلك الأطراف العلمانية.
يرى الباحث والمحلل السياسي التركي “سعيد صفاء” أن الهدف النهائي لأردوغان، الذي يضع خططه موضع التنفيذ وفقًا لتقويم معين، هو إعلان “الخلافة”. إلا أن هناك عددًا لا يستهان به من الباحثين ينبهون على أن أردوغان ليس ساذجًا لدرجة اتخاذ مثل هذه الخطوة ومواجهة جميع دول المنطقة والعالم. يمكن أن نقول، في ضوء شخصية أردوغان البراغماتية، إن إعادة بناء إمبراطورية الخلافة ليست “هدفًا ساميًا” لأردوغان، بل هي “أداة”، مثل الأدوات والوسائل السياسية الأخرى التي يستخدمها لكسب السلطة والنفوذ في الداخل والمنطقة والعالم، ويمكن أن يقدم على هذه الخطوة بصورة تدريجية إذا سمحت الظروف. حتى لو لم يتخذ هذه الخطوة، فإنه لن يتخلى بسهولة عن توظيف الرموز والمفاهيم والخطابات التي تشكلت حول الخلافة الإسلامية طيلة التاريخ وتحويلها إلى طاقة تخلق له التأثير والنفوذ السياسي في تركيا والعالم العربي والإسلامي.
ولا بد أن نذكر في هذا السياق أيضًا أن أردوغان يمكن أن يتجه إلى تأسيسِ هيكل سياسي يطلق عليه أسماء “ناعمة” من قَبيل “اتحاد الملل العثمانية” أو “الاتحاد الإسلامي”، على أن يقوم بالمهمة ذاتها التي يفترض أن تقوم بها مؤسسة الخلافة، من أجل تقليل ردود الفعل المحتملة من المنطقة والعالم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، تكليفِ الوسائل الإعلامية المختلفة، بما فيها السينما، بنشر دعاية موجهة إلى قاعدته الشعبية في تركيا والعالم الإسلامي مفادها أن هذا الهيكل الجديد هو الخلافة الإسلامية التي يحلمون بعودتها منذ قرن كامل!
يتفق معظم المحللين الدوليين والعرب، ممن يلتزمون معايير البحث العلمي، على أن محادثات التطبيع التي بدأها أردوغان مع دول المنطقة في عام ٢٠٢٢ ما هي إلا خطوة “تكتيكية” مؤقتة لا تقوم على “إستراتيجية” راسخة. وعلى الرغم من أنه يبدو أنه أخذ استراحة من استخدام الخطاب الإسلامي في الآونة الأخيرة، إلا أن هناك مخاوف جدية من أن يعود إلى نفس الأجندة السياسية ويستمر من حيث توقف بعد حل المشاكل الاقتصادية. وقد طفح هذا الطابع المتجذر في نفسية أردوغان إلى السطح بالتوازي مع صعود حركة طالبان في أفغانستان من جديد. ويؤكد هؤلاء المحللون أن خطوات التطبيع نتيجةٌ فرضتها على أردوغان ظروف المرحلة بدلًا من تغيير أيديولوجي في منظومته الفكرية والاعتقادية الكاملة، وذلك بدليل أنه لم يتجه في السياسة الداخلية إلى تطبيع مشابه لما في السياسة الخارجية. فوق ذلك، فليس من المستبعد أن يستغل أردوغان فترة الهدوء والرخاوة في العلاقات مع دول المنطقة كفرصة سانحة لزيادة تعزيز علاقاته مع الجماعات الإسلامية الراديكالية التي يشترك معها في نفس الأيديولوجية في طول العالم الإسلامي وعرضه. في ظل هذا الواقع ستخضع مصداقية أردوغان لاختبار دائم من قبل دول المنطقة والعالم.
والعامل الآخر الذي قد يدفع أردوغان إلى إعلان الخلافة رغبته في تحويل هذه المؤسسة إلى وسيلة لرصّ صوف المحافظين والإسلاميين، وتصفية حساباته المؤجلة مع العلمانيين بأي ذريعة كانت. والغرض من ذلك ليس تحقيق أهداف سامية، كما سبق أن قلت، وإنما السعي لضمان استمرارية نظامه على أية حال. لذا يمكن أن يوظف أردوغان الخلافة في جمع المسلمين حوله، ومن ثم أن يعلن عن حرب شاملة ضد خصومه تنتهي باعتقال رموز الأحزاب والشخصيات العلمانية المعروفة في تركيا، ومصادرة ممتلكات أكبر الشركات التقليدية، كمجموعة “كوتش” وأشباهها من الشركات المملوكة لرجال أعمال معروفين بتوجهاتهم العلمانية، على غرار ما فعل بحركة الخدمة بذريعة الانقلاب المزعوم في ٢٠١٦.
ولا يخفى أن دول المنطقة، خصوصًا مصر، لا تزال تلتزم الحيطة والحذر في شأن توجه أردوغان لتطبيع علاقاته مع جيرانه، بل تنظر إليه بقلق. ومصدر هذا القلق، بالإضافة إلى الأسباب المذكورة أعلاه، هو أردوغان نفسه؛ لأنه أصبح “زعيمًا غير موثوق به” حتى في عيون أصدقائه قبل أعدائه، بعدما بدأ يرسم صورة زعيم سياسي تتغير قائمة أصدقائه وأعدائه وفقا للرياح العاصفة، وتنقلب مواقفه “المبدئية” رأسًا على عقب بين ليلة وضحاها، ويتخذ مواقف متناقضة في كل قضية تقريبا بموجب المصالح التي سيحصل عليها أو التهديدات التي سيواجهها.
كما أنه من المرجح أن أردوغان لن يرضى بسهولة بالتنازل كليا عن ورقة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وإن قدم تنازلات “محدودة” في محادثاته السابقة مع مصر، بل سيواصل استخدام هذه المجموعة وما شاكلها مثل “الذراع الطولى” في العالمين العربي والإسلامي.
يلاحظ المراقبون أن الاقتصاد هو العقبة الوحيدة التي تقف اليوم في طريق مواصلة أردوغان للمغامرات التي خاض في غمارها بالعالم العربي والإسلامي من خلال العمليات الاقتصادية والعسكرية. بعبارة أخرى، إن الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها تركيا منذ ٣ سنوات خصوصًا هي التي دفعت أردوغان إلى التظاهر بأنه تراجع عن أحلامه في “الخلافة” أو “قيادة العالم الإسلامي” بأي شكل من الأشكال. لذلك لن تبقى هناك أي عقبة أمام العودة إلى تحقيق أحلامه إذا نجح في إصلاح اقتصاد بلاده.
أردوغان وأدبيات الخلافة
وكان من بين المبشرين بالخليفة أردوغان، سعاد أونال، عضو مجلس إدارة حزب العدالة والتنمية في بلدة “أفلر” بمدينة آيدين، قال عبر حسابه على فيسبوك في عام ٢٠١٧، حيث قال: إن أردوغان سيكون الخليفة بحلول عام ٢٠٢٣. والله سيتم نوره”، على حد تعبيره. لكنه اضطر إلى الاستقالة من منصبه في أعقاب ردود فعل واسعة على تصريحاته، خاصة من قبل حزب الشعب الجمهوري ذي التوجه العلماني.
ويرى مسلم جوندوز، زعيم “مجموعة عجزي مندي” الإسلامية أن أردوغان يحضّر تركيا للخلافة الإسلامية، إذ قال: “هذه الدولة التي تسمى تركيا في الوقت الراهن سيطلق عليها لاحقًا اسم الخلافة المحمدية. لذلك يجب أن ننتظر حتى يأتي الشخص الذي سيؤسس هذه الخلافة. أنا لا أرى ذلك بعيدًا جدًا، بل سيتحقق بعد أردوغان. إنه يضع اليوم أسس هذه الخلافة، سواء علم بذلك أم لا. الأيام الجميلة تلوح في الأفق بإذن الله. إعلان الخلافة المحمدية أمر ضروري”.
وعلى نفس المنوال، فإن عبد الرحمن ديليباك، الكاتب الصحفي ذي التوجه الإسلامي من صحيفة “يني عقد”، صرح خلال مؤتمر حضره في كندا عام ٢٠١٧، أن الخلافة سيتم تفعيلها مرة أخرى، وأن الرئيس أردوغان سيصبح “خليفة” إذا انتخب رئيساً، وأنه سيتم إنشاء ممثليات للدول الإسلامية في قصر أردوغان المكون من أكثر من ألف غرفة لتعمل مع دولة الخلافة. ثم تابع قائلا: “سلطة الخلافة انتقلت إلى عهدة البرلمان التركي. والحكومة الحالية تقوم بما يحب عليها في هذا الصدد. وبعد الانتقال إلى النظام الرئاسي، فمن المحتمل أن يعين أردوغان مستشارين له يتعاملون مع جميع الدول والمناطق الإسلامية التابعة للخلافة. وسيتم تخصيص مكاتب لممثليات هذا الاتحاد الإسلامي في ١٠٠٥ غرفة من غرف القصر الرئاسي”.
كما أن مجلة “جرشك حياة” الأسبوعية التابعة لصحيفة “يني شفق” المملوكة لمجموعة “ألبيرق”، دعت إلى إعلان الخلافة في ٢٧ يوليو ٢٠٢٠. وكتبت على غلافها “إن لم يكن الآن فمتى؟ إن لم تكن أنت فمن؟ اجتمعوا من أجل الخلافة”. كما أعادت المجلة للأذهان تحويل متحف “آياصوفيا” إلى مسجد مجددا، وكتبت على غلافها “كلٌّ مِنْ آياصوفيا وتركيا حرٌّ الآن”.
كذلك دعت صحيفة “يني عقد” أيضًا إلى إحياء الخلافة في ٢٢ مارس ٢٠٢١ حين قالت: “إذا أراد البرلمان يمكنه إحياء الخلافة”. ومن ثم نقلت عن الأستاذ الدكتور أحمد آغيركشا آراءه حول الموضوع. ذكر آغيركشا للصحيفة أن المسلمين في تركيا واجهوا صعوبات كبيرة في فترة الحزب الواحد (في ظل حكم حزب الشعب الجمهوري ربع قرن من الزمن)، وأن إلغاء الخلافة، واستبدال الحروف العربية باللاتينية، وفرض ارتداء القبعات على المسلمين، وقراءة الأذان باللغة التركية بدلًا من العربية، أحدث صدمة في البلاد. وأكدت الصحيفة أن الشيء الوحيد الذي سيجمع العالم الإسلامي هو “الخلافة”، واقتبست الصحيفة من آغيركشا قوله: “الأمة ستتحد حول الخلافة خلال وقت قصير. لم يتم إلغاء الخلافة أصلًا، بل انتقلت إلى مجلس الأمة، ويمكن للمجلس مراجعة القرار وإعادة الخلافة. إنه قرار يمكن اتخاذه خلال ١٥ دقيقة”، على حد تعبيره.
منظمات تدعو لإحياء الخلافة
إلى جانب هذه الدعوات الفردية، هناك العديد من المؤسسات والمنظمات التي تقيم مؤتمرات وندوات للترويج لفكرة إحياء الخلافة، تحت إشراف مستشاري أردوغان. فقد أسس المستشار العسكري الأعلى لأردوغان سابقًا عدنان تانري فردي، مع مجموعة من العسكريين القدامى، مركزَ الدراسات الاستراتيجية للمدافعين عن العدالة (ASSAM) في ٢٠١٢، ليكون العقل المدبر أو الأب الروحي لشركة “صادات” الأمنية التي أسسها لاحقًا على غرار شركة “بلاك ووتر” الأمريكية، و”فاغنر” الروسية. ثم بدأ المركز يقيم مؤتمرات محلية ودولية تناقش قضايا تخصّ تأسيس اتحاد إسلامي عالمي أو إحياء الخلافة الإسلامية، من جانب؛ وأخذت شركة صادات تدرب رسميا قوات إنفاذ القانون، أي القوات الأمنية والعسكرية في العالم الإسلامي، على الحرب غير النظامية، خصوصًا في قطر والسودان وتونس وليبيا والجزائر والعراق وسوريا من جانب آخر. كما قامت الشركة، بشكل غير رسمي، بتدريب مجموعات إسلامية جهادية على عمليات المداهمة والقنص وغلق الطرق والتخريب والإنقاذ والخطف، والعلوم الاستخباراتية، وحرب العصابات، وعمليات القوات الخاصة، والحروب النفسية، والعمليات البرية…الخ. ولا شك في أن هدف هذه الخطوة كان إنشاء جيوش موازية لـ”الجيوش النظامية” في العالم العربي والإسلامي، وتوظيفها في إسقاط الأنظمة الحاكمة وتأسيس جمهوريات إسلامية تابعة لدولة الخلافة المزعومة، عاصمتها إسطنبول، وزعيمها أردوغان، كما رأينا في مصر وتونس وسوريا وليبيا وغيرها أثناء وبعد أحداث ما سمي بثورات “الربيع العربي”.
وفي إطار هذه الفعاليات، عقد مستشارو أردوغان ندوة موسعة يومي ١ و٣ من نوفمبر ٢٠١٨ في فندق “واو” قرب مطار أتاتورك في مدينة إسطنبول، بغية تطوير فكرة “الوحدة الإسلامية” التي يرغبون في تحقيقها بعد فوز أردوغان بانتخابات ٢٠٢٣، على حد تعبيرهم. ومن اللافت أن مؤسسات رسمية، كالخطوط الجوية التركية، وبنكي “وقف” و”الزراعة” الحكوميين، قامت بدفع مصاريف ونفقات الضيوف القادمين من ٢٨ دولة في العالم للمشاركة في الندوة، بما في ذلك روسيا والهند والبوسنة والهرسك والمملكة العربية السعودية ومصر والسودان ونيجيريا وماليزيا وكازاخستان. وجاء في البيان الذي نشروه في أعقاب ختام أعمال الندوة التي استمرت ثلاثة أيام أن الهدف الرئيسي هو إنشاء “قوة إسلامية عظمى” تتكون من ٦٠ دولة، و١.٦ مليار مسلم، وتمتلك نحو ١٢.٨٪ من إجمالي أراضي العالم، وتسيطر على ٥٥.٥٪ من احتياطيات النفط في العالم، و٦٤.١٪ من موارد الغاز الطبيعي.
وزعم المتحدثون خلال أعمال الندوة أن هناك حربًا عالمية ثالثة مستمرة وغير معلنة ضد الدول الإسلامية، وأن رابطة الدول المستقلة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا، تحاول السيطرة على العالم الإسلامي من خلال الجماعات الإرهابية.
في حين ادعى تانري فردي أن إسرائيل تأسست باعتبارها حامية حدودية للمسيحيين في قلب العالم الإسلامي كجزء من الحروب الصليبية. بينما شبّه نور الدين نبطي، وزير الخزانة والمالية السابق، أردوغانَ بـ”الإمام (المئذنة أو رأس السبحة) الذي يجمع خرزات المسبحة حول نفسه”، ثم بين قائلا: “أردوغان هو الزعيم الموعود والمنتظر لتوحيد الملل والأمم الإسلامية”. وتابع نبطي أن الأمة التركية وجميع المسلمين في العالم، الذين يعانون من حالة اضطراب، قد عهدوا إلى أردوغان مهمة الإمامة/القيادة، وأنه لا يمكن هزيمته أبدًا؛ نظرا لأنه يحظى بنصر الله تعالى وتأييده، على حد قوله.
وكانت مجموعة من الشخصيات الإسلامية المعروفة من بين المشاركين في الندوة، وعلى رأسهم الشيخان علي محيي الدين القره داغي ويوسف القرضاوي من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المعروف دوليا. وقد أفرد القرضاوي مكانة خاصة لأردوغان في خطابه، وأشاد به باعتباره “زعيم الأمة الإسلامية”، وطلب من الجميع دعمه والدعاء له.
وأفاد تانري فردي أنهم ناقشوا في الندوة مبادئ الهياكل الإدارية في العالم الإسلامي، وطرحوا فكرة إنشاء سوق اقتصادية مشتركة بين جميع الدول الإسلامية، وأن جدول أعمال العام المقبل (٢٠١٩) سيتضمن نقاش تحسين التعاون في صناعة الدفاع، وفي عام ٢٠٢٠، سيتبادل المشاركون الأفكار حول عقيدة دفاع مشتركة في محاولة لتحديد مبادئ سياسات الدفاع المشتركة للعالم الإسلامي، وفي عام ٢٠٢١ سيناقشون كيفية إنشاء سياسة خارجية مشتركة، وفي العامين المقبلين (٢٠٢٢ و٢٠٢٣)، سيدرسون النظام القضائي المشترك ومجالات إنفاذ القانون المشتركة.
وفي إطار رده على سؤال عمّا إذا كان هدف شركة “صادات” هو إحياء الخلافة، قال رئيس مجلس إدارة الشركة مليح تانري فيردي في بيان أدلى به في مايو ٢٠٢٠: “إن مركز البحوث الاستراتيجية للمدافعين عن العدالة هو منظمة غير حكومية. وهو يقترح اتحاد الدول الإسلامية. إذا شكلت الدول الإسلامية اتحادًا على غرار الاتحاد الأوروبي، ألا ترغبون أن تكون تركيا عاصمة هذا الاتحاد؟ أقول إن الدول الإسلامية يجب أن تشكل اتحادًا. لماذا يزعجكم هذا؟ أقول إن المسلمين يجب أن يشكلوا اتحادًا شبيهًا بالاتحاد الأوروبي. رئيس الاتحاد الأوروبي يتنقل بين الدول الأوروبية، فهل تعتقدون أن الاتحاد الأوروبي يكسب صفة الخلافة بسبب ذلك؟”.
من جانبه، حاول أردوغان ترسيخ صورة “الخليفة” و”الخلافة” في الأذهان من خلال تحويل متحف آياصوفيا للعبادة مرة أخرى في يوليو ٢٠٢١، بمشاركة شخصيات مهمة من العالم الإسلامي والعربي.
صادات: جيش أردوغان الموازي
في مقال نشرته صحيفة “ترك سولو” (اليسار التركي) في ١٦ مايو ٢٠٢٢، قدم الكاتب الصحفي أوزان بكُّوز تحليلًا لافتًا ادعى فيه أن رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو هو الزعيم الأيديولوجي لشركة صادات. وأضاف: “لقد تبين من خلال تصريحات أردوغان في السنوات الماضية أنه يفكر إنشاء جيش شبه عسكري يتكون من شباب مغفلين تورطوا في أعمال إجرامية، مثل منظمة “العمليات الخاصة الشعبية” و”فدائيي الدولة التركية” و”حركة البقاء الوطنية” وجمعية “الموقد التركي” (العثماني) المرتبط بمنظمة “الذئاب الرمادية” القومية المتطرفة، وجمعية “شباب حزب العدالة والتنمية” في الداخل التركي، بالإضافة إلى “اتحاد الديمقراطيين الأوروبيين الأتراك” ومنظمة “عثمانيي جرمانيا” في ألمانيا، والتشكيلات والمجموعات الجهادية التابعة للمعارضة السورية التي دربتها حكومة حزب العدالة والتنمية. وقد كوّن أردوغان قوة مرموقة بالفعل من هذه المليشيات شبه المسلحة. لكن يبدو أن أردوغان لم يكتفِ بهذه القوة فبادر إلى إضافة دماء جديدة إليها بتجنيد ميلشيات في كل من أفغانستان وباكستان. ليست شركة صادات في الحقيقة سوى الجناح العسكري لرؤية داود أوغلو التي تجسدت في كتابه “العمق الإستراتيجي”. فهذه الشركة بمثابة نواة عسكرية لإمبراطورية الخلافة التي رسم معالمها داود أوغلو. وكل من أخذ دورا في تأسيس هذه الشركة هو من طلاب داود أوغلو من قريب أو بعيد. ومنطقة نشاط هذه الشركة هي العمق الإستراتيجي أو ما يسمى بـ”جغرافيا الخلافة”.
يتابع بكُّوز بأن بناء المساجد في أنحاء مختلفة من العالم من قبل هيئة الشؤون الدينية و”وقف ديانت” من الوسائل التي تخدم فكرة الخلافة هذه، ثم يقدم مسجد الإمام السرخسي المركزي في قيرغيزستان مثالًا على ذلك. فهو أكبر مسجد في آسيا الوسطى وبني بأمر من أردوغان، بتكلفة بلغت ٣٥ مليون دولار، فضلًا عن مسجد “كامبريدج” المركزي الذي تلا أردوغان فيه القرآن عند افتتاحه، والذي يعد أول مسجد بني لهذا الغرض في مدينة كامبريدج بإنجلترا، بتكلفة بلغت ٣٠ مليون دولار، وبحسب وكالة رويترز للأنباء.
لا توجد أي قارة في العالم، بدءًا من الولايات المتحدة وانتهاءً إلى روسيا، ومن هايتي إلى الفلبين، ومن فلسطين إلى البلقان، ومن كازاخستان إلى جيبوتي، إلا وصلت إليها مشاريع “وقف ديانت”، التي تتمثل في بناء مساجد وترميمها وافتتاح مؤسسات تعليمية، والقيام بأعمال البنية التحتية لتلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمعات المسلمة. ومما لا شك فيه أن أردوغان يستخدم هذا الوقف وأنشطته للوصول والاتصال بجميع المسلمين المنتشرين في كل أنحاء العالم.
أردوغان يسعى عبر ماكينته الدعائية العملاقة لإبقاء قضية إحياء الخلافة والأدبيات الدائرة حولها حية بشكل دائم في أذهان أنصاره، واستغلالها في حصد أصوات الإسلاميين والمحافظين القوميين من جهة، والهروب من تحمل المسؤولية فيما يخص الاقتصاد المنهار، وانخفاض قيمة الليرة التركية، والفقر، وانتهاكات حقوق الإنسان.
وكما تكشف هذه الفعاليات والخطابات والتصريحات المذكورة، فإن أردوغان اعتبر عام ٢٠٢٣ منعطفًا تاريخيًّا، وأراد له أن يكون بداية جديدة نحو استكمال مشروعه السياسي، نظرًا لموافقة هذا التاريخ مع الذكرى المئوية لجمهورية تركيا، إلا أن المؤشرات تدل على أنه قد أجل تحقيق حلمه هذا إلى وقت لاحق لأسباب اقتصادية.
*رئيس تحرير زمان عربي سابقًا