بقلم: ياوز أجار
٢. سيناريوهات الفترة الثالثة:
لا شك في أن أردوغان سيبذل قصارى جهده في فترته الثالثة للارتقاء بالعلاقات التي طورها مع دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز ودول البلقان في العقد الأول والثاني من حكمه إلى المستوى المطلوب في إطار التوازنات الدولية، بطريقة تتوافق أو لا تتعارض مع المصالح الاستراتيجية للكتلة الغربية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) والشرقية (روسيا والصين). إذ بدأ أردوغان، بعد انهيار السياسة الخارجية القائمة على الصراع والصدام، فترته الثانية بإشارات تعطي انطباعًا بأنه سيتبنى أسلوبًا تصالحيًا في فترته الجديدة. ولن نخطئ لو قمنا بصياغة هذه الجملة على النحو التالي: إنه سيحاول في الفترة الجديدة تحقيق أغراضه بالقوة الناعمة بعدما أحبط بالقوة الغاشمة في الفترة السابقة. ولا داعي لنؤكد أنه سيسعى إلى تسويق موقف تركيا الاستراتيجي وعلاقاتها مع دول المنطقة، للحصول على موافقةِ واحدٍ على الأقل من المحور الغربي أو الشرقي على مشاريعه المحلية والإقليمية، كما عهدنا منه إلى اليوم.
أدلى أردوغان بتصريحات مهمة خلال زيارته لأذربيجان في 3 يوليو 2021، قد تسلط الضوء على الملامح والمحددات الرئيسية لسياسته الخارجية خلال فترته الجديدة. فقد طرح في تلك التصريحات مفهوم “المنطقة الآمنة” أو “الممر الأمني”، مؤكدًا أن إنشاء هذه المناطق الآمنة، أو تشكيل “الحزام الأمني التركي الخارجي” أمر لا مفر منه لأمن واستقرار تركيا. وبحسب بياناته، فإن هذه المنطقة الأمنية سوف تغطي جميع الوجود الخارجي التركي، بدءًا من إقليم “ناغورنو كاراباخ” المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وانتهاءً بالخليج العربي، وشمال وشرق إفريقيا، وشرق البحر المتوسط، والقوقاز والدول العربية.
يعلم الجميع الوجود العسكري التركي في كل من سوريا والعراق وليبيا وجمهورية شمال قبرص التركية وشرق البحر المتوسط. إلى جانب القواعد العسكرية الدائمة في هذه الدول، فإن أردوغان أنشأ قواعد عسكرية جديدة في كل من الصومال وقطر أيضًا. وتقول مصادر مطلعة بأن هذا الممر الأمني من المحتمل أن يتوسع في المستقبل ليشمل مناطق أخرى في البلقان، مثل كوسوفو والبوسنة والهرسك.
الكاتبة المصرية المتخصصة في الشأن التركي الدكتورة منى سليمان كتبت في مقال لها نشره موقع (zamanarabic) في ٢٠٢٢، أن أردوغان ربما يخطط، وسط الفراغ الدولي والغياب الأمريكي، لإنشاء “قوة سلام” في تلك المناطق المذكورة، بما فيها أوكرانيا، لزيادة نفوذه الإقليمي والدولي، وكسب ثروة نفطية في شرق البحر المتوسط، وتعزيز استثماراته في الشرق الأوسط. وأشارت الكاتبة إلى أن استراتيجية المناطق الآمنة هذه، ستحول تركيا، في حال نجاحها، إلى ممر لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا من خلال الممرات الجيواستراتيجية لحوض بحر قزوين وآسيا الوسطى.
ومن الطبيعي أن يضع مشروع الحزام الأمني التركي الخارجي أردوغان في منافسة مستمرة مع روسيا وإيران، في الشرق الأوسط، والقوقاز، وآسيا الوسطى، لكنه يمكن أن يحصل على دعم الولايات المتحدة التي تسعى لكسر النفوذ الروسي في هذه المنطقة.
٢أ. السيناريو السلمي
باتت العلاقات التركية العربية مرارًا وتكرارًا مسرحًا للأزمات طوال عامي ٢٠١٩ و٢٠٢٠، بسبب تدخلات أردوغان العسكرية في سوريا وليبيا والعراق. فقد فسرت الدول العربية، خاصة محور “الرباعي العربي” الذي ضم السعودية والإمارات ومصر والبحرين، هذه الخطوات على أنها أحلام أردوغان بتأسيس نوع من الإمبراطورية أو الخلافة، واتخذت موقفًا معارضًا منها. لكن لما أدرك أردوغان أنه لا يستطيع تحقيق أي شيء من خلال القتال مع دول المنطقة، في ظل غياب القوة العسكرية والاقتصادية الكافية، تراجع خطوة إلى الوراء متغاضيًا عن تحدياته السابقة، وبدأ في البحث عن طرق للمصالحة مع جميع الدول التي صنفها أعداء سابقًا، واليوم يحاول تتويج عملية التطبيع مع مصر بعدما بدأها مع إسرائيل التي يعتقد أنها ستفتح له أبواب واشنطن والغرب عمومًا.
في مسعىً للانتقال من مرحلة التطبيع إلى الشراكات الاستراتيجية مع دول المنطقة، بدأ أردوغان (منتصف يوليو) جولة خليجية شملت كلا من المملكة العربية السعودية ودولة قطر والإمارات. وتشير مصادر مطلعة إلى أن أردوغان مستعد لإجراء زيارة مماثلة إلى مصر أيضًا لوضع نقطة النهاية للقطيعة بين البلدين منذ الإطاحة بحكومة محمد مرسي في عام ٢٠١٣. في حين زعمت مصادر عربية أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يستعد لزيارة تركيا قريبًا. وتمخضت هذه الزيارة الخليجية عن موافقة السعودية على شراء طائرات مسيَّرة تركية، في أكبر عقد دفاعي في تاريخ تركيا، علمًا أن الصفقة تتضمن إنتاجاً مشتركاً أيضًا، وتوقيع الإمارات على مذكرات تفاهم واتفاقيات مع تركيا بقيمة 50.7 مليار دولار.
أردوغان قد ينجح في تطوير العلاقات مع دول الخليج وجذب رؤوس الأموال الخليجية إلى تركيا في الفترة المقبلة أيضًا. لكن السؤال الجوهري هنا هو: هل العلاقات التركية الخليجية ستقتصر على المجالات الاقتصادية أم سيتوسع نطاقها مع مرور الوقت لتشمل مجالات إستراتيجية؟ أعتقد أن جواب هذا السؤال منوط بقدرة أردوغان على إقناع تلك الدول بإخلاصه في التغيير الإيجابي المتعلق بأسلوب العلاقات الخارجية لتركيا. لكن المحللين العرب والدوليين يشيرون إلى أن دول الخليج متحفظة في علاقاتها مع أردوغان، بسبب التجارب المريرة السابقة، وتفضل في الوقت الراهن حصر العلاقات في المجالات الاقتصادية حتى يتبين ما إذا كان نهج أردوغان الجديد في السياسة الخارجية إستراتيجية راسخة أم خطوة تكتيكية فرضت عليه الظروف الاقتصادية.
والأمر نفسه ينطبق على العلاقات بين مصر وتركيا أيضًا، حيث يتفق الطرفان على ضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية، لكن يبدو أن إعادة بناء الثقة المتبادلة الضرورية لشراكة إستراتيجية محتملة سوف تستغرق وقتًا طويلًا. لأنه على الرغم من بعض الخطوات الإيجابية التي اتخذها أردوغان من جانب واحد في الجولة الثانية من المحادثات مع مصر منذ عام ٢٠٢١، لم يتم إحراز تقدم كبير في طي صفحة الماضي وفتح صفحة بيضاء جديدة بين الطرفين.
نظرة الإدارة المصرية لأمنها القومي هي العائق الأكبر أمام تطوير العلاقات بين تركيا ومصر إلى ما وراء المجالات الاقتصادية. لأن مصر تربط تطوير العلاقات مع أردوغان بـ”موقفها العام” تجاه الدول العربية، وتعتبر تدخلاته السياسية العسكرية في هذه الدول من خلال الجماعات الإسلامية انتهاكًا لسيادة الأراضي العربية عمومًا. وبناء على ذلك، ترى مصر دعم أردوغان السياسي والعسكري للميليشيات المسلحة في طرابلس تهديدًا لأمنها القومي، وإصراره على البحث عن الغاز الطبيعي على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط والعمليات العسكرية التركية في شمال سوريا والعراق سببًا لاستمرار القطيعة بين الجانبين.
في تصريحات لصحيفة “النبأ” المصرية، قال الكاتب والباحث المصري المتخصص في الشأن التركي والعلاقات الدولية محمد أبو سبحة إن تركيا بذلت جهودًا كبيرة في السنوات الماضية لاستعادة علاقتها مع مصر، وكانت القاهرة في مقدمة الدول التي سعت أنقرة لإصلاح العلاقات معها، لكنها نجحت في تطبيع علاقاتها بشكل أسرع مع دول أخرى في الشرق الأوسط قبل مصر، مما يشير إلى أن الوصول إلى المرحلة الحالية بتبادل تعيين السفراء جاء بعد جهد كبير ومفاوضات مكثفة حول قضايا مشتركة، بما يشمل الوضع في ليبيا وسوريا والعلاقات مع قبرص واليونان وملف الغاز في شرق المتوسط.
وأشار الباحث المصري إلى أن الحديث التركي علنا عن الرغبة في تسوية الخلافات مع مصر واستعادة العلاقات بدأ في عام 2021، لكن القاهرة كانت متأنية في الاستجابة للرغبة التركية، وحريصة على رؤية خطوات جادة وضمانات حقيقية، معتبرًا أن أردوغان أثبت حسن نواياه عبر تحجيم نفوذ الإخوان المسلمين وتضييق المساحة الممنوحة لهم على الأراضي التركية منذ عام 2013، ثم من خلال تقليص التحركات العسكرية في ليبيا المجاورة، وتقليل العداء للحكومة السورية شيئا فشيئًا.
وخلص أبو سبحة إلى أن تركيا ومصر وصلتا اليوم إلى مرحلة جديدة من تدشين العلاقات المبنية على التفاهم والتنسيق المشترك ينتظر أن تنعكس إيجابًا على شعبي البلدين والمنطقة كلها، فكلا البلدين له ثقل سياسي وقيمة تاريخية ودينية، وتحالفهما يؤهلهما للعب دور بارز على الساحة الدولية في المستقبل. وتوقع أن الفترة المقبلة ستشهد زيادة الاستثمارات التركية في السوق المصري، خاصة في مجال الزراعة والإنشاءات، والعمل على رفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين الذي لم يتأثر كثيرا طوال فترة القطيعة السياسية، وزيادة حركة السياحة، والتي بدأت مع إعلان القاهرة منح السياح الأتراك تأشيرة عند الوصول، وهو إجراء ينتظر تطبيقه بالمثل بالنسبة للسياح المصريين. كما ينتظر أن يبدأ البلدان التنسيق في ملف شرق المتوسط المعقد، حيث يريد أردوغان الاحتماء بمصر لمنع أي قرارات سلبية قد تتخذها دول منتدى غاز المتوسط، خاصة أن مصر أبدت احتراما للجرف القاري التركي عند ترسيم الحدود البحرية مع اليونان وقبرص. ولاحقا قد تسعى تركيا إلى أن تكون جزءًا من منتدى غاز المتوسط بمساعدة مصر للتغلب على التوترات مع اليونان وقبرص، حلفاء القاهرة.
وأكد أبو سبحة أن مصر ترغب في استقرار الوضع في ليبيا، وعدم العودة مجددا إلى الفترة التي شهدت نقل تركيا لعناصر المرتزقة للقتال في غرب ليبيا بما يهدد أمن حدودها، وهو من الثمار المبكرة لخطوات التطبيع بين البلدين، بالإضافة إلى منع تركيا من الإقدام على التنقيب في شرق المتوسط استنادا إلى الاتفاقية الموقعة مع حكومة طرابلس، قبل أن يكون هناك اتفاق مع مصر.
طبعا كل ما ذكره الباحث محمد أبو سبحة مرتبط باستمرار النهج السلمي الجديد الذي عاد إليه أردوغان في فترته الثالثة، وهذا ما نتمناه.
نتوصل مما سبق إلى أن أردوغان سيسعى في الفترة اللاحقة، وسط تراجع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، إلى توأمة مصالح بلاده مع مصر ودول المنطقة الأخرى، فيما يخص القضايا الإقليمية والدولية، للحفاظ على النفوذ السياسي الذي خلقه خلال فترته الأولى والثانية في المنطقة.
يتبع..
*رئيس تحرير موقع زمان عربي سابًقا