بقلم: ياوز أجار *
(زمان التركية)-على الرغم من أن الرئيس التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان مرهق للغاية لطول فترة حكمه البلاد منذ أكثر من ٢٠ عامًا، إلا أنه نجح في الخروج منتصرًا من انتخابات ٢٠٢٣ أيضًا، وحصل على ولاية ثالثة، وسط عجز المعارضة عن تقديم بديل جاد. وغني عن البيان أن ادعاءات المعارضة المدنية والسياسية على حد سواء بالتدخل في نتائج الانتخابات الرئاسية التركية لم يعد لها أي معنى.
بدأ المراقبون المحليون والدوليون في طرح سيناريوهات مختلفة حول المسار الذي سيتجه إليه أردوغان في السياسة الداخلية والخارجية في ولايته الجديدة. بالطبع، سيحدد الوقت أيًا من هذه السيناريوهات سيتحقق في الواقع، لكننا سنحاول في هذه الدراسة المتواضعة معالجة القضية من منظورنا الخاص، استنادًا إلى ثوابت ومتغيرات الأسلوب السياسي لأردوغان الذي لمسناه طيلة ٣٠ عامًا تقريبًا، إذا أخذنا في الاعتبار فترة رئاسته لبلدية إسطنبول أيضًا.
١. الفترات الثلاث لأردوغان
أ. الفترة الأولى (٢٠٠٢-٢٠١١)
لقد خلع أردوغان وفريقه قميص “الرؤية الوطنية”، التي تبناها شيخهم زعيم حزب الرفاه “الإسلامي” نجم الدين أربكان، وركبوا “قطار الديمقراطية” ليصلوا إلى السلطة في عام ٢٠٠٢، بدعم شخصيات سياسية وازنة من التيارين الديمقراطي والليبرالي، بالإضافة إلى قواعدهم الشعبية، في الداخل؛ والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في الخارج.
في العقد الأول من حكمه، تميز أردوغان بنجاحه في تحويل حزبه إلى “فسيفساء” يضم كل الألوان الأساسية في تركيا، وتطوير “تعاون استراتيجي” مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي؛ وسياسة “صفر مشاكل” مع الدول المجاورة؛ و”علاقات معقولة” مع روسيا والصين. كذلك خطف الأضواء بمساهماته في الحوار بين الثقافات والأديان والحضارات، كما هو الحال في مشروع الحوار بين الحضارات الذي قاده بالشراكة مع إسبانيا.
تلتِ النجاحاتِ في السياسة الداخلية والخارجية نجاحاتٌ في مجال الاقتصاد، لتصبح تركيا مركز جذب للمستثمرين الأجانب من كل أنحاء المنطقة والعالم، بما فيها الدول الغربية، كما انفتح المستثمرون الأتراك اقتصاديًا على جميع أنحاء العالم بالتوازي مع هذه العلاقات الخارجية الإيجابية.
باختصار، استطاعت تركيا، في العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية، أن تصبح “مصدر إلهام”، بديمقراطيتها المسالمة مع الإسلام، واقتصادها المتنامي، لمساحة شاسعة من المنطقة، بدءًا من آسيا الوسطى، مرورًا بالشرق الأوسط، وانتهاءً بالبلقان والقوقاز. لكن يؤكد المراقبون الدوليون الذين لم يتأثروا بالصراعات السياسية الداخلية في تركيا، على الدور الواضح الذي لعبته المنظمات غير الحكومية في تحقيق هذا النجاح. ويشيرون إلى أن “قصة النجاح” المذكورة بدأت تنتكس تدريجياً خلال فترة أردوغان الثانية بعد إقصاء هذه العناصر المدنية، ولا سيما حركة الخدمة.
ولو وُفِّق أردوغان في الحفاظ على هذا الخط الإيجابي في السياسة الداخلية والخارجية، لكانت تركيا اليوم “دولة فاعلة” مهمة في منطقتها، بل على المستوى العالمي، لكن هذه الإمكانية ضاعت إلى حد كبير بالتزامن مع النهج الجديد الذي ابتدعه أردوغان في فترته الثانية.
ب. الفترة الثانية (٢٠١١-٢٠٢٢)
منذ أن رأى أردوغان أحداث كل من “مافي مرمرة” في ٣١ مايو ٢٠١٠، وما أطلق عليه “الربيع العربي” في ١٨ ديسمبر ٢٠١٠ كفرصة للتألق بنجمه في العالم الإسلامي بأسره، بدأ ينأى بحزبه من وصف “حزب ديمقراطي محافظ”، ويعطي “ردود أفعال إسلامية” وكأنه امتداد لحزب الرفاه الإسلامي الذي انفصل عنه.
وبعدما عزز أردوغان سلطته بالحصول على دعم ما يقرب من نصف الشعب في انتخابات ٢٠١١، اتجه من ناحية إلى فصل حزبه عن الشخصيات السياسية التي استعارها من التيار الديمقراطي والليبرالي في بداية مشواره السياسي، حيث اعتقد أنهم سيكونون عائقا أمامه في فترته الجديدة؛ ومن ناحية أخرى شرع في عقد شراكات وتحالفات جديدة مع فصائل وصفها بـ”الأعداء” في فترته الأولى. ففي السياسة الداخلية، ترك ثقافة “الانفتاح المتساوي” على جميع شرائح الشعب التركي، وتشبث بلغة الاستقطاب والإقصاء لرصّ صفوف قاعدته الإسلامية الكلاسيكية في الداخل، وبالمثل، حاول إنشاء مناطق نفوذ لنفسه من خلال جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المماثلة، باعتبارها اتجاهًا صاعدًا في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، بدلاً من الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع حكومات العالم العربي والإسلامي في الخارج. وبطبيعة الحال، أدى هذا النهج الجديد إلى انهيار التوافق الوطني، وتأجيج الصراعات وإشعال نار الفتن في الداخل والمنطقة كلها، وحولت تركيا إلى دولة عدوة في عيون جميع جيرانها تقريبًا.
هذا التغيير في أسلوب أردوغان السياسي تلاه تعاونه مع فصائل سياسية تدافع عن نظام الوصاية التقليدية في تركيا، والمعسكر الأوراسي في المنطقة، لدرجة أنه بدأ يتحدث عن احتمالية انضمام بلاده لمنظمة “شنغهاي” للتعاون بقيادة روسيا والصين، قبل فترة طويلة من انكشاف فضائح الفساد والرشوة في ١٧-٢٥ ديسمبر ٢٠١٣، حيث اعتبره ميلادًا لتفسير وتبرير تحولاته وتغيراته الجذرية التي بدأت في الواقع قبل سنتين من هذا التاريخ.
لا شك أن هناك أسبابا مختلفة وراء هذا “التحول الجذري” من المحور الغربي الأطلسي إلى المحور الروسي الصيني، في كل من السياسة الداخلية والخارجية، لكن يبدو أن ما سمي بـ”أحداث جيزي” في عام ٢٠١٣ لعب دورا رئيسيا في هذا الصدد. فقد قرأ أردوغان هذه الأحداث على أنها انتفاضة مدنية ضد حكمه، تقف وراءه دوائر غربية مع امتداداتها العلمانية في الداخل التركي، على غرار الانتفاضات التي شهدتها دول الربيع العربي (تونس ومصر وليبيا وسوريا). ومع إطلاق سراح المحكومين في قضية أرجنكون في عام ٢٠١٤، بموجب مساومة سياسية بعيدا عن القانون، كسب التحالف بين أردوغان والأوراسيين طابعًا رسميًا. وبعد ضمّ حزب الحركة القومية إلى هذا التحالف بعد انتخابات ١ نوفمبر ٢٠١٥، اكتملت “الركيزة الثلاثية” للنظام الجديد الذي أسّسوه معًا في تركيا.
سرعان ما وجد أردوغان نفسه في دوامة من المشاكل والمآزق بالتزامن مع انفتاحه على العالم العربي والإسلامي هروبًا من مخاوفه من الإطاحة به من قبل الولايات المتحدة والغرب، وركوبًا على موجات الأحلام الإسلامية الرومانسية. إذ نظر إلى نفسه على أنه زعيم الهياكل الإسلامية في العالم، وبدأ بالتدخل في الشؤون الداخلية لجميع البلدان العربية والإسلامية، خصوصًا مصر وسوريا وتونس وليبيا. وعلى الرغم من أنه حصل على دعم الجماهير الإسلامية العاطفية، بفضل استخدامه سلاح المال والسينما وآليات الدعاية المختلفة، غير أنه واجه ردود فعل الحكومات التي تزن كل شيء بمعايير العقل والمنطق. وفي نهاية الطريق، فشلت الهياكل السياسية لجماعة الإخوان المتحالفة مع أردوغان في كل من مصر وسوريا وليبيا وتونس على التوالي، مخلفة وراءها جملة من المشاكل المزمنة التي ما زالت تستعصي على الحل.
بعدما تحالف أردوغان مع كل من “حزب الحركة القومية”، الذي يعتبر مظلة اجتمع تحتها عناصر الدولة العميقة، الذين سبق أن تعاملوا مع حلف شمال الأطلسي الناتو في أيام الحرب الباردة لخلق نفوذ سياسي في تركيا، و”حزب الوطن” الذي يعتبر عنوانا مشتركا للأوراسيين التقليديين، بادر إلى تطهير جهاز الدولة، بما فيه المؤسسة العسكرية، من المصنفين “معارضين”، بذريعة ما يسمى بالانقلاب الفاشل في ١٥ يوليو ٢٠١٦. ومن ثم انتقل من مرحلة التدخلات الكلامية والاقتصادية إلى مرحلة التدخلات الفعلية في شؤون الدول المجاورة، فأمر هذا الجيشَ الخالي من جميع الجنرالات الموالين للناتو بالتوغل العسكري في الأراضي السورية أولًا، بدعوى حماية أراضي تركيا من هجمات حزب العمال الكردستاني وامتداده السوري، ثم في الأراضي الليبية تحت مسمّى حماية حدود “الوطن الأزرق” المزعومة في البحر الأبيض المتوسط.
لكن أردوغان اصطدم مع حلفائه السابقين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، أو حلفائه الجدد من المعسكر الأوراسي إيران وروسيا، أو دول إقليمية أخرى، في كل نقطة دخلها بالمنطقة. فأصبح على خلاف مع الغرب كله بسبب مشاكله مع اليونان في بحر إيجه، ومع روسيا لاعتراضها على الإطاحة بالأسد في سوريا، ومع الولايات المتحدة لرفضها العمليات العسكرية التركية ضد وحدات حماية الشعب في شمال سوريا. كذلك أشهرت روسيا وجميع الدول المطلة على شرق البحر الأبيض المتوسط، خاصة مصر وإسرائيل، البطاقة الحمراء في وجه أردوغان بسبب رغبته في عقد اتفاقية بشأن مياه شرق المتوسط مع “حكومة الإنقاذ الوطني” الليبية المدعومة من الإخوان المسلمين. أضف إلى ذلك خلافه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول القتال الذي دار بين أذربيجان وأرمينيا.
إن أردنا الاختصار، فإن مشاكل تركيا المزمنة مع جيرانها صارت أكثر تعقيدًا من السابق وكسبت أبعادًا جديدة، بسبب السياسة الخارجية العدائية في العقد الثاني من حكم أردوغان، بعدما أخذت طريقها للحل والتسوية بفضل سياسة “صفر مشاكل” في العقد الأول. في حين باتت تركيا دولة معزولة في المنطقة والعالم، وبات معها أردوغان زعيماً غير موثوق به، حيث قدم صورة للعالم يستغل فيها المشاكل القائمة، ويخلق أزمات جديدة، في محاولة لابتزاز الدول والحصول على تنازلات منها، كما رأينا في أزمة اللاجئين التي أثرت على كامل القارة الأوروبية.
يمكن أن نقول بأن العقد الثاني من حكم أردوغان كان بمثابة “حرب لا هوادة فيها” مع كل المعارضين المدنيين والسياسيين في السياسة الداخلية؛ و”فوضى كاملة” في السياسة الخارجية. ومع أن أردوغان وسع نفوذه السياسي في الداخل التركي من خلال الدعاية بأن “تركيا أصبحت قوة إقليمية، بل عالمية، لاتباعها سياسة مستقلة، وهذا سبب عزلتها، حيث يقف كل العالم ضدها ويتآمر عليها للدفع بها إلى الوراء مجددا”، وما إلى ذلك من العبارات المزركشة، إلا أنه لا يمكن أن يشك أي صاحب عقل متزن ومنطق سليم أن أردوغان استهلك كامل رصيد تركيا في الخارج.
ج. الفترة الثالثة (٢٠٢٢ -…)
كانت نهاية العقد الثاني حافلة بالعبر والدروس المفيدة لأردوغان وفريقه. فعندما لاحظوا أن السياسة الخارجية القائمة على مشاعر إسلامية رومانسية محضة اصطدمت بجدار الواقع بدأوا يرون حدود قوتهم. ومع الأعباء الثقيلة لوباء كورونا، إضافة إلى ارتفاع تكلفة العمليات السرية في المنطقة بأسرها، أصبح الاقتصاد أكبر مشكلة تهدد نظام أردوغان. ولذلك بدأوا منذ عام ٢٠٢٢ في البحث عن طرق لإخراج تركيا من دوامة المشاكل التي وضعوها فيها بسياساتهم العوجاء.
ومن المفارقة أن أردوغان أطلق أولى خطوات التطبيع في السياسة الخارجية مع إسرائيل، بعد 12 عامًا بالضبط على حادثة “مافي مرمرة”، والتي كانت في مقدمة الأمثلة على السياسة الخارجية الصدامية والعدائية. جاءت بعدها محادثات مع الإمارات، رغم أن كبار المسؤولين الأتراك، بمن فيهم أردوغان نفسه، وجهوا لها عددا لا يحصى من الاتهامات، أبرزها تمويل الانقلاب الفاشل المزعوم في ١٥ يوليو ٢٠١٦. ثم بدأت عملية التطبيع مع السعودية، لتشمل في نهاية المطاف مصر كذلك، رغبة في تحقيق أغراض سياسية واقتصادية، منها الحفاظ على المكاسب الميدانية في ليبيا. ومن ثم توج أردوغان خطوات التطبيع وإصلاح العلاقات مع دول المنطقة بجولة زيارة أجراها في يوليو الحالي شملت كلا من السعودية والإمارات. وتشير مصادر مطلعة إلى أن أردوغان مستعد لإجراء زيارة مماثلة إلى مصر أيضًا لوضع نقطة النهاية للقطيعة بين البلدين منذ الإطاحة بحكومة محمد مرسي في ٢٠١٣.
من الظاهر أن التركيبة السياسية التي أوجدها أردوغان في تركيا مع كل من القوميين والأوراسيين عززته سياسيًا، لكنها أضعفته اقتصاديًا؛ وذلك لسبب بسيط وهو أنها قامت على الاستقطاب والصراع في الداخل والخارج، الأمر الذي قضى على مناخ الأمن، وقطع العلاقات الاقتصادية، وأدى إلى هروب الاستثمارات الأجنبية من تركيا، بل دفع الأثرياء الأتراك أنفسهم للبحث عن موانئ آمنة لتحويل استثماراتهم إليها، خاصة بعد حملة المصادرة الجماعية للممتلكات التي نفذت في إطار خطوات التصدي للانقلابيين! إلا أن أردوغان لما اقتنع بأن القوة السياسية بمعزل عن القوة الاقتصادية لا تضمن بقاء نظامه، قرر إعادة بناء القنوات والجسور مع جميع الدول، من أجل جذب الاستثمارات، بل المساعدات العربية والغربية، وإخراج الاقتصاد التركي من العناية المركزة.
من الصعب جدًا إعطاء إجابة محددة على سؤال “كيف ستتطور ولاية أردوغان الثالثة بعد فوزه في انتخابات ٢٠٢٣”، لكن يمكننا أن نقول بسهولة إن سياسات أردوغان “الإسلامية” و”القومية” و”الأوراسية” (بمعانيها الأيديولوجية) في فترته الثانية قضت على “النموذج التركي” الذي بدأ في الظهور بين أعوام ٢٠٠٢ و٢٠١١، وجعلت تركيا اليوم عاجزة إلى درجة كبيرة عن الاضطلاع بأدوار مستقلة، بل أدوارٍ حاسمة في المخططات الموضوعة من قبل دول أخرى. والأسوأ أن العجز الاقتصادي الحالي سيجعل تركيا مفتوحًا للضغوط والتدخلات الخارجية في السياسة الداخلية. لذا لن يكون مجافيًا للحقيقة إن قلنا إن تركيا لن تستطيع في فترة أردوغان الثالثة -طالما بقي في السلطة- أن تكون أكثر من “دولة زبائنية” تقدم خدمات للقوى الكبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإنه قد يتمكن من تقديم وتسويق هذا الدور الهزيل أيضًا لقواعده الشعبية كما لو كان لاعبًا كبيرًا في أولمبياد القوى العالمية.
والآن دعونا نحاول النظر في السيناريوهات المحتملة للفترة الثالثة:
يتبع..
* رئيس تحرير موقع zamanarabic سابقا