نيويورك (زمان التركية)ــ نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا تحليليا عن الانتخابات التركية 2023، ركز على الصعوبات التي قد تواجهها البلاد في فترة ما بعد الانتخابات.
وقد جاء في التقرير، الذي أعده جيهان توجال أستاذ علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا:
إن المعارضة التركية اليوم متفائلة أكثر من أي وقت مضى، فعلى الرغم من الصعوبات العديدة في العقدين الماضيين، لم تواجه أبدًا العديد من العوامل ضد الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، فالاقتصاد في حالة من الفوضى، بعد أن تدهورت الليرة في عام 2018 ولم تتمكن أي من السياسات العشوائية للحكومة من إعادتها إلى مسارها الصحيح، وكما أن الفقر يتفاقم، فيبدو أن الزلزال الذي دمر البلاد في فبراير،وتسبب في مقتل أكثر من 50.000 شخص يمثل القشة الأخيرة القادرة على قصم ظهر أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
وفي الوقت نفسه فإن من المفارقات أن تركيا شهدت زلزالًا آخر في عام 1999 وكان هو الزلزال الذي ساعد في جلب حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، و في ذلك الوقت و بمجرد أن كشفت الكارثة إفلاس الأحزاب الرئيسية، كان يُنظر إلى حزب السيد أردوغان على أنه الخيار الوحيد النظيف والكفوء، لكن اليوم تحطمت هالة الكفاءة دع عنك شبه الفساد الكبيرة التي تدور حوله، و بالحكم من خلال استطلاعات الرأي، يبدو حقًا كما لو أن الناخبين الأتراك قد ينهون حكم حزب العدالة والتنمية الذي استمر 21 عامًا من الحكم المحافظ والسلطوي.
هذا احتمال مثير بالطبع، لكن أي نشوة سابقة لأوانها. إذا انتصرت المعارضة، فستواجه نفس المشاكل الهيكلية التي أحبطت البلاد لسنوات – وحتى إذا خسر أردوغان، فإن مشروعه السياسي لن يذهب إلى أي مكان،وبالطبع قد تتخلص تركيا من زعيمها الاستبدادي، لكنها لا تزال في ورطة عميقة.
ومن جهة أخرى نجد أن واحدة من أكثر الكلمات شيوعًا التي تستخدمها المعارضة هي “الاستعادة”، ورغم أن الأطراف الستة التي يتألف منها الائتلاف لا تتفق على كل شيء، لكن هناك مؤشرات قوية على ما يريدون استعادته، فإثنان من أحزاب المعارضة يرأسهما أعضاء سابقون بارزون في حزب العدالة والتنمية، أحدهم هو علي باباجان والذي ابتكر السياسات الاقتصادية للحزب في وقت سابق، والأخر هو أحمد داود أوغلو والذي يُنسب إليه الفضل على في مقاربته للسياسة الخارجية، والإثنين يمثلان ما اتسمت به الفترة الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية حيث اتسمت بالتوجه الصديق للسوق والمؤيد للغرب في البلاد.
لكن العودة إلى هذا النهج ببساطة غير ممكنة في عشرينيات القرن الحالي، فمن الناحية الاقتصادية، يعتبر المناخ العالمي أقل ملاءمة لنوع اقتصاديات السوق الحرة، التي تعتمد على الاستثمار الأجنبي المباشر، ومعدلات الفائدة المرتفعة وتحرير التجارة . و من الناحية الجيوسياسية، تغير موقف الاتحاد الأوروبي من انضمام تركيا – إلى حد الحديث عن استبعدها – وفي المنطقة الأوسع لم يعد من الممكن الاعتماد على الهيمنة العسكرية والدبلوماسية الأمريكية.
وحكومة حزب العدالة والتنمية تعرف بالفعل ذلك، ولهذا تم تنفيذ التحول بعيدًا عن سياسات باباجان الصديقة للسوق بشكل فعال من خلال الانكماش في الأسواق العالمية قبل عقد من الزمان، وعلى جبهة العلاقات الدولية فإن الحزب الحاكم لم يعد يرى أن موقفه المؤيد للغرب مجديا، و كان ذلك السبب الرئيسي لاستقالة السيد داود أوغلو من منصب رئيس الوزراء في عام 2016، وعلى كل فمع تنامي النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، قرر حزب العدالة والتنمية أن يتخذ الحيطة في رهاناته على اللاعبين الدوليين دون التخلي تماما عن حلفائه الغربيين.
وبالفعل تم تفعيل تلك الاستراتيجية في السنوات الأخيرة، حيث لجأ حزب العدالة والتنمية الحاكم بشكل عملي إلى عدد من الأدوات لإدارة الاقتصاد، و لم تكن الأمور تسير على ما يرام دائمًا، لكن على الرغم من أخطاء الحزب الفادحة، فإن ما سمح للحزب الحاكم أن يظل في السلطة هو قاعدة دعم شعبية واسعة وقوية، وكان تم بناء هذه القاعدة من خلال خمسة عقود من العمل الذي مزج التفاعل وجهًا لوجه والعلاقات غير الرسمية – مساعدة الناس على تنظيم الأحداث المجتمعية،أو العمل كوسطاء في نزاعات الأحياء – مع عضوية حزبية وجمعيات رسمية.
وهكذا فبدون بديل واضح للوضع الراهن، سيظل الكثير من الناس متمسكين بالقيادة السياسية التي يعرفونها، أما عن الوعود الأخيرة بإعادة التوزيع التي قدمها كمال كيليتشدار أوغلو، المنافس الرئاسي لـ أردوغان وزعيم حزب الشعب الجمهوري، بالكاد تكفي لكسر قبضة حزب العدالة والتنمية الخانقة على المجتمع، وبدلاً من ذلك فإن الأحزاب الرئيسية يعتمدون على إنعاش الاستثمار الأجنبي المباشر-على الرغم من تراجعه العالمي- و ينتقدون بشدة المشاريع الضخمة التي تقودها الحكومة مثل تصنيع السيارات والسفن، لكنفي الوقت نفسه وإذا كانت المعارضة ستعمل على خدش سياسات “الاقتصاد الوطني”، فما هو البديل الذي تقدمه؟ إن عدم وجود إجابة مقنعة على هذا السؤال بمثابة تحذير لما سيأتي.
ومع ذلك، فإن التصويت على السيد أردوغان لا يزال مصدر ارتياح كبير، فخلال أكثر من عقدين من الزمن على رأس السلطة، قام أردوغان بتركيز السلطة في يديه، وسجن المعارضين وخنق المحاكم، و في السنوات الأخيرة، مع تدهور الاقتصاد قام حزب العدالة والتنمية الحاكم تحت قيادته بتصعيد أجندته الدينية والعرقية، وفتح ذراعيه للجماعات المناهضة للمرأة والمؤيدة للعنف، والحقيقة إن التغلب على هذا المنعطف الصعب، وتوجيه ضربة ضد الاستبداد يعد أمر بالغ الأهمية لمستقبل تركيا.
لكن النصر الانتخابي ليس نهائيًا، ففي حالة الهزيمة أردوغان فإن حزب العدالة والتنمية الحاكم وحلفاؤه سيواصلون بلا شك إثارة الكراهية، و قد يكون لجوء اليمين التركي المتطرف إلى سياسات الهوية تداعيات مدمرة، وأفضل علاج لمثل هذا التهديد هو برنامج متماسك للحكم وهو بالضبط ما تفتقر إليه المعارضة،و تركيا في الحقيقة لا تحتاج إلى استعادة شيء مضى كما ترى المعارضة، بل تحتاج إلى تعيين مسار جديد تمامًا.