علي بولاج
يمكن النظرُ إلى الحروب والصراعات من خلال عدة زوايا، وتفسيرُها بطرق مختلفة وفق وجهة نظر كل إنسان والعوامل التي يولي اهتمامه إليها.
إن الإنسان، على عكس ماتدّعيه العلوم الاجتماعية الغربية، وليس العوامل البيئية، هو العنصرُ المحدِّد الذي يلعب الدور الأبرز في ظهور الحوادث البشرية. ولا شك في أن البيئة الاجتماعية والعوامل المادية تلعب أدوارًا مؤثرة كذلك في هذه المسألة. لكن العامل البشري هو الذي يلعب الدور الأول في استمرار الصراعات، سواء العالمية أو الإقليمية أو الاجتماعية.
الأمر كذلك، لأن الإنسان يتدخل في كل واقعة خير أو شر تحدث في الوجود. فالإنسان هو الذي يعيش الوقت، وهو الذي يكتب تاريخ نفسه بنفسه. إلا أن هذا لايعني عدم وجود عوامل محددة تتخطى قدرة الإنسان. فإذا كانت الإرادة الإلهية هي صاحبة الدور فيما يفعله البشر، فهذا يعني أن الإنسان يسير في الطريق المستقيم، وأنه يمضي في طريقه بخطى ثابتة نحو الانتقال من المرتبة الدنيا والأدنى للوجود إلى العالم العلوي ووطنه الحقيقي الأصلي. لكن إذا كانت هناك عوامل وقوى أخرى تحدد عمل الإنسان بخلاف الإرادة الإلهية، فيجب عليه أن يحرر نفسه من تأثير هذه القوى والكيانات الأخرى.
يعيش العالم حالة من انقلاب الموازين على المستوى الكُلّي. فمن يستحوذون على القدرة العسكرية والاقتصادية يسعون للخروج بأقل قدر من الخسائر من هذه الموازين المنقلبة. وحتى لايؤدي الغموض المخيف المخيّم على علوم الفيزياء والأحياء ونظرية المعرفة إلى تحلّلِ وتدهورِ مجتمعاتهم كذلك، فإنهم يبادرون إلى تصدير التناقضات الكبيرة للنظام الدولي إلى الجغرافيا البشرية التابعة لنا، ويؤخّرون انهياراتهم الداخلية بفضل اصطناع صراعات واسعة النطاق في منطقتنا.
ومع صحة هذه القضية، إلا أن العناصر الخارجية ليست هي المتسبب الوحيد بطبيعة الحال في الأزمة التي يعيشها الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بصفة عامة؛ إذ إن ضعف بُنيتنا وهشاشة أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية يلعبان دورًا مهماً في هذه الأزمة. ولاريب في أن أي مجتمع ينسلخ عن مركزه الفلسفي والأخلاقي يصاب بضعف داخلي، ويصبح عُرضة لاستغلال المجتمعات الأخرى. فإذا كنا نتصارع باستمرار على مستوى الأديان والمذاهب والمجموعات العرقية والجماعات الدينية والدولة والشعب وأنماط الحياة والطبقات الاجتماعية وقضايا الرجل والمرأة والآليات الاجتماعية الداخلية، فهذا يعني أننا نواجه مشاكل مزمنة.
يمكن أن نلصق التهمة بأعدائنا الخارجيين ونقدمهم باعتبارهم السبب الوحيد لمشاكلنا أو نعتبر خصومنا الداخليين سبب جميع المساوئ، وربما يريحنا هذا نفسيًا، لكنه يفتح الباب أمام وقوعنا في أخطاء كبيرة من الناحية الذهنية. ونحن نحاول منذ وقت طويل أن نسير في ظلّ العثرات والمزالق الكبيرة. علينا أن نسعى لإيجاد حلول للمشاكل التي تهزّ كياننا ومَواطن الضعف التي تغذيها. ولإنجاز هذه المهمة يجب أن نتمتع بالشجاعة الفكرية والأخلاقية.
لايمكن أن نشخّص مَواطن ضعفنا الداخلي من خلال اعتقادين عامّين والأدوات الفكرية الأخلاقية المعلولة التالية:
1 – إذا آمن كل طرف إيمانًا جازماً بأنه هو المحق بصورة مطلقة، وأنه هو من يمثّل الصواب والحق فقط، وغاب عن ذهنه أنه يمكن أن يخطئ وادعى “العصمة والبراءة” من كل خطأ. فمَن يكون طرفًا في مثل هذه الحالات يتخذ من الظلم والجور الممارَس عليه مرجعية له ويبدأ بإقصاء خصمه و”شيطنته”.
2 – لاشك في أن من حق الجميع أن يعتقد أنه على صواب. إن الإسلام يمثّل أعلى الحقائق وأسماها، فلاشك في ذلك مقدار ذرة. لكن الدين الذي هو التعبير الحقيقي عن الحق والحقيقة يعترف بمفاهيمِ وتصوّراتِ الحق والحقيقة لدى الآخرين، ويضمن لها ولهم حق العيش من الناحية القانونية. وإذا بادرت الأطراف المتصارعة إلى الدفاع عن أحقيتها ولم تعترف بحق الحياة للآخرين، يتولَّد عن هذه الحالة إبادات جماعية وحالات تطهير عرقي وظلم. لذلك يجب أن نفكر على الأقلّ بالمنطق الذي يقول “أنا على حق، لكن (ربما) تكون أنت محقًا أيضًا (في بعض المواضيع)”. فمَن يستأثرون بالحق والحقيقة ويعتبرونهما “ملكاً خاصاً بهم” لا يفكرون بطريقة إسلامية.
ولقد أقرّ وأخبرنا العلماء المسلمون بأن أفكارهم واجتهاداتهم لاتمثّل الحقيقة المطلقة، بل عدّوها ظنّية. (من قبيل الظنّ القابل للخطأ والصواب). ولكن في زمن الصراعات يتقدّم الواجهةَ أصحابُ الاعتقادات الجازمة، والمتورّطون في الإفراط والتفريط، والحاملون بأيديهم “سيف الدين” في مقدّمة الصفوف في كل حقبة، فيخنقون صوت أولئك الذين ينادون بتحكيم العقل والضمير والإذعان والتمكين والصلح. كما يجب ألا ننسى تأثير أغنياء الحرب ومروّجي الصراعات والقتلة المأجورين.
إن العقلية التي تغذيها الصراعات تحبس الإنسان داخل دائرة فاسدة أو حلقة مفرغة لا مجال للنجاة ولا مخرج منها. فجميعنا في حاجة إلى الجلوس مع نفسه لمحاسبتها. والناجح في ذلك هو الذي يمكنه أن يظهر العزم والشجاعة على التحاور مع الآخرين. والطريق الوحيد للنجاة هو العيش جنبًا إلى جنب عن طريق تفعيل ثقافة التعايش والتعارف والتفاوض والتعاهد.