ترجمة: صالح القاضي
(زمان التركية)ــ قدم المعهد الوطني للسياسة العامة الأمريكي دراسة مهمة، حول مصير عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بعد أن تراجعت أنقرة عن المسار الديمقراطي بما يخالف قيم الحلف.
فيما يلي أهم ما جاء في الدراسة من إعداد بول ج. دافيد جستس، الباحث من مركز جامعة الدفاع الوطني لدراسة أسلحة الدمار الشامل، والمتخصص في الأبحاث المتعلقة بالدراسات الاستراتيجية.
كادت تندلع الحرب بين تركيا واليونان في سبتمبر 2020 نتيجة للخلاف الدائر بين البلدين حول حقوق التنقيب عن الطاقة في بحر إيجه، وقد دفع هذا اليونان للمضي قدما في تطوير وتحديث أسلحتها الدفاعية خوفا من أي تصعيد عسكري مستقبلي تقوم به تركيا، ولكن هذه الحادثة لم تكن وحدها بداية الاختلاف الاستراتيجي لدى أنقرة والذي أدى إلى قيام إدارة ترامب بفرض عقوبات ضد تركيا بعد قرارها بشراء نظام الدفاع الجوي الروسي S -400.
وقد زادت مخاوف الولايات المتحدة بشأن قيام تركيا بالهجوم على الميليشيات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا، هذا على مستوى قرارات أنقرة الخارجية المثيرة للجدل والأزمات، أما بالنسبة للداخل التركي فقد قامت الحكومة التركية الحالية ولسنوات بحملة قمع داخلية عميقة وجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة وتميزت حملة القمع تلك بالاعتقالات الجماعية، وتآكل سيادة القانون، وزيادة كبيرة في صلاحيات الرئيس.
هذا المسار السياسي يمثل ابتعادا ملحوظا لتركيا عن المسار الديمقراطي وهو ما يخالف الروح العامة لدول الناتو، علاوة على كل ما سبق فقد هددت تركيا باستخدام حق النقض ضد طلبات السويد وفنلندا للحصول على عضوية منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وسط غزو روسيا لأوكرانيا، مما أدى إلى تأخير إضافة عضوين ذوي قيمة استراتيجية إلى الحلف في محاولة أردوغان للحصول على تنازلات سياسية وقضائية من قبل السويد وفنلندا، وبشكل تراكمي، أثارت هذه التطورات تساؤلات حول مستقبل تركيا في الناتو، حيث شكك بعض الخبراء والمحللين في قيمة استمرار مشاركتها في الحلف، إلا أنه ومع ذلك، فإن مثل هذه الخطوة ستكون قرارًا غير مسبوق بالنسبة للحلف – وقد يكون قرارًا كارثيًا يثير تساؤلات حول حلف الناتو.
لكن بالعودة إلى تاريخ تركيا وملابسات إنضمامها إلى الحلف فقد انبعثت أهمية تركيا داخل الناتو في سياق انتشار الشيوعية والنفوذ السوفيتي في أوروبا، وكذلك الحرب الأهلية اليونانية التي لو كانت انتصرت فيها القوات الشيوعية اليونانية لكانت تركيا تقع بين وسط محيط جغرافي يسيطر عليه الاتحاد السوفيتي سواء على حدودها الشرقية أوالغربية، وكان هذا يعني أنها لن تكون قادرة على مقاومة الضغط السوفيتي في المستقبل، وهذا السياق التاريخي وتحديدا في عام 1947 قامت الولايات المتحدة بالموافقة على 400 مليون دولار من المساعدات المدنية والعسكرية لكل من اليونان وتركيا كتطبيق مبكر لمبدأ ترومان الذي يهدف إلى كبح النفوذ السوفيتي.
فقد اعتبر الغرب تركيا خط دفاع أول بالغ الأهمية ضد هجوم أي هجوم سوفيتي وذلك لطبيعتها الجغرافية الفريدة المتمثلة في حدودها البرية المشتركة مع الاتحاد السوفيتي وحدودها البرية مع بلغاريا المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي، وقدرتها على التحكم بشكل فعال في الوصول إلى البحر الأسود عبر المضائق التركية، وبسبب هذه الاعتبارات فإن التعاون التركي مع الغرب، كان سيضعف قدرة الاتحاد السوفيتي على تركيز قواته في منطقة واحدة، واعترافًا بالمساهمة الكبيرة التي يمكن أن تقدمها تركيا للحلف، فقد وافق أعضاء الناتو على قبول تركيا (وكذلك منافستها الإقليمية اليونان) في الحلف عام 1952.
اليوم لا تزال تركيا واحدة من أهم أعضاء الحلف من الناحية الكيفية والكمية، فهي تمتلك ثاني أكبر جيش، وتعد ثالث أكبر دولة من حيث تعداد السكان داخل الحلف، كما لا يزال موقعها الجيوسياسي يوفر ميزة استراتيجية للناتو فهي تقع على حدود مناطق ذات اهتمام رئيسي مثل روسيا وإيران والعراق وسوريا، وأوكرانيا شمالا عبر البحر الأسود، إلا أنه ومع تغير إدارة تركيا وتحول السياسات على المستوى الداخلي والخارجي يثير الشكوك حول موثوقية تركيا وملاءمتها داخل حلف الناتو.
وتعد الإجراءات التي اتخذتها تركيا كرد فعل على الغزو الروسي المستمر لأوكرانيا أحد أهم ملفات السياسة الخارجية التركية ذات الأهمية الخاصة لحلف الناتو، فلقد قامت أنقرة بدور الوسيط في هذا الصراع، وفي الوقت الذي احتفظت فيه بشراكتها الاستراتيجية مع روسيا من خلال حيازتها للأسلحة الروسية، والسماح للطائرات العسكرية الروسية بعبور الأجواء التركية لدعم القوات الروسية في سوريا، بالإضافة إلى الاعتماد على روسيا في ما يقرب من نصف واردات تركيا من الغاز الطبيعي، فإن تركيا في الوقت نفسه، كانت داعمًا قويًا للنضال الأوكراني من أجل تقرير المصير، حيث زودت كييف بالأسلحة – وأبرزها طائرة بدون طيار تركية الصنع من طراز Bayraktar TB2 والتي زودت أوكرانيا بقدرات ضربات جوية دقيقة مع تأثير كبير على القوات الروسية.
كما أنه وفي بداية الغزو الروسي أغلق المضيق التركي أمام السفن الحربية العابرة استندا إلى حقها بقعل ذلك بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936 مما منع روسيا من تعزيز قواتها البحرية في البحر الأسود.واستمرت تركيا في ممارسة دورا فاعلا من خلال موقعها الفريد حيث أظهرت تركيا بالفعل نجاحًا من خلال المساعدة في التوسط في صفقة مدعومة من الأمم المتحدة بين موسكو وكييف تسهل صادرات الحبوب والأسمدة الأوكرانية عبر حصار روسيا على البحر الأسود، وفي حين أن هذا الموقف الفريد يمكن أن يكون مفيدًا في المفاوضات المستقبلية مع روسيا، إلا أنه في الوقت نفسه اختلقت تركيا صعوبات لحلف شمال الأطلسي في هذه الأزمة، وتتمثل تلك الصعوبات في عرقلة حلف الناتو بعد تهديد أنقرة باستخدام حق النقض ضد طلبات السويد وفنلندا للانضمام إلى الناتو – والتي تتطلب موافقة جميع الأعضاء الحاليين في الحلف – وزعمت تركيا أن كلا من السويد وفنلندا يقومون بإيواء أفراد مرتبطون بحزب العمال الكردستاني الإرهابي وطالبت بتسليمهم، كما طالبت تركيا وقف العمل بقرار حظر تصدير الأسلحة إلى تركيا الذي أقرته كلتا الدولتين ردًا على عمليات تركيا العسكرية في سوريا، ورغم أن الأزمة تحسنت بعد مذكرة تفاهم في يونيو 2022 بين الدول الثلاث وقد ألزمت السويد وفنلندا بحل هذه الخلافات، لكن أردوغان صرح في أكتوبر 2022 أن موافقة تركيا على قبولهما كدولتين داخل الحلف لن يقع حتى تؤتي هذه الالتزامات ثمارها وهو ما أدى غلى تزايد القلق بشأن دور تركيا في الناتو وتراجع الثقة في الاعتماد عليها كدولة عضو.
أما فيما يخص الداخل التركي والالتزام بالمبادئ الديمقراطية، فهناك فكرة قائلة بأن النسيج الذي يربط أعضاء الناتو معًا دون وجود تهديد خارجي مشترك، هو التزام أعضائه المشترك بالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، وهذا بالفعل ما نصت عليه مقدمة المعاهدة التأسيسية للحلف ومفهومه الاستراتيجي لعام 2022 حيث نصت صراحةً على التزام الأعضاء بهذه القيم، ونتيجة لذلك فإذا فشل أحد أعضاء الناتو في الالتزام عمليًا بهذه القيم فإنه يقوض الأساس المنطقي لاستمرار وجود الحلف، علاوة على ذلك إذا كان أحد أعضاء الناتو لا يحترم هذه القيم في الداخل، فكيف يمكن للحلف الاعتماد عليه في عمل جماعي للدفاع عنه خارج سيناريو المادة الخامسة؟
ومن هذا المنظور يرى البعض أنه لا بد من فرض عقوبات على تركيا لأنها عمليا تراجعت عن الإتجاه الديمقراطي وعن سيادة القانون أو حتى إبعادها عن الناتو لفشلها في دعم قيم الحلف.
إلا أنه في الوقت نفسه لم يكن الناتو تحالفًا موحدًا للديمقراطيات الليبرالية ذات السجلات المثالية في مجال حقوق الإنسان طوال تاريخه، فالبرتغال وهي عضو مؤسس كان لديها حكومة استبدادية حتى عام 1974. كما كانت اليونان تحت سيطرة المجلس العسكري الوحشي بين عامي 1967 و1974، كما أن تركيا نفسها فقد شهدت عدة انقلابات عسكرية عدة مرات، بالإضافة إلى أن تراجع الديمقراطية ليس مشكلة تركيا وحدها فنفس المخاوف تتصاعد بشأن كل من بولندا والمجر حيث تم تصنيفها على أنها ديمقراطيتهما “متراجعة”.
إلا إن العنصر الأكثر إثارة للقلق في السياسة الخارجية لتركيا هو سلوكها غير المتكافئ تجاه حلفائها في الناتو، ويظل السؤوال الحقيقي لتركيا هو كيف سيكون موقف الحلف تجاه اندلاع صراع بين اليونان وتركيا؟ ويبدو أن المعاهدة ليس لها إجابات باستثناء معارضة من أطلق النار أولًا، وهكذا تظل قضيا مثل إيجاد حلول ودية لتقسيم قبرص، وحقوق استغلال الطاقة في بحر إيجه، والعلاقة اليونانية التركية السلبية الطويلة الأمد قضيا ليست سهلة الحل، لكن المشكلة الأكبر للحلف هو السماح لهذه القضايا بالاستمرار في التفاقم لان ذلك يهدد قدرة التحالف على البقاء كقوة فعالة للعمل الجماعي.
وقد خلصت الدراسة في النهاية إلى أنه وبالرغم من سلوك تركيا المقلق فإن حجة بقائها في الناتو قوية، فعمليا تركيا ملتزمة بالمهمة الأساسية لحلف الناتو كميثاق الأمن الجماعي، كما أن موقعها الجيوسياسي يحوز نفس الأهمية التي كان يحوزها خلال الحرب الباردة. كما أن حجم جيشها ومكانة تركيا باعتبارها الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة داخل الحلف تعد نقطة قوة للحلف فيما يتعلق بالاستجابة للأزمات في مجموعة متنوعة من الأماكن حول العالم. أما حول ما يتعلق بالتزام بقيم الحلف فمن الواضح أن تركيا ليست الدولة الوحيدة التي تشهد “تراجع” ديمقراطي داخل الحلف.
وبالطبع فإنه وعلى المستوى طويل الأمد قد يستلزم تنفيذ آلية لإخراج الأعضاء الذين لا يلتزمون بقيم الحلف ومعاييره، رغم أن ذلك أيضا لا يتوقع تحقيق اجماع جميع الأعضاء عليه، وهكذا فإنه قد تكون الإغراءات الإيجابية والإجراءات الدبلوماسية العقابية خارج الهيكل التنظيمي لحلف الناتو هي الأدوات الوحيدة المتاحة حاليًا لتشجيع تغيير سلوك الأعضاء المنحرفين، وطالما ظل الأمر على وضعه الحالي وكون تركيا مستعدة وقادرة على الالتزام بالدفاع المتبادل عن حلفائها دون تعريض أمن الحلف للخطر فسيظل وجودها داخل الحلف أصيلا وضروريا.