بقلم: محمد أبو سبحة
القاهرة (زمان التركية)_مثلت تركيا في العقد الأخير قبلة الكثير من المعارضين، للأنظمة التي تعاديها أنقرة، فكانت الملجأ لهم، فيما كانوا أداة ابتزاز لحكوماتهم في يد تركيا، وصاروا ملف ضغط على المجتمع الدولي في بعض الأحيان؛ لكن وبما أنه لكل مرحلة ما يناسبها، قرر زعيم حزب العدالة والتنمية الرئيس رجب طيب أردوغان، نسف عداوة الماضي مع حكومات الدول التي توترت العلاقات معها، واتباع فلسفة سياسية مغايرة، يصبح فيها المعارضون والمليشيات الذين كان يدعمهم على الهامش بل في مهب الريح، بعدما كانوا في بؤرة الضوء.
شهدت العلاقات بين وتركيا وعدة دول في منطقة الشرق الأوسط تطورات متسارعة خلال العام الأخير، تحولت معها الأوضاع السياسية من النقيض إلى النقيض، إذ تمكنت أنقرة خلال عام 2022 من استعادة علاقاتها الدبلوماسية الكاملة مع كل من الإمارات والسعودية وإسرائيل وهو مشوار بدأه أردوغان منذ أواسط 2020، بعد توتر وقطيعة دامت لسنوات، وقبل أن ينتهي العام الحالي، عُقد أول لقاء بين الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي خلال شهر نوفمبر، محققا بذلك قفزة هائلة في سير عملية التطبيع مع القاهرة.
ينعكس استعادة العلاقات السياسية بين تركيا والدول الشرق أوسطية، على ملف المعارضين السياسيين لدى كلا الطرفين، إذ قررت أنقرة العودة إلى الدبلوماسية الكلاسيكية حيث يقتصر التعامل على المستوى الرسمي المؤسسي بين البلدان، بعد اعتماد تركيا عقب موجة الربيع العربي على “الدبلوماسية الشعبية”، كما هو الحال في نموذج سوريا ومصر على سبيل المثال.
وبينما مصير المعارضين المصريين في تركيا لا يزال مجهولا، إلا أن الرئيس رجب طيب أردوغان عازم على ترحيل اللاجئين السوريين، وقرر التصالح مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد بعد عقد من العداء معه وتسليح المعارضين له لإسقاط نظامه، حيث ينشد أردوغان من وراء المصالحة مع دولة يتوجس الكثير من الحكام العرب المصالحة معهما، تيسير عملية نقل مليون لاجئ سوري على الأقل إلى الشمال السوري، قبل الانتخابات الرئاسية منتصف 2023. رغم أن السوريين لا يرون أن الوضع مناسب لعودتهم، لكن زعيم حزب العدالة والتنمية يريد أن يقطع الطريق على المعارضة التي تروج لترحيل اللاجئين من أجل تحقيق مكسب انتخابي، حيث لم يعد تشبيه اللاجئين بالمهاجرين ومن يحتضنهم بالأنصار، حيلة تجذب حتى أصوات التيار المحافظ الذي كان متعاطفا مع قضية اللاجئين في بادئ الأمر، لكن الشعب التركي فقد هذا التعاطف مع تجاوز التضخم النقدي حاجز 80 بالمئة، وبات يرى في اللاجىء سببا في تقلص سوق العمل وتدني الرواتب.
وفي الإمارات على سبيل المثال أدى إصلاح العلاقات بين أبو ظبي وأنقرة عام 2021، إلى إجبار زعيم المافيا التركي سادات بيكر على الصمت، وهو الذي لجأ إلى الإمارات في العام ذاته قادما من عدة بلدان أخرى، فرارًا من الملاحقات الأمنية في تركيا.
بعد أن فتحت الإمارات أبوابها إلى سادات بيكر، ومنحته الحصانة الكاملة، استطاع الرجل ابتزاز النظام التركي بشكل مثير عبر كشف العديد من ملفات الفساد التي تورط فيها مسؤولون حاليون وسابقون، من خلال مقاطع فيديو كان يبثها على قناة يوتيوب باسمه عليها أكثر من مليون مشترك، وظل ينتظر الأتراك حلقاته كل أسبوع والتي أحدثت ضجة كبيرة، لكن بيكر توقف فجأة بعد ثلاثة أشهر في يونيو 2021 بعد أن توعد الرئيس أردوغان بتخصيص حلقة عنه، وبدأ ينسحب تدريجيًا من منصات التواصل الاجتماعي، وبعد أن أعلن بيكر استدعائه من قبل جهاز الاستخبارات الإماراتي، قال محاموه إنه فرضت عليه الإقامة الجبرية وعدم التواصل عبر الإنترنت مقابل عدم ترحيله إلى تركيا، وفي هذه الأثناء كانت قد بدأت عملية تطبيع العلاقات بين تركيا والإمارات بشكل متسارع وزار تركيا في أواخر العام الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي آنذاك الذي أصبح لاحقًا رئيس البلاد، فيما لا يزال مصير سادات بيكر مجهولا.
في تركيا، بعد أن أعلن الرئيس أردوغان الحرب على النظام السياسي المصري الجديد الذي أصبح تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، باتت خلال الأشهر الماضية، جماعة الإخوان المسلمين الذين احتضنهم أردوغان منذ عام 2013، ضحية التقارب الذي ينشده أردوغان، إذ نزع منهم صلاحيات تمتعوا بها لسنوات ، تمثلت في توفير سبل مهاجمة النظام من على الأراضي التركية.
في عام 2021 عندما أطلق أردوغان أولى تصريحاته التصالحية مع مصر ومن ثم بدأت الجولات الاستكشافية لتطبيع العلاقات، قال إعلاميون يقودون الحراك الإعلامي الإخواني، مثل معتز مطر وحمزة زوبع ومحمد ناصر وهشام عبد الله، إن تركيا حذرتهم من أي هجوم على النظام المصري وإلا فستكون النتائج سلبية، مما اضطرهم إلى مغادرة البلاد، وفي إطار ذلك أوقفت السلطات قناة “مكملين” التي استكملت البث لاحقا من لندن، ومنعت قناتي “الشرق” و”وطن” من تقديم أي برامج معارضة لمصر على الإطلاق.
وفي أواخر أكتوبر 2022 تم اعتقال أكثر من 30 من جماعة الإخوان للتحقيق معهم بسبب إدارتهم حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تهاجم مصر، بينهم الإعلامي الإخواني المعروف حسام الغمري، الذي توقف برنامجه “رؤية” الذي كان يقدمه على قناة الشرق. الاعتقالات جاءت تزامنا مع تحضيرات كان يقودها الإخوان من أجل إطلاق مظاهرات في مصر يوم 11-11، كما جائت متزامنة مع إعلان وزير الخارجية سامح شكري توقف المفاوضات مع تركيا بسبب عدم تحقيق نتائج ملموسة.
التصالح مع إسرائيل بعد تصدع العلاقات خلال فترة حكومة نتنياهو السابقة، جاء على حساب حركة حماس، التي أصبح نشاطها في تركيا مجمدا تنفيذا لطلب تل أبيب التي وقعت بروتوكول تعاون مع جهاز الاستخبارات التركي، فيما أكدت أنقرة أنها ترغب في استمرار العلاقات بعد تولي حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة السلطة مجددا.
وفي مصر، مثل العديد من الدول يتواجد عدد من المعارضين للرئيس أردوغان من أعضاء حركة الخدمة التي يتهمها الرئيس رجب طيب أردوغان بتدبير محاولة انقلاب عام 2016 -دون تقديم أدلة واضحة-. يشعر الأتراك المعارضون الذين تمنع السفارة التركية تجديد جوازات سفرهم بالقلق، إذ يتخوف هؤلاء من مواجهة مصير مشابه لما تعرض له أقرانهم في دول أخرى من الترحيل القسري والاعتقال والتعذيب في تركيا.
الأويغور الصينيون ذوي الأصول التركية، كانت قضيتهم أولى القضايا التي تصدرت تركيا أردوغان للدفاع عنها وتدويلها، لكن التهديد الصيني بقطع العلاقات التجارية مع تركيا، جعل أردوغان منذ عام 2020 في آخر صفوف المدافعين عنهم، وتم تسجيل عدة وقائع ترحيل لنشطاء أويغور في الأعوام الماضية، ووصل الأمر إلى تهديد صريح من ضابط شرطة تركي للأويغور المتظاهرين أمام سفارة بلادهم بالترحيل إذا لم يفضوا مظاهرتهم الأمر الذي أحدث ضجة.
تركيا تتبع نهجا جديدًا سيبني خلاله أردوغان دبلوماسيته على تجربة السنوات الماضية؛ ويخطئ من يظن أن الرئيس التركي الذي يفعل كل شيء لضمان الفوز بولاية جديدة، سيتخلى عن جميع أوراق الضغط التي بحوزته، فرغم موجة التصالح التي أطلقها زعيم حزب العدالة والتنمية، إلا أنه مستعد للعودة إلى العداوة مجددا، ولنا في العلاقات التركية اليونانية أكبر مثال على ذلك، إذ أن الإعلان عن التصالح مع اليونان في السنوات الماضية كان متكررا لأنه لا يدوم كثيرا، حيث ينكث أردوغان العهد في كل مرة.