بقلم: ياوز أجار
٢.٠) الحقبة الجمهورية
بعد الانعقاد الأخير للبرلمان العثماني في إسطنبول يوم ١٢ يناير ١٩٢٠، عقد برلمان الجمعية الوطنية الكبرى بتركيا اجتماعه الأول في ٢٣ أبريل ١٩٢٠ والذي بدأ بالأدعية والأذكار، عقب أداء صلاة الجمعة في مسجد “حاجي بيرم” بالعاصمة السياسية الجديدة أنقرة.
عقب ذلك اجتمعت الجمعية الوطنية الكبرى للمرة الثانية بعد يوم واحد في ٢٤ أبريل ١٩٢٠، لتنتخب مصطفى كمال أتاتورك رئيسًا للبرلمان، وظل يحتفظ بهذا المنصب حتى ٢٩ أكتوبر ١٩٢٣ حيث تم انتخابه رئيسًا للجمهورية.
٢.١) أسس النظام الجديد
قانون “التشكيلات الأساسية” أو المعروف بـ”دسور ١٩٢١”، الذي اعتمده البرلمان في ٢٠ يناير ١٩٢١، حدد أسس النظام الجديد القائم على سيادة الشعب والتفوق البرلماني، حيث نصت المادة الأولى على أن السيادة للشعب بدون شرط أو قيد، وأكدت المادة الثانية على أن البرلمان هو الممثل الوحيد والحقيقي للأمة، وأنه يحوز جمع السلطة التشريعية والتنفيذية معا، في حين ذكرت المادة الثالثة أن دولة تركيا سيتم إدارتها من قبل البرلمان، وأن الحكومة ستحمل اسم “حكومة الجمعية الوطنية الكبرى التركية”.
ومن ثم قدم مصطفى كمال باشا اقتراحا إلى البرلمان لتشكيل حكومة يكشف خصائص وطبيعة الإدارة الجديدة، حيث اقترح شكل إدارة يقوم على أساس السيادة البرلمانية ووحدة السلطات بدلا من فصلها، أي أن البرلمان هو الذي كان سيسيطر على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية معًا. وبحسب الاقتراح، فإن هيئة يختارها البرلمان من نواب منتخبين سوف تتولى شؤون الحكومة تحت قيادة رئيس البرلمان.
بدأ برلمان الجمهورية الأول في شهوره الأولى بسن سلسلة من القوانين المهمة، أبرزها قانون “خيانة الوطن” الصادر في ٢٩ أبريل ١٩٢٠. وبموجب هذا القانون، صدر مرسوم يقضي بأن الذين يعارضون شرعية البرلمان الجديد يعتبرون خونة، وأن قرارات المحاكم في هذا الصدد ستكون نهائية بعد موافقة البرلمان، مما يشير إلى أن البرلمان جمع في يده السلطة القضائية أيضًا، إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية.
مصطفى كمال باشا لم يعارض السلطنة والخلافة العثمانية بشكل مباشر، بل أكد قانون أصدره في ٥ أيلول ١٩٢٠ أن هدف البرلمان الجديد المشكل في أنقرة هو “إنقاذ الخلافة والسلطنة والوطن والأمة وتحقيق استقلال البلاد”، مما منع ارتفاع أصوات مختلفة في البرلمان ممن يؤيدون السلطنة. لكنه اعتبر في الوقت ذاته أن السلطان سجين في إسطنبول المحتلة من قبل الإنجليز، وبالتالي لا فائدة من إقامة علاقات مع حكومة إسطنبول. فقد ذكر قانون صدر في ٧ يونيو ١٩٢٠ أن إسطنبول محتلة، واعتبر جميع الاتفاقات والإجراءات التي اتخذتها حكومة إسطنبول اعتبارا من ١٦ مارس ١٩٢٠ باطلة، إلا إذا وافق عليها البرلمان الجديد في أنقرة، الذي وصف نفسه بأنه الهيئة السياسية الشرعية الوحيدة التي تتمتع بسلطة تشريعية وتنفيذية.
وفي ١١ سبتمبر ١٩٢٠، أصدر البرلمان قانونًا جديدًا أنشئت بموجبه “محاكم الاستقلال” الشهيرة. وقضى القانون بأن ثلاثة نواب ينتخبهم البرلمان سوف يشرفون عليها، وكل قرار صادر منها سوف يكون نهائيا غير قابل للنقاش والاستئناف. وشمل اختصاص محاكم الاستقلال جرائم الفرار من الخدمة العسكرية، وخيانة الوطن، والتجسس، وتحطيم القوة المادية والمعنوية للبلاد بأي شكل من الأشكال.
٢.٢) حقبة الحزب الواحد
في المرحلة التأسيسية للجمهورية لم يسمح إلا لحزب واحد فقط بالمشاركة في الجمعية الوطنية الكبرى الثانية التي جرى انتخابها في ٨ أبريل ١٩٢٣، وهو حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، والذي يعتبر امتدادا للجناح العلماني في جمعية الاتحاد والترقي في الحقبة الإمبراطورية. بمعنى أن من أطاح بعبد الحميد كان الجناح العسكري للاتحاد والترقي، ومن أسس الجمهورية الجديدة كان الجناح السياسي للاتحاد والترقي. وهذه الكوادر هي التي حكمت في فترة الحزب الواحد وقادت الانقلابات العسكرية الأربعة أو الخمسة التي شهدتها تركيا حتى بدايات الألفية الثالثة.
جميع الكوادر التي قادت حرب الاستقلال كانت بيروقراطيين مدنيين وعسكريين وطنيين نشأوا وتربوا في البيئة الأيديولوجية القومية التي أنتجتها المنشورات التابعة لجمعية وحزب الاتحاد والترقي. لكن بعدما وضعت الحرب أوزارها وانتهى الاحتلال في الأناضول ظهر بصورة تدريجية خلافٌ في الرؤى وصراع على السلطة بين تلك الكوادر ذاتها.
بعد عام واحد من قيام الجمهورية التركية، وتحديدا في نوفمبر ١٩٢٤، بادرت مجموعة من رفاق السلاح والقضية لأتاتورك، في مقدمتهم كاظم قره بكر، وعلي فؤاد جبصوي، ورؤوف أورباي، وعدنان أديوار، إلى تشكيل أول حزب معارض في الجمهورية الوليدة باسم “الحزب الجمهوري التقدمي”، مما شكل منعطفا تاريخيا في البلاد.
وبعد ست سنوات، وتحديدًا في ١٧ أكتوبر ١٩٣٠، جرى تأسيس الحزب الجمهوري الليبرالي أو الحزب الجمهوري الحر على يد علي فتحي بك، بموافقةٍ بل اقتراحٍ من أتاتورك. وكان أعلن هذا الحزب التزامه بمبدأ الجمهورية والقومية والعلمانية، مثل الشعب الجمهوري، وشجع على دخول الأموال الأجنبية للبلاد، مع المطالبة بعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية باستمرار.
إلا أن حياة هذين الحزبين لم تدم طويلا، حيث حظر أتاتورك الحزب الأول في ٥ يونيو ١٩٢٥ بعد الثورة التي قادها الشيخ سعيد بيران في جنوب شرق تركيا ضد سياسات “التتريك” لحكومات مصطفى كمال بحق الأقليات. لكن الثورة انتهت بالفشل وصدر حكم بالإعدام بحق الشيخ سعيد مع ٤٧ من قادة الثورة الآخرين، ليتم تنفيذ الحكم في ٣٠ أيار ١٩٢٥، وذلك إلى جانب تدمير ٩٠٠ بيت وحرق وإزالة ٢١٠ قرىة، وسقوط حوالي ١٥ ألف قتيل من الأكراد، وتهجير عشرات الآلاف من الكرد إلى سوريا وغيرها من المناطق المجاورة في أعقاب قمع الحركة بالعنف.
أما الحزب الثاني فأغلقه أتاتورك بعد ثلاثة أشهر فقط من تأسيسه، ليحكم تركيا كرئيس للجمهورية مع عصمت إينونو الذي تولى رئاسة كل من حزب الشعب الجمهوري والحكومة حتى ١٩٥٠، حيث وصل الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس إلى سدة الحكم ليضع نقطة النهاية لعهد نظام الحزب الواحد المستمر ربع قرن من الزمن.
الواقع أن قادة الحزب الجمهوري التقدمي المعارض لم يكونوا مختلفين من الناحية الأيديولوجية من حزب الشعب الجمهوري بقيادة أتاتورك، بل هم أيضًا كانوا ينتمون إلى فئة البيروقراطيين العسكريين والمدنيين. ومع أن الحزب الجمهوري التقدمي نص في برنامجه العام على أنهم “سيحترمون للإسلام”، غير أن هذه العبارة لم تكن نابعة من الإسلاموية كأيديولوجية، وإنما كانت تعبر عن تحفظه فيما يخص إصلاحات أتاتورك الثورية الراديكالية. كلاهما كان حزبا قوميا جمع بين قادتهما الماضي القريب خلال فترة الحرب والسلم. لذلك فإن عبارة “ضرورة احترام الإسلام” كانت تتعلق بالصراع السياسي والمنافسة الشخصية ورد الفعل الذي أبداه الحزب الجمهوري التقدمي المعارض تجاه وتيرة إصلاحات التحديث والعصرنة الثورية للحزب الحاكم.
تجربة الحزب الجمهوري التقدمي في ١٩٢٤ تختلف عن تجربة الحزب الجمهوري الحر في ١٩٣٠ التي استمرت ٣ أشهر فقط؛ فالأولى مثلت الصراع على السلطة والنفوذ بين الكوادر التي تنتمي كلها إلى المجموعة عينها التي قادت حرب الاستقلال. في حين مثلت التجربة الثانية التوترات الداخلية في حزب الشعب الجمهوري الحاكم. إذ كان أتاتورك يستهدف كرئيس للجمهورية إنشاء آلية رقابة داخل الحزب وإقامة توازن بين رئيس الوزراء عصمت إينونو وفتحي أوكيار الذي كان يعتبر من بين أبرز قادة الحزب. ولكن التوجه الشعبي المفرط إلى الحزب الجديد أثار قلق أتاتورك وإينونو من جانب؛ ومن جانب آخر كشف عن مدى السخط الشعبي تجاه إجراءات الحكومة، الأمر الذي دفعهما إلى حل الحزب المؤسس ليقوم بدور معارضة محدودة.
٢.٣) محاولة اغتيال أتاتورك
بحسب الرواية الرسمية، فإن السلطات كشفت عن محاولة لاغتيال رئيس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك في ١٤ يونيو ١٩٢٦ من قبل وزراء سابقين ونواب وولاة، لكنها ظلت في طور التخطيط فقط دون تنفيذها على أرض الواقع. انكشفت الخُطة بسبب تأجيل سفر أتاتورك إلى إزمير عقب التلغراف الذي أرسله إليه والي المدينة محمد كاظم بك. وبعد فترة قصيرة اُلقي القبض على أربعة أشخاص واعترفوا بجرمهم، لكن التحقيقات اللاحقة أظهرت أن هناك مجموعات مُعارضة أوسع خلف الخطة.
وفقًا لمزاعم شخص يدعى شوقي الجريتلي، له سوابق عدلية، كان النائب ضياء خورشيد ورجاله يقفون وراء محاولة الاغتيال. ومن اللافت للنظر أن هذه المزاعم جاءت في أعقاب حظر الحزب الجمهوري التقدمي وثورة الشيخ سعيد بيران.
وبدأت حملات اعتقال موسعة في كل من إسطنبول وأنقرة وإزمير، طالت مؤسسي الحزب الجمهوري التقدمي المعارض أيضًا، مثل كاظم قره بكر، علي فؤاد جبصوي، رأفت بله، جعفر طيار والميرالاي عارف بك وغيرهم من الشخصيات البارزة التي أشعلت فتيل حرب الاستقلال مع أتاتورك.
وقد جرى التحقيق مع ١٣٠ مُتهماً، وصدرت في نهاية المحاكمات أحكام بإعدام ١٥ شخصًا في إزمير من أصل ٤٠ محكومًا عليهم، و٤ آخرين في أنقرة، من أصل ٥٧ محكومًا عليهم، ونفي ٦ أشخاص، وحبس اثنين، إلى جانب إخلاء سبيل ٣٤ شخصًا دون داع للمحاكمة.
وكان النائب ضياء خورشيد، ووزير الاقتصاد السابق في العهد الجمهوري جاويد بك، والنائب الشركسي الأصل إسماعيل جنبلاط، والدكتور ناظم -رغم غياب أدلة تثبت صلته بمحاولة الاغتيال- من الشخصيات السياسية التي صدر بحقهم حكم بالإعدام شنقا.
تذكر المصادر أن الأغلبية الساحقة من المتهمين بالتورط في التخطيط للاغتيال كانوا من رفاق درب أتاتورك ومنحدرين من جمعية الاتحاد والترقي. فقد كان كل من ضياء خورشيد وعارف بك من المؤمنين والملتزمين بأفكار ومُثل النظام الجمهوري الذي أسسوه بالتعاون مع أتاتورك. رغم هذه الحقيقة فإن وسائل الإعلام التابعة للحزب الحاكم صوروا محاولة الاغتيال وكأنها مناصرة للخلافة والسلطنة ومعارضة للنظام القائم. حتى إن رئيس الوزراء في تلك الفترة عصمت إينونو اعترف في تصريحاته اللاحقة لصحيفة “أقشام” بأن المخططين للاغتيال لم تكن لهم أي مشكلات مع النظام الجمهوري، بل كانوا من أنصار جمعية وحزب الاتحاد والترقي. فوق ذلك فإن الدكتور ناظم كان مؤيدا للتغريب والأوربة أكثر من أتاتورك، وكان من قادة الخط العلماني داخل الاتحاد والترقي.
وطبقًا لما نفهمه من التطورات اللاحقة، فإن أتاتورك كان على علم بالتخطيط منذ البداية، وتابع المتورطين فيه عن كثب، بل وجههم على نحو سمح له فيما بعد بإجراء تصفية سياسية ضد خصومه وإن لم تكن لهم أي صلة بالموضوع. فهو لم يتخلص بذريعة هذه المحاولة من الاتحاديين القدماء فحسب وإنما وسع نطاق حركة التصفية بحيث شملت المعارضين داخل حزبه الشعب الجمهوري أيضًا.
وقد صرح رئيس المحكمة كيليج علي، في كتابه “ذكريات محاكم الاستقلال”، أن أتاتورك انزعج خصوصًا من تصريحات وخطابات كاظم قره بكر وطالبه بمعاملته بقسوة. وكذلك التقى أتاتورك رئيس الأركان فوزي شاكماك، وشكا إليه كاظم قره بكر بدعوى محاولة اغتياله. غير أن فوزي شاكماك اعترض على رغبة أتاتورك في إعدامه لتمتعه بسمعة طيبة في الجيش باعتباره أبرز قادة حرب الاستقلال، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن المزاعم الواردة حول محاولة الاغتيال قد لا يكون كلها صحيحا. ولذلك رضي أتاتورك بتبرئته، مع رأفت بك، شريطة عدم الانخراط في السياسة.
عقب تصفية المعارضين خارج الحزب الحاكم وداخله، توجه أتاتورك إلى ترسيخ أركان نظام الحزب الواحد وتنفيذ إصلاحاته الثورية الراديكالية، وسط مناخ خوف ساد البلاد بعد الاعتقالات الموسعة التي جرت في إطار قضية محالة الاغتيال.
خلاصة القول: لقد انتهى الصراع على السلطة بتصفية سياسية كاملة للمعارضين وإشاعة خوف ضد كل من يرغب في إطلاق حزب أو حركة سياسية جديد عقب الكشف عن محاولة اغتيال أتاتورك في إزمير في مرحلة التخطيط.
–