أكرم دومانلي
أطرح سؤالًا بسيطًا جداً: ما هو المعيار الذي يعتمده حزب العدالة والتنمية في إدارة دفة الحكم في تركيا؟ أهو الدستور؟ أم القوانين؟ للأسف، فالحزب لايدير البلاد وفق أي من المعايير المذكورة!
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]نحن أمام شكل من أشكال الإدارة يعتمد على التعسفية وينقاد لرطانة البلطجة الجوفاء. فأين المعايير الديمقراطية؟ ألغي العمل بها منذ زمن بعيد. وأين المبادئ القانونية؟ وضعوها في الثلاجة. [/box][/one_third]نحن أمام شكل من أشكال الإدارة يعتمد على التعسفية وينقاد لرطانة البلطجة الجوفاء. فأين المعايير الديمقراطية؟ ألغي العمل بها منذ زمن بعيد. وأين المبادئ القانونية؟ وضعوها في الثلاجة. حسنًا، فعلى أساس أي معيار أو مبدأ إذن يدار هذا البلد الجميل؟ طبعاً يدار وفق رغبات السادة واللوردات وأبنائهم ونوبات غضبهم وأطماعهم وما إلى ذلك من شهواتهم!
إليكم بعض الأمثلة التي تجسّد ما أقوله: يخرج أعلى مسؤول بالدولة، رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، في جولة إفريقية، ويطلب ممن التقاهم من المسؤولين المحليين إغلاق المدارس التركية العاملة هناك. ثم يعدهم ويمنّيهم بقوله: “أغلِقوها لنفتح مدارس جديدة بدلًا عنها”. فبأي حق يقول ذلك؟ أليست هناك مسؤولية قانونية تترتّب على توليه أعلى منصب في الدولة؟ وإلى أي صلاحيات منصوص عليها في الدستور أو القوانين تستند حتى تذهب إلى هذه البلاد البعيدة وتطلب من مسؤوليها إغلاق هذه المدارس التي بذلت الجمعيات المدنية الخاصة أقصى ما بوسعها لإقامتها من أجل أبناء هذه البلدان؟
“قصاصة الورق” المحظورة
يا له من وضع مأسوي أن يفكر رئيس الوزراء أو أعضاء حكومته بالمنطق نفسه! أي قانون يعطي الحق لموظف مهما كان مركزه أن يضيع جهود أحد المواطنين؟ أي معيار وأي إنصاف وأي اعتقاد وأي ضمير هذا؟!
كنّا نشهد احترامًا للقانون والنظام العام، بنسبة ما، حتى في أيام الانقلابات العسكرية؛ فعلى الأقل كانوا يحترسون من الخروج على الحدود القانونية. ولا تُحلَّ المشكلة بأن يقول السيد أردوغان “أنا لست رئيس جمهورية عاديًا”. بل سيردّ الطرف المقابل بقوله “وأنا أيضًا لست مواطنًا عاديًا”، ثم ما يلبث المواطن أن يستخدم حقّه الديمقراطي الأساسي. أي لا يصمت أبداً!
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]كنّا نشهد احترامًا للقانون والنظام العام، بنسبة ما، حتى في أيام الانقلابات العسكرية؛ فعلى الأقل كانوا يحترسون من الخروج على الحدود القانونية. ولا تُحلَّ المشكلة بأن يقول السيد أردوغان “أنا لست رئيس جمهورية عاديًا”. بل سيردّ الطرف المقابل بقوله “وأنا أيضًا لست مواطنًا عاديًا”، ثم ما يلبث المواطن أن يستخدم حقّه الديمقراطي الأساسي. أي لا يصمت أبداً![/box][/one_third]نعيش في تركيا حاليًا عملية من الترهيب التمييزي، فيهدمون جدران المدارس المتهمة بقربها من جماعة الخدمة، ويفكّون لافتاتها، ويرسلون المفتشين ليقوموا بعمليات دهم ضدها. فما معيار هذه العملية؟ المعيار هنا الحسد والحقد الذين يعصفان بداخل أصحاب الأطماع ويأكلان قلوبهم كما تأكل النار الحطب وعمليةُ إقصاء تهزّ الضمائر.
هناك وجه آخر للصورة: على سبيل المثال، يصرخ أحد المواطنين بعدما صودرت أرضه عقب قيام السيد بلال؛ نجل الرئيس أردوغان، بعملية استكشاف لها، فينقلون ملكية منشآته التي تبلغ من العمر 17 عامًا ذاتَ صباحٍ إلى بلال أردوغان تنفيذًا لحكم محكمة. فكم من قطع الأراضي والمنشآت نقلت ملكيتها إلى الأبناء والأصهار وأصدقائهم (عبر الأوقاف والجمعيات)؟ فإذا كان هناك من يعرف تفاصيل هذه العملية فليتفضل وليخبرنا وفق أي معيار جرت هذه العملية؟
صرختْ أمام عدسات الكاميرات أمُّ علي إسماعيل الذي قتلته الشرطة: “هل كان يجب أن تكون نفس ابني رخيصة إلى هذه الدرجة؟ هل هذا عدلكم؟!”. وبالرغم من مرور وقت طويل فهذه الأم الثكلى لم تستطع أن تنظر إلى مشهد ضرب ابنها.
امتلأت عيناي بالدموع. فأي أم تستطيع أن تنظر إلى مشاهد قتل فلذة كبدها؟ عقوبة تلك الجناية الشنعاء المشؤومة هي السجن 10 سنوات! وأذكّركم بأن النيابة طالبت بحبس الصحفية صدف كاباش 5 سنوات بسبب تغريدة نشرتها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، 5 سنوات من السجن لتغريدة على تويتر، و10 سنوات من الحبس لارتكاب جريمة قتل! كتبت الصحفية كاباش عبارة مثيرة على تويتر؛ إذ قالت: “كما أننا نذهب للاستجواب كذلك فليذهب بلال أردوغان إلى النيابة للاستجواب”.
إن القضية ليست لها علاقة ببلال، الذي أعلنه البعض وليًا للعهد، أو حتى بوالده الرئيس أردوغان، بل إن ما يدمي القلوب هو أن القانون يسري على أصحاب النفوذ والسلطة بشكل مختلف عما يسري به على الأشخاص العاديين!
ما إن ظهرت المحاضر الرسمية الخاصة بالشاحنات التابعة لجهاز الاستخبارات الوطني التركي حتى أصدرت المحكمة حظرًا في منتصف الليل. يا الله على حال من نشروا “الوثائق السريّة”! وقد خرج نائب رئيس الوزراء بولنت آرينتش ووصف هذه الوثائق بأنها “قصاصات ورق”. طالما أن هذه الوثائق عبارة عن قصاصات ورق إذن فلماذا يُفرض حظرٌ بحكم محكمة على نشرها!
كان رئيس هيئة أركان الجيش التركي الأسبق إيلكر باشبوغ أطلق الوصف نفسه (قصاصات ورق) على وثيقة من الوثائق عندما كان في منصبه. ولاتنسوا أن هناك أشخاصًا اعتقلوا وسجنوا حتى دون أن تكون هناك أي “قصاصات ورق” تدينهم. وهو ما يعني أنه عندما تخص القضية شخصية مرموقة بالدولة تتحوّل أكثر الوثائق قيمةً على الفور إلى “قصاصات ورق” عديمة الأهمية. فالدولة هي الدولة القديمة التي لم تتغير، والعقلية هي العقلية السابقة التي لم تتبدل. أين تصريحاتهم التي صدّعوا بها رؤوسنا عندما كانوا يقولون: “لن يكون هناك قانون للسادة واللوردات، بل ستكون سيادة للقانون”؟!
لقد أصدروا تعليماتهم لمنع التحقيقات في ملفات الفساد بالرغم من وجود عشرات المعلومات والوثائق والمستندات القانونية. كما أغلقوا الباب عن طريق ممارسة الضغوط أمام إحالة ملفات الوزراء المقترنة أسماؤهم بالفساد إلى المحكمة الدستورية العليا. إن الذين يقدّمون ما سوّده رجل الأعمال الإيراني رضا ضراب على ورقةٍ أو قل على “منديل” في فندق كـ”دليل” ثم يحاولون التستّر على التحقيق في قضية الفساد والرشوة استناداً إليه.. نراهم يصدرون الأحكام جزافاً على مكافحي الفساد من الشرطة والمدعين العموم دون أن يكون أي دليل ملموس أبداً، فلماذا؟
كانت المحكمة قد أصدرت حكمًا يخص المنشأة المخصصة لوقف الصحفيين والكتّاب الأتراك، وأوقفت الإجراء التعسفي المتخذ ضدها. لكن هناك بعض الأشخاص الذين يدعون أنهم مسؤولو المديرية العامة للأوقاف لم يسمحوا بتطبيق هذا الحكم. بل إنهم لجأوا إلى استخدام القوة الخشنة لمنع ذلك. ومن ثم يخرجرون قائلين: “لا نعترف بحكم المحكمة”. وهل بقيت أية جدية للحكومة كي تستطيع أن تقول لهؤلاء: “العفو! من أنت حتى لا تعترف بحكم المحكمة؟”. ولا يخفى على أحد كيف وصلنا إلى هذه المرحلة.
ألم يقل من يحكمون تركيا بشأن انتخابات المجلس الأعلى للقضاء “يمكن أن نعلن أن هذه الانتخابات غير قانونية إن لم تسفر عن النتائج التي نريدها”؟ ألم يقل رئيس الجمهورية أردوغان عقب رفع الحظر الذي كان مفروضًا على موقع تويتر “لا أحترم قرار المحكمة الدستورية”؟ ألم يقل أحد وزير الداخلية عندما كان يعمل مستشارًا “لا داعي لحكم المحكمة، اكسروا الباب وألقوا القبض على ذلك الرجل… فلا تخافوا من النيابة، فإن استلزم الأمر سنصدر قانونًا يحميكم من توجيه أي اتهام لكم”؟
تعليق العمل بالدستور في تركيا
نأمل أن يعتبر أولو الألباب من الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة ديار بكر الواقعة جنوب شرق تركيا: تقطع شركة توزيع الكهرباء في المدينة (ديداش) الكهرباء عن مبنى البلدية. فترد البلدية بحفر خنادق عند بابين من أبواب الشركة وتتخذ قرارا بـ”تشميع مجاري المياه غير القانونية” التابعة للشركة. وتقول رئيسة بلدية ديار بكر جولتان كيشاناك “لقد قاموا بأعمال قطع طريق” (تقصد شركة ديداش لتوزيع الكهرباء).
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إذا أردتم أن تحكموا حتى قرية فعليكم أن تتبعوا قانونًا محددًا. وإذا رغبتم في إدارة الوضع على حسب هواكم، فلاشك في أنكم ستضعون أنفسكم محل تساؤل باستمرار. إن نظام العدل هو الذي يحيي الدول، وهو مكلَّف بالمساواة بين المواطنين كافة، وما يخالف ذلك يعتبر ظلمًا بيّنًا لا يمكن أن تعمر البلاد وتنهض به…[/box][/one_third]هذا ما فعلته مدينة ديار بكر، فهل ستسكت مدينة ماردين المجاورة لها؟ بطبيعة الحال لا. فردّت بلدية ماردين على قطع شركة (ديبساش) لكهرباء المضخات المسؤولة عن ضح مياه الشرب بالمدينة بحفر خنادق أمام مباني الشركة بعدما أعلنت أن هذه المباني “بنيت بشكل مخالف للقانون وبدون تراخيص”. وهناك أحكام صادرة عن المحكمة، لكن أحدًا لا يضعها في اعتباره.
ويمكن أن نسرد مئات الأمثلة من هذا النوع. نرى جميعًا أنه لم تعد هناك ثقة في القانون في تركيا. وكان الكاتب طه آكيول قد وجّه انتقادًا ذا مغزى إلى المجلس الأعلى للقضاء يتعلق بكثرة تعيين العاملين في السلك القضائي في مدة قصيرة؛ إذ قال: “لقد انتهك المجلس الأعلى للقضاء اللوائح الخاصة به”. وهو محق في ذلك وهو لايعتبر واحدًا من أبرز الكتّاب الأتراك فحسب، بل هو – في الوقت نفسه – قانوني ثابت على مبادئه لم يفقد موضوعيته في أي وقت. فنداؤه هذا موجه لإنقاذ القانون في تركيا، وفورته هذه من أجل إقرار العدل فقط. فهل يمكن أن ننظر بعين التفاؤل إلى عاقبة تركيا إذا لم يراعِ حتى القانونيون الدستورَ والقوانين المعمول بها؟
للأسف، فإن انتهاك القانون أصبح عادة ونظام الشراسة طريقة في الحكم. لقد علّقوا العمل بالدستور، وجعلوا القوانين تحت أقدامهم. فإذا انتهك القائمون على حكم البلاد القوانين باستمرار وانتشرت التعسفية في كل مجالات الحياة ألا تتشوّش الأذهان وتتألم الضمائر؟
إذا أردتم أن تحكموا حتى قرية فعليكم أن تتبعوا قانونًا محددًا. وإذا رغبتم في إدارة الوضع على حسب هواكم، فلاشك في أنكم ستضعون أنفسكم محل تساؤل باستمرار. إن نظام العدل هو الذي يحيي الدول، وهو مكلَّف بالمساواة بين المواطنين كافة، وما يخالف ذلك يعتبر ظلمًا بيّنًا لا يمكن أن تعمر البلاد وتنهض به…
عملية فضْح تركيا أمام العالم
يعاني رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو وبعض مسؤولي حزب العدالة والتنمية حالة من الكآبة تدمي القلوب. ففي الوقت الذي يشددون فيه على فكرة “الكيان الموازي” بشكل غير متزن ومخالف لمبادئ الحق والحقيقة، فقط من أجل إرضاءِ مَنْ في القصر الرئاسي، نشهد تنفيذ إجراءات متتالية من شأنها فضْح تركيا أمام العالم بأسره.
أذكر على سبيل المثال أن جميع التصريحات التي يدلي بها داود أوغلو بشأن حرية الإعلام هي بمثابة “فضائح” بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ لأنها ليس بينها وبين الواقع أدنى علاقة. ولهذا السبب فهو غير قادر على إقناع العالم.
تسعى السلطة الحاكمة في تركيا إلى فرض التمييز القسري والإقصاء وتكميم الأفواه على الإعلام بوتيرة لم نشهد مثلها قبل ذلك أبدًا. فمَن يمكنهم أن يقنعوه بوجود حرية إعلام في تركيا من خلال بعض التصريحات “الوردية” الخيالية في وقت تتعرض فيه المؤسسات الإعلامية كافة لحملة شرسة وضغوط كبيرة؟! الوضع واضح للعيان!
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]يَستخدم مَن يحكمون تركيا إراداتهم في طريق زيادة وطأة القبضة الأمنية وليس في طريق الحرية، لتزيد ميولهم الاستبدادية للمحافظة على الوضع الراهن. أما عامة الشعب فيشتاقون إلى الشخصيات التي رسمت صور رجل فكر بفضل انفتاح فكرها ومواقفها التحررية ومنطقها السديد. فهل بأيدينا ألا نحزن على ما آل إليه حالنا؟ إنهم لا يفضحون أنفسهم فحسب، بل يفضحون تركيا أيضًا![/box][/one_third]هل بمقدورهم إقناع أوروبا بأبسط وقائع التمييز الإعلامي التعسفي التي تحدث في تركيا؟ مَن سينخدع بهذه اللعبة الرخيصة؟ لم يتورّعوا عن قول كل شيئ عندما كان العسكر يقومون بذلك، لكنهم اليوم يفعلون ما هو أقبح من ذلك، ومِن أجل ماذا؟ من أجل لا شيئ!
وهذه هي الأزمة الأخيرة: تعدّ حزمة قوانين جديدة لعرضها على البرلمان. نعرف أن رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو قال: “لن يكون هناك حزمة قوانين بعد اليوم”، ذلك أن نائبه بولنت آرينتش قال: “لا نسعى لإدراج مصطلح حزمة القوانين في أدبيات التشريعي التركي، بل سنلغي هذا من أدبياتنا. وآمل ألا تروا مشروع قانون يتضمن العديد من المواد، فهذه تعليمات السيد رئيس الوزراء”.
لايُعرف مَنْ وكيف يحكم تركيا! فإن الأرنب الذي أُخرج في الدقيقة الأخيرة من القبعة معلوم للجميع: توسيع نطاق المحظورات المفروضة على الإنترنت بحجة “الأمن القومي”. فالحكومة قادرة بشكل أكثر راحة عن أي وقت مضى على “إغلاق مواقع إليكترونية بالكامل”. هذا فضلًا عن أن باستطاعتها إصدار قرار بالحظر دون الحاجة إلى حكم قضائي. وسيكون بمقدور الوزير ورئيس الوزراء إصدار قرار إغلاق أي موقع خلال 4 ساعات، ليعرَض القرار على القاضي للموافقة عليه في غضون 24 ساعة. ويبدو أن هذا يتناسب مع أكثر وسائل الإعلام “حرية” حول العالم.
آه يا أستاذ أحمد آه! لقد استمعت إلى عقدكم المقارنة بين الآلة الكاتبة والإنترنت مرات عديدة عندما كنت تقول: “لما كنت أكتب رسالتي على الآلة الكاتبة، كان حسني مبارك رئيسًا لمصر. وعندما ظهر موقع فيسبوك كان مبارك لايزال في منصبه، غير أنه لم يتحمل ظهور تويتر”. فهل تتذكر تصريحاتك في الماضي بحزن عندما تحظر موقع تويتر الآن؟
يَستخدم مَن يحكمون تركيا إراداتهم في طريق زيادة وطأة القبضة الأمنية وليس في طريق الحرية، لتزيد ميولهم الاستبدادية للمحافظة على الوضع الراهن. أما عامة الشعب فيشتاقون إلى الشخصيات التي رسمت صور رجل فكر بفضل انفتاح فكرها ومواقفها التحررية ومنطقها السديد. فهل بأيدينا ألا نحزن على ما آل إليه حالنا؟ إنهم لا يفضحون أنفسهم فحسب، بل يفضحون تركيا أيضًا!