د. منى سليمان
القاهرة (زمان التركية)ــ تناولت الكاتبة المصرية الدكتورة منى سليمان تحليلا، لكتاب “مواقف في زمن المحنة .. حوارات إعلامية مع فتح الله كولن”، والذي يشمل 13 حوارًا إعلاميًا أُجري مع المفكر الإسلامي التركي فتح الله كولن ملهم حركة الخدمة، وكذلك المقالات التي نَشرَها والبيانات الصادرة عنه خلال عامي 2016-2017م. وفق الكاتبة منى سليمان، باحثة الدكتوراة المتخصصة في العلاقات الدولية والشأن التركي، ترجع أهمية الإصدار الذي أعده الكاتبان صابر المشرفي ونوزاد صواش، لسببين:
الأول: توقيت صدوره الذي يتزامن مع الذكرى الأولى لأحداث الانقلاب الفاشل بتركيا الذي اتُهم فيها الأستاذ “كولن” زورًا وبهتانًا بالتحريض عليها، وهو ما نفاه جملة وتفصيلاً، بل طالب بلجنة تحقيق دولية في تلك الأحداث ومحاسبة من يثبت تورطه فيها.
الثاني: أن الكتاب يُعَدُّ وثيقة هامة ترصد رأي الأستاذ “كولن” ومواقفه السياسية من الأحداث الداخلية بتركيا، وكذلك من التطورات المتلاحقة بالشرق الأوسط والدول العربية خلال مرحلة انتقالية تشهد أحداثًا جمة.
ومن خلال قراءة تحليلية لحوارات الأستاذ “كولن” يمكن أن نستشف رؤيته ومواقفه السياسية فيما يخص تطورات الداخل التركي خلال العاميين الماضيين والتي تتمثل في:
الكتاب وثيقة هامة ترصد رأي الأستاذ “كولن” ومواقفه السياسية من الأحداث الداخلية بتركيا، ومن التطورات المتلاحقة بالشرق الأوسط والدول العربية خلال مرحلة انتقالية تشهد أحداثًا جمة.
1- إدانة الانقلاب الفاشل ودعم الديمقراطية
أكد الأستاذ “كولن” في حواراته المتعددة على إدانته للمحاولة الانقلابية، بل ودعا لتشكيل لجنة تحقيق دولية لإثبات المتورطين في أحداث 15 يوليو 2016م، ولإثبات عدم وجود أدلة تؤكد تورطه أو تورط حركة “الخدمة” فيها. وأوضح من خلال حواراته أن ما حدث كان “مسرحية” لتصفية المعارضة التركية. كما انتقد الأستاذ “كولن” معالجة الحكومة التركية للأحداث التي تلت الانقلاب، حيث خلقت صورة سلبية مهينة للجيش التركي عبر نشر صور مسيئة لضباط رفيعي المستوى وعليهم “آثار تعذيب”، ثم اعتقالهم ومحاكمتهم بطريقة مهينة رغم إجماعهم في التحقيقات التي أجريت لاحقًا معهم بأنهم خرجوا في تحركهم العسكري لتنفيذ بعض الأوامر التي صدرت لهم، وأنهم كانوا يظنون أن ما يحدث هو مناورات عسكرية ميدانية.
وأبدى “كولن” استياءه من تراجع مستويات الديمقراطية وحقوق الإنسان بتركيا بفعل الممارسات الحكومية المتكررة، وكذلك تراجع الدور التركي الإقليمي والدولي خلال السنوات الأربع الأخيرة، فقد كانت تركيا تتقدم في الاندماج مع أغلب دول العالم، وكذلك تتقدم في تنفيذ خطط الانضمام للاتحاد الأوروبي وفق إجراءات ديمقراطية متسارعة. وكان يُنظر إليها على أنها نموذجٌ في التنمية ومد الجسور بين الشرق والغرب. وتوقع أن يشهد مستقبل تركيا في ظل حكم “أردوغان” مزيدًا من تراجع “حقوق الإنسان” والحريات بشكل عام وانعزال تركيا عن محيطها الإقليمي بأكمله.
2-معالجة النزاعات الداخلية والانقسام السياسي والمجتمعي
طرح الأستاذ “كولن” خلال فترة التسعينات من القرن الماضي التي شهدت العديد من الصراعات الأهلية بعدد من دول العالم وكذلك شهدت عدم استقرار بالداخل التركي آلية لمواجهة هذا الانقسام المجتمعي عبر محاربة ثلاثة أعداء للإنسان وهم (الفقر، الجهل، النزاع) عبر نشر التعليم والحوار، وإشاعة قيم التضامن والسلم بين المواطنين من خلال برامج التواصل ومشاريع الإغاثة لمواجهة مشاعر الكراهية وسوء الفهم المتبادل المولِّد حتمًا لمظاهر العنف، وقد ثبت نجاح تلك التجربة في عدة قطاعات بالداخل التركي من خلال تحقيق التنمية ببعض المدن والقرى مما أدى لانخفاض معدلات العنف فيها.
3-رؤيته لمعالجة النزاع الكردي
يمكن تلخيص ملامح مشروع حركة “الخدمة” لحل النزاع الكردي من خلال الحوارات التي أجريت مع الأستاذ “فتح الله كولن”، فقد دعا للاهتمام بتنمية الإنسان والارتقاء بوعيه العام وتعليمه ثم محاربة الفقر وتنمية المجتمع المحلي كحلٍّ مباشر لبذور الصراع الإثني. وهذه الرؤية تتفق مع المحددات الدولية لعمل منظمات المجتمع المدني في حل النزاعات، حيث إن الحركة سعت لبناء الثقة بين أفراد المجتمع الكردي والتركي، كما أكد الأستاذ “كولن” دعم الحركة كأحد منظمات المجتمع المدني لعملية السلام “مفاوضات أوسلو”. وتتلخص رؤية الأستاذ كولن لمعالجة النزاع الكردي في عدة خطوات هي:
إيجاد حل وسط، عبر مقاربة توافقية تشمل برعايتها كافة أجزاء المنطقة وكافة أبنائها مهما كانت أفكارهم واتجاهاتهم وانتماءاتهم دون إقصاء لأحد.
إتاحة الفرصة لأبناء تلك المناطق (المجتمع المحلي) لحلّ مشاكلهم بأنفسهم، وإدخال الطمأنينة والأمن والسعادة والاستقرار في نفوس أبناء المنطقة بغية توفير مناخ آمن يتيح إمكانية التعايش السلمي لجميع أبناء المنطقة، بكردها وسنيّها وعلويّها وعربها وسريانيّها كأنهم أعضاء أسرة واحدة.
رفض التمييز العرقي أو الطائفي بين (تركي، كردي) أو بين (سنّي، علوي). ويجب أن يُعامل الأفراد بناء على كونهم بشرًا بالدرجة الأولى أيًّا كانت دياناتهم أو معتقداتهم أو مذاهبهم.
بسْط أجنحة الرعاية على المنطقة؛ يجب رعاية المنطقة على الصعيد التربوي والصعيد الصحي والصعيد الديني والصعيد الثقافي.
تدريس اللغة الكردية في المدارس ومراكز المطالعة وإنشاء قناة تليفزيونية تخاطبهم. وكذلك اقتراح أن تُدَرَّس اللغة الكردية في المدارس والجامعات لغةً اختياريةً، لمنع الصعود إلى الجبال عبر إقامة أنشطة تربوية. (والمقصود منع التحاق الشباب بحزب العمال الكردستاني).
وهذه الرؤية لمشروع حركة “كولن” لحل النزاع الكردي نجد أنها تتوافق مع النهج العام للحركة وآليات عملها، حيث لعبت الحركة دوراً إيجابيًا في الدفع بعملية التحوّل الديمقراطي بتركيا قدمًا، بعد “الانقلاب الناعم” بالبلاد عام 1997م، وسعت للقضاء على التحديات التي تواجه تقدم المجتمع التركي وهي الجهل، الفقر، المرض، الانشقاقات داخل المجتمع. ولهذا وجَّه “كولن” أتباعه إلى العمل في المجتمع المدني على مواجهة تلك التحديات، من خلال الاستثمار في التعليم والإعلام والعمل الإغاثي والخيري، لترسيخ هوية للمجتمع التركي تقبل بالاختلافات وتجمع بين مختلف التوجهات والتناقضات مثل (الإسلامي والعلماني- اليميني واليساري، القومي التركي والقومي الكردي).
ثالثا: رؤية ومواقف الأستاذ “كولن” للتطورات الإقليمية والدولية:
من خلال قراءة تحليلية لحوارات الأستاذ “كولن” يمكن أن نستشف رؤيته ومواقفه السياسية فيما يخص التطورات والأحداث السياسية التي طرأت على منطقة الشرق الأوسط خلال العاميين الماضيين وكذلك رؤيته لتوسع نشاط حركة “الخدمة” عالميًا وذلك من خلال:
1- قضية مكافحة الإرهاب
لعل أبرز قضية سيطرت على المشهد السياسي والعالمي خلال العقد الماضي هي مكافحة الإرهاب، وقد أُلصقت تهمة الإرهاب تحريضًا وتنفيذًا بالدول العربية والإسلامية. وقد أكد الأستاذ “كولن” على أن “الراديكالية” ليست ظاهرة خاصة بالدول الإسلامية والعربية بل هي ظاهرة عالمية ذات جذور قديمة، ولذا ينبغي النظر للأسباب التي تؤدي للإرهاب والقضاء على العوامل التي تغذي أسباب انتشاره. كما يمكن تلخيص موقفه من الإرهاب في مقولته الخالدة بأن “المسلم لا يمكن أن يكون إرهابيًا كما أن الإرهابي لا يمكن يكون مسلمًا”، وهو موقف ثابت لم يتغير على مدى تاريخه الممتد، كما أكد عليه مرارًا وتكرارًا خلال حواراته الإعلامية المختلفة، بل دعا للتعاون في مواجهة الظاهرة واقترح لها حلولًا، لأن المسلمين علماء وشعوبًا يتحملون مسؤولية كبيرة لمواجهة مخاطر العنف والإرهاب.
أبدى “كولن” استياءه من تراجع مستويات الديمقراطية وحقوق الإنسان بتركيا بفعل الممارسات الحكومية المتكررة، وكذلك تراجع الدور التركي الإقليمي والدولي خلال السنوات الأربع الأخيرة.
كما أكد أن مواجهة التنظيمات الإرهابية تتطلب وقفة جادة من مسلمي العالم بجانب الحلول العسكرية والاستخباراتية، لأن تلك التنظيمات تستقطب الشباب الذين يشعرون بالتهميش والإقصاء في مجتمعاتهم؛ ولذا يجب طرح حلول للمشكلات السيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية للقضاء على كافة أشكال التمييز والتهميش كأحد أهم الحلول لمكافحة الإرهاب.
2-أهمية الدور العالمي لحركات المجتمع المدني
“حركة الخدمة” هي حركة مجتمع مدني تعد تطبيقًا فعليًا وعمليًا لأفكار الأستاذ “كولن”، وهي نموذج فريد في التغيير. ومن خلال نجاحها وانتشار مؤسساتها التعليمية والتربوية والإعلامية في أكثر من 170 دولة بالعالم -رغم الحرب الشعواء ضدها من الحكومة التركية- هو أكبر دليل على نجاحها ومصداقيتها والدعم الدولي الذي تتلقاه من كل دولة تتواجد فيها، مع اختلاف حضاراتها؛ فمؤسسات الخدمة تتواجد في دول شرق آسيا، أمريكا الجنوبية، الشرق الأوسط، أوروبا، آسيا الوسطي، جنوب وغرب أفريقيا، ومن خلال تواجدها في تلك الدول أثبتت نجاحها في عدم التدخل في الشأن الداخلي لأي منها، مما يؤكد بعد الحركة عن أي نشاط سياسي، وهي بذلك تقدم نموذجًا فريدًا يحتذى به كحركة مجتمع مدني عابر للقوميات تعمل لخدمة وبناء الإنسان دون النظر لجنسيته أو عرقه أو لغته أو دينه ومذهبه.
3-دور “الخدمة” في تعزيز العلاقات التركية الخارجية
المتابع لتطور العلاقات التركية الخارجية، يجد أن أنشطة الخدمة قد فتحت المجال لانتشار الثقافة التركية، فقد سبق أنصار الخدمة في إنشاء مؤسساتهم الدولةَ نفسها، حيث عملوا على إنشاء مؤسسات في دول آسيا الوسطى والدول الأفريقية وهي دول لم يكن للدولة التركية في بعضها سفارة أو تمثيل رسمي، ولذا فقد تعززت العلاقات التركية الآسيوية والتركية الأفريقية بفعل توسع انتشار مؤسسات حركة “الخدمة”.
وختامًا، نجد أن ما تتعرض له حركة “الخدمة” ومفكرها وملهمها الأستاذ “فتح الله كولن” اليوم هو أزمة كاشفة عن روحها المعطاءة وحقيقتها السمحة وعن طبيعة أعدائها وهويتهم، ونعتقد أن الأزمة انتهت بانتصار الأستاذ و”الخدمة” ومؤيديها؛ فبعد عام من الحرب الضروس ضد مؤسسات الخدمة ماذا حدث؟ مزيدًا من الانتشار للخدمة ومزيدًا من الهوان والتراجع لأعدائها، فالأزمات تلاحق “أردوغان” في الداخل والخارج، بينما فكر “الخدمة” وما نتج عنه من حركة بِنَاء للإنسانية في شتى بقاع الأرض لم ولن ينهزما؛ بل يُكتب لهم الآن تاريخ جديد سيكون نقطة فارقة في عمر “الخدمة”. ومن هنا تنبع أهمية الكتاب محل الدراسة لأنه بمثابة وثيقة تاريخية تسجل مواقف الأستاذ “كولن” وإدارته للأزمة بمختلف مراحلها.
المصدر: منقول عن موقع نسمات