بقلم: عمر نور الدين
هل نجح حزب العدالة والتنمية حقا في أن يمحو كل ما علق بثوبه وأثواب وزراء حكومته ونوابه والمقربين منه ومن رجال الأعمال وبعض كبار الموظفين الذين يدورون في فلكه وحتى رئيسه السابق رجب طيب أردوغان ونجله بلال من دنس الفساد والرشوة، الذي وإن كانت أدلته أجهضت بالقوة في أروقة النيابات ومحاكم الصلح والجزاء والبرلمان، إلا أنها بقيت، وستظل، حية في ضمائر وأذهان الناس في تركيا؟
بعدما شهدناه في الجلسة البرلمانية للتصويت على إحالة الوزراء الأربعة السابقين لمحكمة الديوان العليا التي كشفت عن عمق الشرخ داخل حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي يحكم بالإرادة الصارمة، لايمكن القول بأن الحزب نجح أو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نجح أو أن دعاوى الفساد والرشوة قد زالت أو محيت من ذاكرة رجل الشارع التركي.
خرج أردوغان عقب جلسة البرلمان الثلاثاء الماضي ليبارك للوزراء الأربعة (وزراء التجارة والصناعة والداخلية والبيئة والدولة لشؤون المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي السابقين) بنجاتهم من المثول أمام محكمة الديوان العليا. فهل كان حقا يبارك للوزراء أم كان يبارك لنفسه؟
الواقع أن لسان حال أردوغان وهو يبارك لهؤلاء الوزراء كان يقول” نجونا” وكان أيضا يقول لقد نفذت كل ما خططت له فهل حقا نجا أردوغان أم أن المياه تسربت إلى القارب وأنه يغرق الآن رويدا رويدا؟
إن تصويت قرابة 50 نائبا لصالح إحالة الوزراء الأربعة إلى محكمة الديوان العليا هو درس قاس للحزب الذي كان يحكمه أردوغان بالحديد والنار قبل أن ينتقل إلى رئاسة الجمهورية تاركا رئاسة الحزب لرئيس الوزراء أحمد داودأوغلو، الغائب طوعا أو كرها عن المشهد، والذي يبدو حتى الآن كظل لأردوغان أو صدى صوت لما يقول الزعيم الذي يحرك كل شيئ من داخل القصر الأبيض في غابات أتاتورك في أنقرة، والذي يعتقد أن تركيا الكبيرة هذه هي صنيعته ولعبته والتمثال الذي صنعه بيده.
لقد اختار النواب أن يطلقوا لضمائرهم العنان، لم يخشوا تهديدات أردوغان الذي لو كان لايزال على رأس الحزب لأسقط عضويتهم على الفور، ولن نتوقف كثيرا أمام الإهانات التي تلقاها هؤلاء النواب من بعض زملائهم أو من بعض الكتاب في الإعلام الموالي لأردوغان ولن نتوقف أيضا أمام محاولات ادعاء الديمقراطية في بنية الحزب التي حاول اصطناعها وزير العدل بكير بوزداغ عندما وجه اللوم للنواب الذين أهانوا زملاءهم ووصفوفهم بالخونة أو أمام ماقاله النائب البارز بالحزب محمد على شاهين من أن هؤلاء النواب عبروا عما يعتقدون أنه الصحيح لأنه لايمكن أن يرتدي وزير ساعة قيمتها 700 ألف ليرة (350 ألف دولار) في بلد الحد الأدني للأجور فيه ألف ليرة.
لكن ما يستحق التوقف أمامه هو أن موقف هؤلاء النواب جاء ليمثل نقطة ضوء في بحر من الظلمات تتخبط فيه تركيا بسبب السياسات الاستبداية والأكاذيب والافتراءات ومحاولة اصطناع عدو يسمى بالكيان الموازي وإسقاط هذا الخيال المريض على حركة الخدمة وملهمها المفكر الإسلامي فتح الله كولن.
هذا الموقف المضيئ كشف عن كساد وبوار السلعة التي يروج لها أردوغان منذ أكثر من عام بعد الكشف عن فضائح الفساد والرشوة في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013. وأثبت أن المؤامراة والخيانة والعمالة والتجسس وكل ما حوى قاموس الافتراءات على حركة الخدمة لم يكن إلا وهما عشش في رؤوس المروجين له لأغراض في أنفسهم منها إرضاء بعض الأطراف التي تضغط عليهم لتصفية حسابات مع ” الخدمة” أو لأحقاد وحسد شخصي في أنفسهم وغيرة من النجاحات الكبيرة والانتشار العالمي الذي تحققه الحركة.
هذا الموقف وإن كان ينظر إليه على أنه لم يقدم ولم يؤخر في نتيجة التصويت على إحالة الوزراء للمحاكمة إلا أنه كان بمثابة لحظة فارقة وكاشفة وضعت حزب العدالة والتنمية أمام الحقيقة، ودقت له ناقوس الخطر وألزمته بمراجعة الموقف لأن السفينة أصابها العطب وأصبح الماء يتسرب إلى داخلها.
لا يمكنني الآن الحكم على موقف رئيس الحزب رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو ورؤيته لما يجري من تطورات داخل البيت الذي هو المسؤول رسميا عنه، لكنني سأنتقل إلى مشهد آخر وتصريح يحمل رائحة الخطورة أيضا ويكشف عن حالة التفسخ التي بدأت تضرب بأطنابها داخل الحزب الذي اكتسح الساحة وانفرد بالمشهد على مدى 13 عاما وتكشف عن الشقاق بين مؤيديه.
فالتصريح الذي أدلى به بولنت يلدريم رئيس جمعية الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) الموالية لحكومة حزب العدالة والتنمية، والتي كانت المسؤولة عن تنسيق رحلة كسر الحصار على غزة التي راح ضحيتها 9 مواطنين أتراك على متن السفينة مافي مرمرة (مرمرة الزرقاء) في 31 مايو/ آيار 2010والذي انتقد فيه بشكل حاد وشديد اللهجة سياسات الحزب تجاه مصر وفلسطين وسوريا. قائلا للمرة الأولى: “لو لم تكن تركيا لما كانت جماعة الإخوان المسلمين اندفعت إلى المشاركة في الانتخابات الرئاسية في مصر في عام 2012 وإن الرئيس المصري المعزول محمد مرسي أخطأ عندما قرّر خوض الانتخابات الرئاسية في مصروإن حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان هو من أصرّ على جماعة الإخوان المسلمين أن تخوض هذه الانتخابات”.
وأضاف يلدريم: “أن جماعة الإخوان المسلمين لم تكن تريد خوض الانتخابات الرئاسية. وفي الحقيقة كانت محقة وصائبة في هذا القرار، لكن تركيا هي التي أجبرتها على المشاركة”.
هذا الكلام له بعدان خطيران أولهما أن تصريحات الكثيرين من المحيطين بأردوغان كانت تدعي أنه نصح جماعة الإخوان المسلمين بعدم خوض انتخابات الرئاسة، بما يعنى أن أحد الطرفين ( يلدريم أو مسؤولي العدالة والتنمية) يكذب.
وثانيهما أنه تأكيد دامغ لتدخل أردوغان في شؤون الدولة المصرية وهي دولة كبيرة وصديقة وكانت تربطها علاقات قوية ومزدهرة بتركيا قبل أن يتسبب أردوغان بمواقفه وتصريحاته هو ومجموعة ضيقة من المحيطين به في دفعها إلى خانة التوتر ثم التجميد والقطيعة الدبلوماسية.
وفي هذا السياق يمكن وضع ما جرى بعد ذلك من احتضان تركيا للعديد من المجموعات المنتمية للإخوان المسلمين في مصر أو الداعمة لها واستضافة قنواتهم ومجالسهم مثل المجلس الثوري المصري وتحالف دعم الشرعية وحتى بقايا برلمان 2012 التي التأمت في إسطنبول واتخذتها قاعدة انطلاق من أجل إجراء اتصالات مع برلمانات أجنبية للضغط على مصر في هذه المرحلة، مازاد من تعقيد العلاقات مع مصر فضلا عن المواقف والتصريحات التي أدت إلى تعقيد العلاقات مع دول الخليج أيضا لتجد تركيا نفسها في موقف صعب وهي تحاول التراجع عن هذه المواقف والأخطاء.
وللمرة الأولى أيضا دافع يلدريم عن ضرورة استمرار الحوار والاتصالات مع نظام بشار الأسد في سوريا من أجل إقامة السلام في سوريا التي أسفرت الحرب الأهلية الدائرة فيها عن مقتل ما يقرب من 200 ألف شخص، وهو تصريح ربما يعكس طريقة جديدة للتفكير في الدوائر المحيطة بحزب العدالة والتنمية وأردوغان.
كما كرر انتقاداته لأخطاء الحكومة التركية في التعامل مع القضية الفلسطينية وقضية مافي مرمرة وما أسماه بالخطابات الرنانة ضد إسرائيل في أعقاب الهجوم الدموي على السفينة في الوقت الذي تحقق فيه تركيا أرقاماً قياسية في حركة التجارة مع إسرائيل في ظل حكم حزب العدالة والتنيمة.
وخلاصة القول في موقف النواب الخمسين، الذين يعرفون أن بقاءهم في حزب العدالة والتنمية قد انتهى عمليا، وفي موقف منظمة مؤثرة من أبرز منظمات المجتمع المدني كجمعية المساعدات الإنسانية وفي العديد من المواقف التي ظهرت في الفترة الأخيرة والتي ستظهر في الأيام القادمة. أن هناك روحا جديدة تولد في تركيا ووعيا جديدا يتفتق بخطورة الاستمرار في سياسات أردوغان وحكومة العدالة والتنمية. وأن هناك نذرا تتجمع في أفق تركيا الآن تقول بصوت واضح:” حانت لحظة الحقيقة”.