بقلم: محمد كاميش
كانوا سيذهبون إلى منغوليا عام 1997 كي يجهزوا لافتتاح مدرسة تركية هناك. وكانوا سيذهبون إلى هذا البلد النائي عبر الطيران إلى روسيا أولًا ذلك أنه لاتوجد رحلات مباشرة تربط تركيا بمنغوليا.
لم يكونوا يعرفون حتى موقع منغوليا على الخريطة؛ إذ لم تربطهم أية علاقة بهذا البلد من ذي قبل. كان من المفترض ألا يستقبلهم أحد عندما يصلون إلى هناك حتى أنهم لم يكونوا يدرون كيف وماذا سيأكلون ليشبعوا بطونهم، فلم تكن لدى أحد منهم معلومات حول ثقافة الأكل وعادات الإقامة هناك. وكان من المحتمل ألا يجدوا في منغوليا أي شيئ ينعمون به في تركيا. وكان مجهولًا كيف سيستقبَلون هناك. هذا فضلًا عن أنهم كانوا يعملون في تركيا في وظائف يتمتعون فيها بالرزق الوفير والعمل اليسير.
ولأنهم كانوا زملاء زوجتي أيام الدراسة، استضفناهم في إسطنبول، وودعناهم في المطار في رحلتهم الطويلة إلى منغوليا.
كانت الزوجة هي وحيدة أبيها الذي لم يرضَ حتى بأن تتزوج وتقيم في إسطنبول بعيداً عنه، لكنها الآن تسافر برفقة زوجها إلى منغوليا. وضعت نفسي مكان زوجها، هل كان بإمكاني الذهاب؟ هل يمكن أن أسافر إلى بلد لا أعرفه ولا أعرف أحدًا به وليس لديّ أي علم بعاداته وتقاليده ولا يعرفني فيه أحد؟ هل كان بمقدوري أن أصطحب أسرتي إلى مكان لا أعرف حتى أين وكيف سأمسي به؟
لاشك في أن آلاف بل عشرات الآلاف من الحكايات الأصعب من هذه الحكاية حدثت خلال وتيرة انتشار المدارس التركية على مستوى العالم. ولاريب في أن كوادر هذه المدارس مروا باختبارات صعبة جدًا عندما فقدوا أبناءهم وأزواجهم في البلدان التي تشهد صراعات مسلحة عنيفة. غير أن هذه الواقعة التي سردتها آنفًا تركت لديّ انطباعًا عميقًا لأنها ساعدتني على فهم الروح التي أُسست بها المدارس التركية في ربوع العالم كافة. سألت نفسي هذا السؤال على مدار شهور: هل كان بإمكاني أن أذهب إلى مكان لايوجد به أحد في إحدى بقاع الأرض النائية؟
حسنًا، هل كان بإمكانكم أن تذهبوا إلى مكان كهذا؟ وهل كان بمقدوركم أن تذهبوا تاركين المناقصات والأموال المكتسبة من المدن والمقاهي المطلة على مضيق البوسفور ومساحات الغابات الداخلة ضمن مخططات الإعمار والعمولات التي حصلتم عليها بحق (!) من المشاريع المختلفة؟ وهل كنتم تختارون العيش في منغوليا بعدما تتركون البيئة المريحة والمترفة التي اعتدتم على العيش بها؟
عندما سمعت التصريح الذي قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش لقائه بنظيره الإثيوبي خلال زيارته إلى أديس أبابا “اغلقوا المدارس التركية هنا، وسنفتحها نحن إن استلزم الأمر”، لم أفعل شيئًا سوى أنني ضحكت وقلت “لا تستطيعون أن تفتحوها”… فأنتم لن تستطيعوا أن تجدوا مئات بل آلاف الأشخاص الأوفياء الذين يمكنهم أن يختصروا حياتهم داخل حقيبة سفر، كي ترسلوهم إلى مجاهل إفريقيا السمراء. كما لن تستطيعوا أن تعثروا على معلمين لا ينتظرون شيئاً، حتى ولو منحتموهم آلاف الدولارات شهريًا.
ليس بمقدوركم أن تذهبوا إلى هناك انطلاقاً من “من أجل الآخرين” فقط. وفي الواقع، كان هناك العديد من الذين ذهبوا إلى تلك المناطق النائية قبل مائة عام من أجل تحقيق مصالحهم الخفية، واستغلوا تلك البلدان حتى النخاع. فسكان تلك البلدان ليسوا في حاجة إلى استعمار جديد. ولهذا فأنتم لا تستطيعون أن تنجحوا في الذهاب إلى هناك دون أن تجدوا أشخاصًا آمنوا بهذه الرسالة إيمانًا واثقًا واستعدوا للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل تحقيق تلك الأهداف السامية.
أنتم مخطئون إذا كنتم تعتقدون أن الناس يمكنهم أن يذهبوا إلى بلدان كمنغوليا وزامبيا وفيتنام عندما تضغطون على “الزر” وتنشرون “فرمانًا عامًا”. فيجب على المرء أن يكون “صاحب تضحية” حتى يستطيع أن يقيم صروحًا تعليمية في الأماكن النائية والمناطق التي يذبح فيها الناس كما تذبح الخراف. ولن يستطيع تحقيق هذا الأمر شخص أو اثنان أو حتى ثلاثة، بل أنتم بحاجة إلى عشرات الآلاف من المخلصين الذين لا ينتظرون في مقابل ما يقومون به أي جزاء أو شكور.
ينبغي لنا أن نعودَ إلى الوراء لنلقي نظرة بينما نقول هذا الكلام، ونتساءل: “كم عدد الأشخاص المستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل بلوغ هذه الغاية وإنارة مستقبل البشرية؟”، ونفكرَ: “كم لدينا من المخلصين المستعدين للثبات لو أقمنا المدارس في وسط الحروب حتى لو لم أقلّدهم المناصب وقطعت عنهم المنح والعطايا؟”.
إن السياسة تقبل على إعادة صياغة الشعب وأفراده وفق طرائقها وبرامجها الخاطئة، فبالرغم من مظهرها الإسلامي، فهي تسعى لأن تعيش الجنة في هذه الحياة الدنيا. واعلموا أنكم لن تستطيعوا القيام بما تقوم به المدارس التركية في كل مكان طالما اعتبرتم هذا التفاني والإخلاص والتجرّد ضربًا من ضروب فرقة “الحشاشين”.