بقلم: د.منى سليمان
القاهرة (زمان التركية) – شهدت مدينة “لفيف” الأوكرانية يوم 18 أغسطس الحالي قمة ثلاثية بمشاركة بها الرئيس الأوكراني والتركي والأمين العام للأمم المتحدة، لبحث اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، ويأتي عقد القمة بعد أسبوعين من قمة “سوتشي” التي عقدت في روسيا بين رئيسها “فلاديمير بوتين” ونظيره التركي “رجب طيب أردوغان”.
ومنذ ذلك الحين تشهد الأزمتين السورية والأوكرانية تطورات سياسية وميداينة ستعيد ترتيب توازنات القوى بهما، لعل أبرزها الدعوة التركية لتطبيع العلاقات مع سوريا والتصعيد العسكري شمالا، والدعم السياسي التركي لكييف رغم العلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وموسكو، الأمر الذي ينذر بحدوث تفاهمات وتوافقات تركية روسية لتسوية الملف السوري والأوكراني وفق المصالح البراجماتية لأنقرة وموسكو، ويؤكد قبول موسكو بوساطة تركية بين روسيا وأوكرانيا، مقابل قبول أنقرة بوساطة روسية بين تركيا وسوريا، وبهذا يكون حل الأزمتين الأكبر بالقرن الـ 21 بيد “بوتين” و”أردوغان”، الأمر الذي سيعزز مكانتهم الدولية وسيكون له العديد من التداعيات الإقليمية.
أولا: قمة “سوتشي” والتفاهمات التركية الروسية:
عقدت بمنتجع “سوتشي” الروسي على البحر الأسود في 5 أغسطس الحالي، قمة روسية تركية هي الثانية في غضون شهر بعد قمة طهران الثلاثية في 20 يوليو الماضي، وقد بحثت قمة “سوتشي” بين الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره التركي “رجب طيب أردوغان” ملفي الأزمة الأوكرانية والسورية، حيث:
– اتفق الرئيسيين على تعزيز التعاون في ملفات مختلفة أبرزها التعاون التجاري في ظروف العقوبات والقيود المفروضة على روسيا، كما اتفقا على دفع جزء من أموال استيراد الغاز بالعملة الروسية (الروبل)، ورحب “بوتين” بتعزيز التعاون الاقتصادي مع تركيا، حيث تقوم أنقرة بتجاهل العقوبات وتعزز علاقاتها الاقتصادية مع موسكو مما دفع واشنطن لتحذيرها من تداعيات ذلك وإمكانية فرض عقوبات على انقرة ذاتها حال استمر تعاونها الاقتصادي مع موسكو، وكذلك اتفقا على تعزيز التعاون في المجال الصناعي والطاقة وفي المجال التصنيع العسكري التقني ووقعتا على عقد تسليم أنقرة الدفعة الثانية من منظومة صواريخ (S-400) الروسية التي تعترض واشنطن علىها، حيث ترددت أنباء حول سعي موسكو لشراء عدد من المسيرات التركية (طائرات بدون طيار)، وجدير بالذكر أن تركيا تعتمد بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا لتأمين احتياجاتها من الحبوب. ومثلت الواردات الروسية 56 % من واردات الحبوب التركية في عام 2021 بقيمة 2.24 مليار دولار.
– اتفق الرئيسين على استكمال تشييد محطة “أكويو” النووية التركية التي تبنيها شركة روسية جنوب تركيا، وقد بدأ بالفعل 20 ألف عامل ومتخصص روسي وتركي في مدينة “أكويو” على ساحل البحر الأبيض المتوسط العمل بالمحطة التي تعد أكبر موقع لبناء الطاقة الذرية في العالم، كما حولت موسكو 5 مليارات دولار من أصل 20 مليار دولار متوقعة من شركة الطاقة الروسية الحكومية “روساتوم” لأنقرة لبناء المحطة، مما يوفر دعمًا مؤقتًا لليرة التركية.
– كان ملفتا توجيه “بوتين” الشكر للرئيس التركي على إسهامه في حل مشكلة إمدادات الحبوب، وإشادته بأداءه للحفاظ على استقرار إمدادات الغاز الطبيعي عبر الأراضي التركية، وقال “بوتين” “الشركاء الأوروبيين يجب أن يشكروا تركيا لوصول الغاز الروسي عن طريقها، حيث يعتبر (التيار التركي) أحد أهم الطرق لوصول الغاز الروسي إلى أوروبا وهو يعمل بشكل صحيح ودون مشاكل”، وهو ما يعزز مكانة تركيا أوروبيا كمعبر للغذاء والطاقة لاسيما مع اقتراب فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة.
-خلال قمة “سوتشي” “بوتين” لم يرفض أو يقبل العملية العسكرية التركية المرتقبة بشمال سوريا والتي أعلن “اردوغان” عن تنفيذها منذ 3 أشهر وخلال هذه الفترة يسعى الرئيس التركي للضغط على موسكو وواشنطن ومساواتهم بشأن العملية العسكرية، وأكدت موسكو تفهم مخاوف الشركاء الأتراك الأمنية، إلا أنه من المهم عدم زعزعة استقرار الوضع في سوريا”.
ويمكن القول أن قمة “سوتشي أغسطس 2022” أحد أهم القمم التركية الروسية منذ عام 2016 الذي شهد دعما روسيا غير مسبوق “لأردوغان” لمواجهة الانقلاب العسكري الفاشل المزعوم ضده، حيث أن التفاهمات الغير معلنة التي اتفق عليها الرئيسيين لترتيب الأوضاع في الأزمة السورية والأوكرانية سيكون لها أثرا بالغا في التسوية النهائية للملفين، ويمكن أن نستنتج تلك التفاهمات من السلوك التركي والروسي الخارجي بعد القمة، فقد لجأت أنقرة لتصعيد عسكري بشمال سوريا دون هجوم بري أو الإعلان عن عملية عسكرية كما سبق مقابل ذلك أبدت انقرة قبولها بالتطبيع دون سوريا ورعاية المصالحة بين المعارضة التي تدعمها ودمشق وهو ما آثار غضب الاولي وصمت الثانية، كما ترددت أنباء حول موافقة تركيا على نشر قوات الجيش السوري في مدينة إدلب مقابل التمدد التركي بمدن الشمال السوري، وفي الملف الأوكراني فقد تم تنفيذ اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية برعاية تركية وهو ما نفى عن موسكو الاتهام بالتسبب في أزمة غذاء عالمي، وذلك مقابل تأمين زيارة “أردوغان” لأوكرانيا.
ثانيا: محددات الوساطة التركية في أوكرانيا:
عقد في مدينة لفيف الأوكرانية يوم 18 أغسطس 2022 قمة ثلاثية استمرت عدة ساعات، جمعت بين الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” والتركي “رجب طيب أردوغان” والأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريس” الذي توجه لمدينة أوديسا المطلة على البحر الأسود ثم لـ أسطنبول في 20 أغسطس الحالي لمتابعة العمل بمركز التنسيق باسطنبول بعد ذلك، وقد ناقش الاجتماع الثلاثي تطورات الحرب الروسية – الأوكرانية والمخاوف المتعلقة بمحطة “زابوريجيا” النووية وملف تصدير الحبوب، وعقد “زيلينسكي” اجتماعين منفصلين مع “أردوغان” و”جوتيريش”، وتم بحث إتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، حيث تم خروج 24 سفينة تحمل مواد غذائية من الموانئ الأوكرانية لاسطنبول خلال 17 يوم بعد بدء تفعيل اتفاق إسطنبول وتشغيل ممر الحبوب بالبحر الأسود. وبعد القمة عقد مؤتمر صحفي ثلاثي بين “زيلينسكي” و”أردوغان” و”جوتيريش” تم التحذير خلاله من حدوث كارثة نووية في أوكرانيا حال تم قصف محطة “زاباروجيا” وهي أكبر منشأة نووية في شرق أوروبا، وهو ما نفته موسكو وأكدت أنه وفق العقيدة العسكرية الروسية “استخدام روسيا قوى الرد النووي ممكن فقط كوسيلة للرد على عدوان أو وجود تهديد لوجود الدولة”، وذلك بعد تبادل الاتهامات بين موسكو وكييف بقصف المحطة النووية، كما ..
-ساهمت قمة لفيف في تعزيز التعاون التركي الأوكراني حيث تحظى أنقرة وكييف بعلاقات سياسية جيدة وتعاون عسكري متصاعد بدأ قبل العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقام “أردوغان” بزيارة كييف بنهاية عام 2021 ودعا روسيا لعدم شن أي عمليات عسكرية ضد أوكرانيا، كما تطور التعاون العسكري بينهم من خلال شراء كييف مسيرات تركية (طائرات بدون طيار) “بيرقدار 1 -2” دون طيار، ثم أدان “أردوغان” العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا فور بدئها في 24 فبراير 2022، وبدا الموقف التركي منحاز لكييف خلال الشهر الأول من الأزمة ثم طرح أردوغان وساطته بين موسكو وكييف ونجح في عقد اول اجتماع بين وزيري خارجية البلدين في إسطنبول بمارس 2022.
-عقد “أردوغان” على هامش قمة “لفيف” أول محادثات مباشرة مع “زيلينسكي” منذ بدء الأزمة وأكد له أن تركيا حليف قوي وصديق لأوكرانيا وهذا رغم علاقاته الوثيقة مع روسيا، كما شهدا توقيع اتفاق بين شركات تركية وكييف لإعادة إعمار البنية التحتية بالمدن الأوكرانية التي تضررت في الحرب، وهذا سيعود بالنفع على الاقتصاد التركي، ووافق “زيلينسكي” على وساطة تركيا لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، وبحث إمكانية العودة الآمنة لطائرة النقل (إيه 440 إم) التركية في أوكرانيا إلى أنقرة، كما بحثا بدء تصنيع الطائرات المسيرة التركية في كييف وهو ما اعترضت عليه موسكو وحذرت انقرة من تنفيذ المشروع، وبختام القمة طرح “أردوغان” إمكانية عقد لقاء بتركيا بين الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” و”زيلينسكي”، وهو المقترح الذي سبق أن طرحه على “بوتين” خلال قمتهم “بسوتشي” بيد أن موسكو رفضت الفكرة، ووضعت شروط لها لم تقبلها كييف.
وتعد هذه أول زيارة لأردوغان منذ بدء العمليات العسكرية، وبحثت تعزيز أنشطة آلية شحن الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق العالمية، والخطوات التي يمكن الإقدام عليها من أجل إيجاد حل دبلوماسي لإنهاء الحرب. وقد حقق “أردوغان” عدة أهداف من قمة لفيف ومنها ..
-تعزيز مكانة “أردوغان” كوسيط مقبول في الأزمة الأوكرانية لإنه يقدم نفسه كرجل دولة إقليمي قادر على التحدث مع زعماء العالم وتمكن من توظيف وضع تركيا الجيوسياسي والدبلوماسي والاستراتيجي، حيث يسعى “أردوغان” لتقاسم النفوذ بالبحر الأسود بين أنقرة وموسكو من خلال تعزيز الموانئ التركية عليه بطرابزون، لتصبح بوابة التصدير من روسيا وآسيا الوسطى والقوقاز حيث موارد الطاقة والغذاء الوفيرة للدول الأوروبية،
-تحقيق مكاسب اقتصادية حيث ستستفيد تركيا إقتصاديا من خلال تجاهل العقوبات الغربية على موسكو والترحيب بانتقال رجال الاعمال الروس اليها وهو ما حذرت منه واشنطن ولوحت بفرض عقوبات على انقرة حال استمرت في خرق العقوبات الدولية الاقتصادية المفروضة على موسكو، كما ستستفيد من تعزيز تعاونها الاقتصادي مع أوكرانيا والمشاركة في عمليات إعادة الإعمار وتصدير المنتجات التركية لها
-رفع شعبية أردوغان بالداخل من خلال تعزيز اقتصاد تركيا عبر الاتفاقيات الموقعة مع روسيا وأوكرانيا، مما سيخفف من حدة الأزمة الاقتصادية قبل عام من إجراء الانتخابات الرئاسية.
-تعزيز مكانته الدولية حيث حظيت تركيا بإشادة أممية نادرة لسياستها الخارجية التي اعتمدت خلال السنوات الأخيرة على التدخلات العسكرية وإثارة الأزمات، حيث ثمن “جوتيريش” الدور التركي ودور “أردوغان” في التوصل لاتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية الذي ساهم في معالجة أزمة الغذاء العالمي حاليا.
ومن المتوقع أن تقبل أوكرانيا وروسيا بالوساطة التركية لإنهاء العمليات العسكرية أو حدوث هدنة بشكل متكرر، نظرا للاستنزاف المستمر للقوات المسلحة في الدولتين بدرجات مختلفة، وقد اتضح ذلك على “زيلينسكي” الذي بالمؤتمر الصحفي الثلاثي مع (أردوغان – جوتيريش) مجهدا ومرهقا وعصبيا على غير عادته ورغم خطابه السياسي الذي يدعى فيه التمسك بكل أراضي أوكرانيا، إلا أنه سيقبل بأي هدنة تعرض عليه، لأنه يعلم جيدا أن القوات الروسية لن تنسحب من شرق أوكرانيا، وهو الشرط الرئيسي لموسكو لإنهاء الأزمة، ولذا يمكن القول أن قمة لفيف مثلت اعتراف دولي أممي بأهمية الوساطة التركية بالأزمة الأوكرانية مما سيضمن لأنقرة دورا هاما في التسوية النهائية للأزمة.
ثانيا: التوافقات التركية الروسية بسوريا:
أعلن “أردوغان” مباشرة بعد عودته من قمة “لفيف” عن إمكانية حدوث حوار تركي سوري يمهد لمصالحة بين الدولتين بعد عقد من المقاطعة والعداء، وبالطبع فإن “بوتين” سيكون وسيط و”عراب” تلك المصالحة وفق الرؤية الروسية لتسوية الملف السوري، وذلك مقابل تنازلات من أنقرة ودمشق بدأت تتضح ملامحها خلال الأيام الأخيرة ومنها على سبيل المثال .. إلغاء أنقرة العملية العسكرية التركية التي أعلن عنها “أردوغان” بشمال سوريا في مدينتي تل رفعت ومنبج مقابل تكثيف القصف الجوي التركي بالشمال، موافقة
تركيا دخول قوات الجيش السوري لإدلب واستعادة السيطرة عليها مقابل إطلاق يد أنقرة بالشمال السوري، تنسيق الجهود التركية السورية لمحاربة التنظيمات الكردية (قسد)، وقف الدعم التركي للمعارضة السورية، وحال تمت تلك المصالحة فأن تداعياتها ستكون بالغة الأثر على تسوية الملف السوري وستعيد ترتيب توازن القوى السياسي والعسكري بشمال سوريا بين عدة قوى داخلية وخارجية متناحرة.
1- التصعيد العسكري التركي بشمال سوريا
أعلن “أردوغان” في 23 مايو 2022 عن عزمه شن عملية عسكرية تركية خامسة في شمال سوريا للسيطرة على مدينتي تل رفعت ومنبج، بيد أنه حتى الآن لم يبدأ تلك العملية البرية نظرا للرفض الروسي الأمريكي الإيراني لها، واعتمد على تصعيد عسكري متبادل بالشمال بين القوات التركية والسورية والكردية (قسد- وهي قوات سوريا الديمقراطية المكونة من عدة فصائل كردية عربية ومدعومة أمريكيا ويقدر عددها بنحو 60 ألف عنصر تسيطر على محافظات شمال سوريا)، وقد اتخذ التصعيد العسكري التركي في شمال سوريا والذي بدأ بمنتصف يوليو الماضي وتكثف بمطلع أغسطس الحالي عدة صور ومنها ..
-مهاجمة إدلب: شنت أنقرة غارة جوية على نقطة حدودية للجيش السوري في إدلب بمنتصف الشهر الحالي قتل خلالها 11 شخص، ويعد هذا الهجوم أكبر تصعيد عسكري بين الجيش التركي والسوري بعد مواجهة عام 2020، عندما قتلت غارة جوية سورية روسية 33 جندي تركي في إدلب، مما دفع أنقرة لشن عملية “درع الربيع” بمارس 2020 والتي أسفرت عن احتلالها لمدينتي النيرب وسراقب بإدلب ثم عقد اتفاق بين “بوتين وأردوغان” لخفض التصعيد بالمحافظة، وجدير بالذكر أن الوضع الميداني والعسكري والإنساني بإدلب معقد للغاية حيث أنها تضم أكثر من 3 مليون نسمة بينهم مليون طفل وبها 11 فصيل مسلح ونحو 40 ألف مقاتل ينتمون لمختلف الجنسيات والخلفيات السياسية، وتحدث كثيرا مواجهات فيما بينهم، وتقدم أنقرة دعم عسكري لوجيستي للفصائل المسلحة التي تروج أنها من المعارضة السورية.
-استهداف قسد: استمر الاستهداف التركي للعناصر الكردية، فقد قتل عنصرين من “قسد” بقصف مسيرة تركية على “ريف الحسكة” في 19 أغسطس الحالي، على بعد 45 كم من الحدود التركية، وذلك للرد على مقتل جندي تركي وإصابة 4 في هجوم على مخفر حدودي في “شانلي أورفة” نفذته “قسد” سابقا، ونفت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شن تركيا عملية عسكرية جديدة بعفرين شمال غرب البلاد.
-تكثيف القصف الجوي: كما استمر القصف الجوي التركي المكثف على اكثر من منطقة بشمال سوريا ففي 17 أغسطس الحالي قصفت تركيا مركز تابع لقوات الجيش السوري بعين العرب (كوباني) الحدودية أسفر عن مقتل 17 قتيلا واصابة العشرات، والقوات التركية أطلقت تحذيرات للأهالي في المناطق التركية الحدودية المحاذية لجرابلس بريف حلب تمهيدا لقيامها بهجوم جديد، بالتزامن مع تحليق مكثف لطيران الاستطلاع التركي وحشد القوات التركية على معظم المناطق الحدودية التركية المحاذية لسوريا في ريف حلب والحسكة والرقة، مقابل ذلك نفذ الجيش السوري غارة جوية على مدينة “الباب” شمال البلاد وهي ضمن المناطق الآمنة التركية التي لم تقصفها دمشق من قبل ولم تعترض انقرة على ذلك.
وقد دفع هذا التصعيد العسكري التركي الغير مسبوق بشمال سوريا الأمم المتحدة يوم 21 أغسطس 2022 للإعراب عن قلقها من تدهور الوضع الأمني بتلك المنطقة في ظل تعثر المساعدات الإنسانية، كما طالبت “قسد” الدول الضامنة (روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية) إلزام تركيا باتفاقية 2019 التي تتضمن وقف إطلاق النار وإيجاد حل عاجل للأزمة في البلاد.كما اتهم البيان تركيا بإتباع سياسة “الإبادة” بحق الأكراد عبر القصف الجوي اليومي بحقهم، وكشفت “قسد” أنها تعرضت لـ 225 ضربة تركية خلال النصف الأول من يناير 2022 فقط، ويتضح أن هناك تنسيق تركي روسي سوري على تصفية نفوذ الأكراد بشمال سوريا حتى في ظل التواصل بين دمشق و”قسد”، ولذا لجأت تركيا لتغيير تكتيكاتها العسكرية بشمال سوريا لتجنب الرفض الدولي للعمليات العسكرية البرية التي نفذت منها 4 حتى الان، وستقوم باتباع أساليب جديدة لتحقيق أهدافها ربما تسفر عن المزيد من الخسائر البشرية.
2- أهداف التطبيع التركي مع سوريا:
كشفت القيادة السياسية التركية عن تواصل مستمر بين انقرة ودمشق رغم انقطاع العلاقات بينهم، ففي 5 أغسطس 2022 وخلال عودته من قمة سوتشي كشف “أردوغان” عن تواصل بين المخابرات التركية والسورية وصرح بأن “إيجاد الحل بالاشتراك مع دمشق هو الأكثر منطقية”، ثم كشف وزير الخارجية التركي “مولود تشاويش أوغلو” في 11 أغسطس الحالي عن عقد لقاء قصير بينه وبين نظيره السوري في صربيا في أكتوبر 2021، على هامش اجتماع دول عدم الانحياز، ودعا لحدوث “تفاهم كشرط لإحلال السلام والاستقرار الدائمين في سوريا، كما دعا المعارضة السورية لبدء حوار مع الدولة السورية”، وبعد خمسة أيام جدّد “أوغلو” دعوته إلى “مصالحة” بين النظام السوري والمعارضة وقال “يجب أن يتصالح النظام والمعارضة لأن المصالحة ضرورية لإحلال سلام دائم في سوريا”، في اليوم التالي لتصريحات “أوغلو”، تظاهر آلاف السوريين في مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال البلاد في (إدلب، عفرين، أعزاز، الباب، تل أبيض، ورأس العين) وقاموا باحراق العلم التركي وإطلاق شعارات مناهضة لانقرة مثل (لا تصالح والثورة مستمرة، ضامن وليس وصيا)، مما دفع “أوغلو” للدفاع عن موقفه وأكد أنه استخدم كلمة مصالحة” وليس “سلام” وحدث خطأ في الترجمة وأكد على استمرار الدعم التركي للمعارضة السورية.
وبالتزامن مع تصريحات “أوغلو”، أعلنت دمشق قبول إستقبال وفد من حزب “الوطن” التركي المعارض وهي تعلم أنه حليف “لأردوغان” يعد موافقة ضمنية على التواصل مع أنقرة بعد سلسلة من الاجتماعات التي عقدت بين مديري المخابرات بالبلدين خلال العامين الماضيين، وحزب “الوطن” هو حزب معارض يساري يرأسه “دوغو بيرنتشيك” وهو حليف أردوغان منذ 2016، وقام الحزب بإرسال عدة وفود لزيارة دمشق وعقد لقاءات مع الحكومة السورية منذ 2017، رغم انقطاع العلاقات بين أنقرة ودمشق. ويعد الحزب زيارة لوفد منه إلى دمشق للقاء “الأسد” خلال الصيف الحالي، وستتناول محادثاته تعزيز التعاون بين تركيا وسوريا في جميع المجالات، لاسيما العسكري والإقتصادي، والكفاح المشترك ضد كل التنظيمات “المتعصبة والرجعية”، وبخاصة الوحدات الكردية، ووحدة سلامة أراضي سوريا والعودة الآمنة للاجئين. وكان الحزب قد انتقد السياسة التركية تجاه سوريا أكثر من مرة واعترض على إنشاء “المناطق الآمنة” في شمال سوريا، وطالب بالتعاون مع دمشق لوضع حلول للقضايا العالقة بين سوريا وتركيا ومنها التعاون الأمني لمواجهة التواجد الكردي، والتأكيد على وحدة سلامة أراضي سوريا والعودة الآمنة للاجئين.
وغداة عودته من قمة “لفيف” جدد “أردوغان” الدعوات التركية لبدء حوار دبلوماسي مع سوريا وبرر ذلك لأن “الدبلوماسية بين الدول لا يمكن قطعها بالكامل، وهناك حاجة لاتخاذ مزيد من الخطوات مع سوريا”، وبهذا التصريح المباشر أنهي الرئيس التركي عقد كامل من القطيعة والحرب بالوكالة بين أنقرة ودمشق، عقب ذلك تم تسريب عدد من الشروط المتبادلة التي تطالب بها كلا من أنقرة ودمشق لـ إعادة التطبيع بينهم، وهي:
طالبت دمشق بإعادة السيطرة على محافظة إدلب، ونقل جمارك معبري كسب وباب الهوى لسيطرة سوريا للحصول على العوائد المادية منهم، والتحكم بالممر التجاري بين معبر “باب الهوى” وصولاً لدمشق والطريق التجاري بين دير الزور والحسكة، وطريق حلب – اللاذقية الدولي (إم 4) للنظام، ووقف الدعم التركي للمعارضة السورية، ووقف تطبيق العقوبات الغربية ضد الشركات السورية
بينما تركزت مطالب أنقرة على تقليص التهديدات الكردية، من خلال محاربة وحدات “حماية الشعب الكردية” أكبر مكونات قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، واستكمال عمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة ودمشق، والعودة الآمنة للاجئين في المنطقة الآمنة.
والموقف التركي الحالي المطالب بالتطبيع مع سوريا، هو موقف مغاير لموقف أنقرة السابق فمنذ عام نفت أنقرة تماما أي حديث عن مصالحة مع دمشق، كما أن أنقرة قطعت علاقاتها بدمشق في 2012، وأنشئت “الجيش السوري الحر” ومولته وسلحته ليكون مقابل للجيش السوري الرسمي وقدمت كل الدعم اللوجيستي والعسكري له ولفصائل المعارضة السورية المسلحة، ثم بدءا من عام 2016 نفذت تدخلات عسكرية داخل العمق السوري لتسيطر على الشريط الحدودي بينهما البالغ طوله نحو 900 كم، وهذه العمليات العسكرية هي (درع الفرات” في 24 أغسطس 2016، و”غصن الزيتون” في 19 يناير 2018، و”نبع السلام” في 9 أكتوبر 2019، و “درع الربيع” بمارس 2020) احتلت بموجبها 10% من مساحة شمال سوريا، وهذا بمخالفة للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ففي عام 2015، صدر قرار (2252) عن مجلس الأمن الدولي الذي ينص على بدء مرحلة انتقالية بمشاركة كل الأطراف في سوريا وكتابة دستور جديد، وإجراء انتخابات عادلة وشفافة بإشراف الأمم المتحدة، وبعد هذا السلوك التركي العدائي تجاه سوريا والذي يمثل اعتداء صارخ على سيادة دولة عربية مستقلة تأتي أنقرة اليوم لتدعو لإعادة الحوار والتطبيع معها، مما يطرح عدة تساؤلات حول دوافع أنقرة لتغير موقفها من دمشق، حيث تتسم السياسة الخارجية التركية بالبراجماتية ولذا يسعى “أردوغان” لتحقيق عدة أهداف من التطبيع مع سوريا هي ..
– تقليص التواجد الكردي: منذ عام 2019 وبعد القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي توسع نفوذ وتواجد قوات سوريا الديمقراطية الكردية (قسد) بشمال سوريا وارتبطت بعلاقات وثيقة مع التنظيمات المماثلة لها بكردستان العراق وأصبح المثلث الحدودي التركي السوري العراقي خاضع لسيطرتها، مما يمثل تهديد للأمن القومي التركي، ودفع أنقرة لشن عدد من العمليات العسكرية داخل العمق السوري والعراقي، ولذا فان القضاء على ذلك النفوذ الكردي هو هدف تركي سوري مشترك، بيد أن المعضلة هي رفض دمشق استمرار التوغلات التركية في العمق السوري، ولذا اقترحت موسكو تفعيل “اتفاق أضنة 1998” والذي ينص على منح تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم، أو توقيع اتفاق جديد باسم “اضنة 2” ينص على التنسيق الأمني التركي السوري لمواجهة التنظيمات الكردية والارهابية.
-ترحيل اللاجئين: تهدف أنقرة لاعادة اللاجئين السوريين لبلادهم لتخفيف العبء الاقتصادي والاجتماعي على عاتقها، حيث أكد “أوغلو” أن أنقرة لن تجبر أحد على الانضمام لبرنامج “العودة الطوعية للاجئين” حيث تستضيف تركيا 3 ونصف مليون لاجئ سوري وتسعى لإعادتهم لموطنهم وتوطينهم في المنطقة الآمنة التي تدعو لإنشائها في شمال البلاد، وقد عاد بالفعل مليون و300 ألف لاجئ سوري للمنطقة الآمنة، كما صرحت وزيرة تركية أنه “لن يكون هناك أي لاجئ سوري في بلادنا بحلول 2023″، وتعهّد “أردوغان” قبل نحو شهرين بإعادة أكثر من مليون لاجئ سوري إلى بلدهم قبل يونيو 2023 وهو موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستشهدها تركيا، وهذا لتخفيف حدة انتقادات المعارضة له جراء استقدام هذا العدد الكبير من اللاجئين وهو ما مثل ضغط على الاقتصاد التركي.
–رفع شعبية “أردوغان” قبل الانتخابات: حال تم التوافق التركي السوري على تقليص النفوذ الكردي وعودة جزء من اللاجئين السوريين بتركيا فأن ذلك سيعزز شعبية “أردوغان” المتراجعة قبل إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في يونيو 2023، كما أن عودة العلاقات مع دمشق ستسمح لتركيا المشاركة في عمليات إعادة الأعمار وعودة التبادل التجاري بينهم حيث كانت أنقرة أكبر شريك تجاري لدشمق قبل 2011 وسيؤدي ذلك لتعزيز الإقتصاد التركي الذي يعاني من أزمة حادة بعد تراجع سعر صرف الليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم لتصل 70%، كما ستمكن “أردوغان” من الحصول على النفط السوري بأسعار مخفضة في ظل أزمة الطاقة الحالية، فضلا عن رغبة “أردوغان” في استقطاب أصوات “العلويين” له وهم مقربيين من دمشق ويمثلون كتلة انتخابية وازنة، وحال حدث تطبيع بين أنقرة ودمشق فإن أصواتهم ستذهب “لأردوغان” على الأرجح.
-تعزيز مكانة “أردوغان” الدولية: إعادة التطبيع بين أنقرة ودمشق وقبول موسكو الوساطة التركية بالملف الأوكراني سيعزز مكانة “أردوغان” إقليميا ودوليا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز، كما أنه سيعزز مكانة تركيا كدولة إقليمية في منافسة مستمرة مع قوى أخرى كإيران، فضلا عن تعزيز دور تركيا بالاتحاد الأوروبي والناتو كوسيط مقبول من موسكو وكييف في الازمة الأوكرانية سيكون له دور في مفاوضات التسوية التي ربما تستضيفها إسطنبول مستقبلا التي استضافت اول اجتماع ثنائي بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا في مارس الماضي بعد أسابيع على بدء الحرب في 24 فبراير 2022.
والمعضلة التي ستواجه التقارب التركي السوري هو الموقف الإقليمي والدولي منه، حيث أن التطبيع بين انقرة ودمشق سيؤدي لتقليص النفوذ الإيراني والأمريكي في سوريا وهو هدف مشترك تركي روسي سوري، بيد أن طهران وواشنطن سيكون لهم رد فعل على المصالحة التركية السورية حال تمت لتضمن كلا منهم تحقيق مصالحها، فإيران على سبيل المثال ستعمل على تكريس تواجدها ونفوذها في دمشق والساحل السوري والجنوب، بينما ستقوم واشنطن بتقديم دعم أكبر “لقسد” كي تواجه أنقرة ودمشق ولتضمن واشنطن نفوذها بشمال سوريا حيث قاعدة التنف العسكرية الامريكية وآبار النفط في محافظتي دير الزور والحسكة الخاضعتين لسيطرة “قسد”، فضلا عن القواعد العسكرية الروسية، كما ستسعى واشنطن لاستقطاب بعض أطراف المعارضة السورية ودعمهم لرفض تلك المصالحة، وهو ما كشفت عنه مصادر غربية أوضحت أن دول “التحالف الدولي للحرب على داعش” بقيادة واشنطن ستبذل مساعي لفصل المعارضة السورية عن أنقرة مقابل إنشاء منطقة تخضع لسيطرة الفصائل المعارضة السياسية والمسلحة في إدلب وحماة وحلب.
خلاصة القول، أن التطبيع التركي السوري سيمر بعدة مراحل وسيكون له العديد من التداعيات الإقليمية والدولية، “فأردوغان” يعمل منذ سنوات على الموازنة في علاقاته الاستراتيجية بين روسيا ودوره في “الناتو” وعلاقاته بواشنطن، بيد أن المصالحة التركية السورية وتسوية الملف السوري وفق الخطط الروسية سيؤدي لخلل في ذلك التوازن لن يكون في صالح “أردوغان”، لأنه بذلك سيكون تجاهل المصالح الأمريكية بالملف السوري مما سيغضب واشنطن، إلا إذا حققت الوساطة التركية في الملف الأوكراني الأهداف الأمريكية والأوروبية عند تسوية الأزمة، وأخيرا يسعى “بوتين” لعقد قمة بين الرئيس السوري “بشار الأسد” ونظيره التركي “رجب طيب أردوغان” على هامش قمة “شنغهاي” التي ستعقد بأوزبكستان في سبتمبر المقبل وحال تم ذلك فإنه سيكون بداية جديدة للتسوية السورية وفق المصالح الروسية وسيؤدي لتعزيز مكانة روسيا إقليميا ودوليا وسينعكس ذلك على الازمة الأوكرانية أيضا، وربما يؤجل عقد القمة التركية السورية بيد أنها ستعقد قريبا، ولذا فإن المصالحة التركية السورية ستعيد ترتيب توازنات القوى في الملف السوري وفي الشرق الأوسط ككل.
_