د . منى سليمان
سيطر على قمة طهران الثلاثية ضمن “مسار الآستانة” والتي حضرها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ونظيريه الروسي والإيراني، الملفين السوري والأوكراني، وقد أسفرت القمة عن إرجاء العملية العسكرية التركية المرتقبة بسوريا والتي هددت بها أنقرة منذ شهرين نظرا لرفض موسكو وطهران لها فضلا عن الرفض الأمريكي، ورغم ذلك فإن “أردوغان” أكد على احتمالية تنفيذها لمعالجة المخاوف الأمنية لأنقرة، مقابل التوافق على الوساطة التركية لنقل الحبوب الأوكرانية، وهو الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في إسطنبول يوم 22 يوليو الحالي، ورغم هشاشة الاتفاق والمخاوف من فشل تنفيذه إلا أنه يحقق “لأردوغان” ما كان يسعى له من التوسط بين موسكو وكييف لتعزيز مكانة تركيا إقليميا ودوليا ورفع شعبيته المتراجعة داخليا قبل عام من إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في يونيو 2022، ولذا سيسعى “أردوغان” للحفاظ على التوافقات في السياسة الخارجية لبلاده وتجنب الصدام مع موسكو أو واشنطن حتى موعد الانتخابات التي تعد أصعب استحقاق يخوضه منذ توليه منصبه في 2002 لصعوبة الأزمة الاقتصادية بتركيا وتصاعد المعارضة ضده والمتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية التي تمثل تحديا لأي دولة، ولذا نجد أن مخرجات قمة طهران وتوجهات “أردوغان” الأخيرة ستمثل محددات للسياسة الخارجية التركية خلال السنوات المقبلة حال فوزه بفترة رئاسية جديدة.
أولا: قمة طهران كمحدد للسياسة الخارجية التركية:
1-نتائج قمة طهران الثلاثية:
استضافت العاصمة الإيرانية طهران يومي 19 و20 يوليو 2022، القمة الرئاسية السابعة ضمن “مسار الآستانة” بعد توقف دام عامين نظرا لأزمة فيروس “كورونا”، و”مسار الآستانة” أو “آلية الآستانة” هي مفاوضات ثلاثية بين “روسيا، ايران، تركيا” أطلقها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في يناير 2017 لبحث مسار الأزمة السورية ونجحت في تحقيق عدة نتائج منذ ذلك الوقت منها التوصل لمناطق خفض التصعيد بشمال وجنوب سوريا والتأكيد على ضرورة الحل السياسي للأزمة والتنسيق بين الدول الثلاث لمنع الصدام السياسي والمواجهة العسكرية بينهم. وتأتي أهمية “قمة طهران” من جملة المتغيرات الجيوسياسية الآنية، حيث أنها القمة الأولى بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بفبراير الماضي التي أسفرت عن عقوبات اقتصادية غير مسبوقة ضد موسكو، وتعد زيارة “بوتين” لطهران هي الثانية له للخارج منذ بدء ذلك الوقت مما يؤكد أهمية القمة له، كما أنها تعقد بعد أيام قليلة من عقد “قمة جدة للأمن والتنمية” بحضور الرئيس الأمريكي “جون بايدن” والقيادات السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، والذي أكد خلالها “بايدن” على “عدم ترك الشرق الأوسط ساحة للنفوذ الروسي والصيني”، مما يصعد حالة الاستقطاب الدولي بين واشنطن وموسكو لجذب دول الشرق الأوسط لها. وقد عقدت خلال قمة طهران اجتماعات ثنائية بين الرؤساء الثلاث “بوتين، أردوغان، رئيسي”، ثم عقد الاجتماع الثلاثي بينهم وصدر البيان الختامي للقمة، وأسفرت القمة عن عدة نتائج مباشرة ومعلنة منها ..
– إدانة الهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا من قبل الدول الثلاث، لأنها انتهاك للقانون الدولي والإنساني ولسيادة سوريا، وتعمل على زعزعة استقرار المنطقة وتصاعد التوترات فيها.
– رفض الحل العسكري للأزمة السورية والتأكيد على وحدة الأراضي السورية، والاعتماد على العملية السياسية التي يقودها السوريون، وتسهلها الأمم المتحدة، في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، كما أكدت القمة على ضرورة تسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخلياً إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا لضمان حقهم في العودة ودعمهم في هذا الإطار، ودعت الدول الثلاث لإطلاق عملية الإصلاح الدستوري وتولى مسؤوليتها بدلا من “مفاوضات جنيف” الأممية المتعثرة.
– دعوة “أردوغان” للمرة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية للإنسحاب من شرق نهر الفرات ووقف دعمها للجماعات الإرهابية، وهي دعوة تأتي تلبية لدعوات روسية مماثلة لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي بسوريا مما سيعزز نظيره الروسي والتركي، ويؤكد التوافق بين أنقرة وموسكو على ذلك.
وثمة نتائج غير معلنة وضمنية يتم استكشافها إثر التطورات التي أعقبت القمة مباشرة، حيث يتضح وجود توافقات بين روسيا وتركيا وإيران لضمان الحد الأدنى من مصالح كلا منها ليس في سوريا فقد بل في الشرق الأوسط ككل وأيضا، وقد كانت تركيا بطلة تلك الأحداث ومنها ..
-إرجاء العملية العسكرية التركية المرتقبة في سوريا، خاصة بعد لقاء “أردوغان” بالمرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران “على خامنئي” الذي كان نادرا وحذر فيه “من تنفيذ أي عملية عسكرية تركية جديدة في سوريا لأنها ستضر بالمنطقة”، وهو ما توافق مع الموقف الروسي الرافض للعملية العسكرية، وهذا لأن أنقرة أعلنت أنها ستستهدف مدينتي تل رفعت التي تتواجد فيها مليشيات إيرانية، ومنبج التي تتواجد فيها قوات روسية. وكان أردوغان قد هدد في 23 مايو 2022 بقرب عملية عسكرية تركية تستهدف مواقع “قسد” في منبج وتل رفعت لاستكمال الحزام الأمني وإقامة منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً في الأراضي السورية على حدود تركيا الجنوبية. كما قصفت القوات التركية بالمدفعية الثقيلة، بينما “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) قد حذرت من أنها لن تتمكن من حماية معتقلي تنظيم “داعش” الإرهابي وصد الهجوم التركي الجديد ضدها، وربما يستغل “داعش” ذلك لشن هجمات متعددة لإطلاق سراح 10 آلاف مقاتل محتجزين في سجون مؤقتة في شمال شرقي سوريا حال انطلاق العملية التركية المرتقبة.
-القصف التركي على منتجع سياحي لقرية برخ بدهوك بالعراق يوم 20 يوليو 2022 غداة القمة الثلاثية ينذر بوجود اتفاق ضمني على استمرار الاستهداف العناصر الكردية في العراق وسوريا لأن القضاء على التواجد الكردي في العراق وسوريا هدف تركي إيراني روسي سوري، والنفي التركي لحدوث قصف غير مقنع لأن القصف تم بطائرات عسكرية وفق شهود العيان.
– يتضح وجود اتفاق تركي إيراني ضمني على عدم استهداف الإسرائيليين باسطنبول للحفاظ على العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، فغداة القمة تم القبض على 3 عناصر إيرانية كانت تعتزم استهداف اسرائيلين باسطنبول مقابل أرجاء العملية التركية بشمال سوريا والصمت على القصف التركي للعراق، مع التأكيد على أهمية تنمية التعاون بين الأجهزة الأمنية والاستخبارية في البلدين من أجل ترسيخ الأمن أكثر فأكثر على الحدود.
-غداة القمة، التقى وزير الخارجية الإيراني “أمير حسين عبد اللهيان” نظيره السوري “فيصل المقداد” وأكد على عدم التوصل إلى موقف مشترك مع تركيا في قمة طهران، بشأن الوضع في شمال سوريا؛ ودعا لأن يهتم المسؤولون الأتراك بالتوصيات التي أكدت عليها الدول المشاركة في القمة الثلاثية لقادة الدول الضامنة لمسار أستانة، مشيراً إلى أن القمة ساعدت على وضع الأزمة السورية على مسار الحل السياسي، مما ينذر باحتمالية حضور سوريا مباشرة الاجتماعات المقبلة لمسار “الآستانة”.
ولعل أهم النتائج المباشرة لقمة طهران هو عقد اتفاقية “تصدير الحبوب الأوكرانية” في إسطنبول يوم 22 يوليو 2022 بحضور الرئيس التركي “أردوغان” والأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيرريش”، وهو اتفاق رباعي بين تركيا وأوكرانيا من جهة وبين تركيا وروسيا من جهة آخرى وبرعاية أممية، وسيتم بموجبه السماح بتصدير 25 طن من الحبوب الأوكرانية المحتجزة بموانئ البحر الأسود، مقابل رفع العقوبات على الأسمدة والحبوب الروسية، ومن خلال هذا الاتفاق تكون تركيا قد عززت مكانتها كوسيط مقبول وناجح في الأزمة الأوكرانية بين موسكو وواشنطن.
2-محددات السياسة الخارجية التركية بعد فوز “أردوغان”:
أعلن الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان” في 9 يونيو 2022، خلال تجمع لحزبه “العدالة والتنمية” في مدينة إزمير بغرب البلاد انه سيترشح للانتخابات الرئاسية المرتقبة المقررة في 24 يونيو 2023، ونفى تماما إجراء انتخابات مبكرة، وياتي هذا في ظل أكبر تراجع بشعبيته منذ توليه الحكم قبل عقدين، حيث كشفت استطلاعات الرأي أجريت في منتصف يونيو الماضي، عن تلاشي الفارق بين الحزب الحاكم وحزب “الشعب الجمهوري” أكبر أحزاب المعارضة إلى 0.1 %، كما أوضحت أن “تحالف الشعب” الحاكم المؤلف من حزبي (العدالة والتنمية، الحركة القومية) سيحصل على 35.1 % من أصوات الناخبين، مقابل 42.4 % لتحالف المعارضة في الانتخابات البرلمانية. بيد أن تلك النتائج معرضة للتغيير بل وللتحول لصالح أردوغان” حال نجح في معالجة الأزمة الاقتصادية بتركيا جزئيا نظرا لأنها انعكاس للركود العالمي الذي حدث بعد الحرب بأوكرانيا، كما أن “أردوغان” نجح خلال العام الماضي في معالجة أزمات السياسة الخارجية التركية بعد العزلة الإقليمية التي عانت منها عام 2020 ، ولذا فإن “أردوغان” سيركز كل جهده خلال العام الحالي للفوز بالانتخابات الرئاسية وسيعزز علاقاته مع موسكو وواشنطن ليكسب تأييد دولي لاستمراره بالسلطة، ثم حال فوزه وهو ما نتوقعه رغم تراجع شعبيته لأن الشعب التركي وقت الأزمات الاقتصادية والتهديدات الأمنية الحالية للبلاد سيلجأ لاختيار “أردوغان” باعتباره محقق الاستقرار بالبلاد، ولذا من المرجح أن يفوز بانتخابات الرئاسة ويخسر انتخابات البرلمان المقبل، وبعد فوزه سيقوم “أردوغان” باتباع سياسة خارجية تعبر عن رؤيته لمكانة تركيا خلال السنوات الخمس المقبلة عبر الحفاظ على تواجدها الخارجي، وتجنب الأزمات حتى لا يتأثر الاقتصاد، وهو ما يمكن إجماله بمفهوم “المناطق الآمنة”.
وكان “أردوغان” قد طرح خلال زيارته لأذربيجان في 3 يوليو 2021 مفهوم جديد سيمثل المحدد الرئيسي للسياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة وهو “المناطق الآمنة أو الحزام الآمن”، وأوضح أن “أنقرة تنشئ “منطقة أمنية” لحماية نفسها ، وناغورنو كاراباخ كانت أحد مكونات تلك المنطقة”. وأكد أنه “إذا فشلت تركيا في إنشاء مثل هذه المنطقة الأمنية القوية خارج حدودها، فلن يمنحونا السلام ولن يتركوا هناك رفاهية داخل حدودنا”. كما قرر الحديث عنه مرة آخرى في 25 يونيو 2021 خلال مشاركته في تدشين سلسلة مشاريع تنموية بولاية هاتاي جنوب البلاد، ويُروّج “أردوغان” لمفهوم “الحزام الأمني الخارجي” كضرورة لحماية تركيا ودعم استقرارها الداخلي وهو ما يبرز تناقض في رؤيته، لأن كثرة التدخلات الخارجية كلفت أنقرة اقتصاديا كثيرا لاسيما بعد توتر العلاقات مع دول الخليج العربي قبل عودتها مرة آخرى، كما انها أدت لوجود خصوم كثر لأنقرة يرفضون مثل هذه التدخلات.
ومن خلال تصريح “أردوغان” نجد أن هذه “المنطقة الآمنة” ستشمل كل التواجد التركي الخارجي في الخليج العربي وشمال وشرق إفريقيا وشرق البحر المتوسط والقوقاز والدول العربية، بدءا من إقليم كاراباخ بأذربيجان مرورا بسوريا والعراق وليبيا وشمال قبرص وشرق المتوسط وهذه المناطق بها تواجد عسكري تركي فعلي حيث تشن أنقرة عمليات عسكرية مستمرة بشمال العراق وسوريا، كما تقدم دعم عسكري لاحد الأطراف المتنازعة في ليبيا وشمال قبرص والقوقاز وحققت من ذلك إنشاء قواعد عسكري دائمة لها في تلك الدول فضلا عن قواعدها في الصومال وقطر، وربما يمتد مستقبلا للمناطق آخرى مثل كوسوفو والبوسنة بالبلقان أو أوكرانيا كقوات حفظ سلام، مما يضمن لها أن تصبح فاعل إقليمي يتدخل في شؤون تلك الدول ويعزز دورها الإقليمي ومكانتها الدولية.
وتنفيذ استراتيجة “المناطق الآمنة” سيؤدي لتحكم أنقرة في ممرات جيواستراتيجية لحوض بحر قزوين وممرات آسيا الوسطى لتصبح معبر لتصدير النفط والغاز من تلك الدول لأوروبا، مما يضع أنقرة في موضع منافسة مستمرة مع موسكو وطهران في آسيا الوسطى، كما سيؤدي لاستحواذ تركيا على الثروات النفطية بشرق المتوسط، وتعزيز استثماراتها في الشرق الأوسط. وبناء عليه فأن تركيا ستعمل على استغلال الفراغ الأممي والأمريكي في تلك الأقاليم لتعزيز دورها كوسيط في الأزمات الحالية. كما ستعتمد على ..
-تبني “أردوغان” لسياسة خارجية براجماتية وخطاب شعبوي قومي لحشد الداخل وتحقيق مصالحه وتعزيز نفوذه بالخارج، والترويج لنفسه على أنه “قائد” العالم الإسلامي والقوقازي والاوراسي. واحتواء الازمات في العلاقات الخارجية التركية لاكتساب تأييد إقليمي بتواجدها العسكري ونفوذها السياسي في عدة دول باقاليم مختلفة (الشرق الأوسط – البلقان – آسيا الوسطى والقوقاز)
-توظيف القوميات التركية التي تنتشر كقومية رئيسية ضمن جمهوريات فيدرالية داخل روسيا الاتحادية (شبه جزيرة القرم، تتارستان، توفا، باشقوردستان، ياقوتيا، تتارستان، ألطاي)، وإقليم تركستان الشرقية بالصين، وكأقليات في القرم (التتار)، وفي دول البلقان (أتراك البلقان)، واستغلال التركمان بسوريا والعراق ولبنان.
-استكمال “أردوغان” مرحلة الانفتاح التركي وإنهاء التوترات بالسياسة الخارجية لبلاده التي بدأها منذ مطلع عام 2021 واختتم بالتقارب التركي الخليجي والتركي الإسرائيلي، وبداية من عام 2022 حدث تقارب تركي أمريكي أوروبي لدور تركيا في الحرب الأوكرانية، وفي 15 مارس 2022 تعززت العلاقات التركية الأوروبية باستقبال “أردوغان” المستشار الألماني “أولاف شولتس” بأنقرة للمرة الأولى منذ تولى منصبه في نهاية العام الماضي وأكدا على ضرورة استمرار بذل الجهود لوقف إطلاق النار في أوكرانيا بأسرع وقت وإحلال السلام في المنطقة مع الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها.
-ستوظف تركيا قوتها الناعمة والصلبة لتحقيق هدفها في تلك الأقاليم، حيث ستتعاون مع الميليشيات المسلحة والمرتزقة كما في سوريا وليبيا، وستعزز دور المنظمات الإغاثية التركية مثل (تيكا)، وكذلك رجال الأعمال الأتراك ليضخوا استثماراتهم في دول محددة لتكسب في دورا فاعلا كما حدث في الصومال بدء من عام 2011، وستقدم المزيد من المنح والمساعدات الدولية الغذائية والتعليمية والصحية كما يحدث حاليا مع الدول الأفريقية.
وسوف تستخدم أنقرة تواجدها في تلك الأقاليم كورقة ضغط وتفاوض مع روسيا وواشنطن، وسوف تسمح واشنطن لها بتنفيذ جزء من سياساتها لمواجهة وتقليص النفوذ الروسي بالشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى.
ثانيا: مستقبل السياسة الخارجية التركية بالشرق الأوسط:
أجرى الرئيس التركي “أردوغان” حوار تليفزيوني موسع يوم 25 يوليو 2022، وجدد فيه مساعيه لإصلاح العلاقات مع مصر واستمرار استهداف التنظيمات الإرهابية بشمال سوريا والعراق، وأكد انخراطه في حل المشكلات بالشرق الأوسط واستمرار التنقيب عن الغاز الطبيعي بشرق المتوسط، وحرصه على استمرار العلاقات المتميزة مع دول الخليج العربي وإيران، مما يشيير لملامح السياسة الخارجية التركية خلال المرحلة المقبلة.
1-العلاقات التركية العربية:
خلال عامي 2019 و2020 شهدت العلاقات التركية العربية أزمات متتالية حيث تدخلت تركيا عسكريا في ثلاث دول عربية هي سوريا وليبيا والعراق. وهو ما اعترضت عليه الدول العربية الوازنة كمصر والسعودية والإمارات وكان أحد مصادر الخلاف بينها وبين أنقرة بل أن منتصف عام 2020 شهد مخاوف من حدوث صدام مسلح مباشر بين مصر وتركيا في ليبيا حال استمرت المواجهات العسكرية بين قوات الجيش الوطني الليبي وميليشيات الوفاق المدعومة من أنقرة. ثم بعد عقد “قمة العلا” في المملكة العربية السعودية في 5 يناير 2021 والتي أسفرت عن مصالحة مع قطر بعد ثلاث أعوام ونصف من مقاطعة (مصر، السعودية، البحرين، الإمارات) للدوحة وقطع العلاقات معها. وهو الأمر الذي رحبت به أنقرة، وسعت للتقارب مع الدول الأربع وهو ما أدى لتحقيق التقارب التركي الخليجي فيما بعد وإنهاء فترات التوتر في العلاقات بين انقرة وأبوظبي والرياض، والذي تكلل بزيارة ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” لأنقرة في مايو الماضي. هذا التقارب الخليجي التركي سيستمر بقوة خلال المرحلة المقبلة، كما أن الاستثمارات الخليجية التي تم ضخها ستساهم في حل أزمة الاقتصاد التركي.
وفيما يخص العلاقات المصرية التركية، فقد عول كثيريين على نتائج الجولة الأولى والثانية من المحادثات الاستكشافية بين مصر وتركيا التي عقدتا في 2021 بيد أنهم لم يسفرا حتى اليوم عن تقدم ملحوظ في تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة، رغم الخطوات الإيجابية التي تقدمها الثانية حيث قامت بإغلاق عدد من القنوات الفضائية التي كانت تستهدف الدعاية السلبية للدولة المصرية وأعلنت عن رغبتها في تسليم عدد من المطلوبيين جنائيا للقاهرة كما أعلنت صراحة رغبتها في التخلي عن دعم جماعات تيار الإسلام السياسي “الإخوان المسلمين”. وقد قابلت القاهرة تلك الخطوات بالترحيب بيد أن هناك عدد من الشروط المصرية لم تقدم تركيا على تنفيذها ومازل هناك عدد من الملفات العالقة أبرزها.. الخلاف بالملف الليبي والدعم التركي المستمر سياسيًا وعسكريًا للميليشيات المسلحة في طرابلس غرب البلاد. وكذلك الإصرار التركي على التنقيب غير الشرعي عن الغاز الطبيعي بسواحل شرق المتوسط، وكذلك استمرار العمليات العسكرية التركية بشمال سوريا والعراق والتي تدينها مصر بإستمرار وتطالب بوقفها واحترام أنقرة لسيادة ووحدة أراضي الدول العربية، وقد أصرت القاهرة على تضمين ذلك في البيان الختامي لوزراء خارجية جامعة الدول العربية الذي عقد بالقاهرة في نهاية مارس 2022، كما تعترض القاهرة على استمرار التدخلات العسكرية التركية في شمالي سوريا والعراق فقد شنت أنقرة أربع عمليات عسكرية تركية في سوريا (“درع الفرات” 2016 و”غضن الزيتون” 2018 و”نبع السلام” 2019. و”درع الربيع” مارس 2020)، ومثلها في العراق (معسكر بعشيقة بالموصل 2015، المخلب 1و2و3 عام 2019، المخلب النسر والنمر 2020، المخلب القفل 2022)، ثم تستمر في التهديد بشن عملية عسكرية خامسة في سوريا بتل رفعت ومنبج، كما قصفت مؤخرا منتج سياحي بدهوك شمال العراق، ولذا تربط القاهرة تطبيع العلاقات مع أنقرة بالسلوك التركي تجاه الدول العربية.
ورغم الرفض التام للتدخل العسكري التركي في الدول العربية إلا أنه يجب تفهم المخاوف الأمنية التركية، لاسيما وأن حزب العمال الكردستاني قد نجح في التغلغل بميليشيات الحشد الشعبي بسنجار وكذلك حافظ على صلاته مع قوات (قسد) بسوريا المدعومة أمريكيا، فأصبح على المثلث الحدودي العراقي السوري التركي ميليشيات كردية عربية شيعية إيزيدية تملك أسلحة وتدريب أمريكي، ولن تحل تلك المعضلة إلا بتنسيق الجهود الأمنية بين أنقرة ودمشق وبغداد، كما أن وجود تهديد كردي للأمن القومي التركي لا يمنح أنقرة الحق في التوغل داخل الحدود العراقية أو السورية، أو قصف مناطق بالعمق الجغرافي لكلا الدولتين كما حدث مؤخرا وتم قصف منتج سياجي بمحافظة دهوك بكردستان العراق، فضلا عن التهديدات التركية المستمرة بشن عملية عسكرية جديدة داخل سوريا في تل رفعت ومنبج. وربما يكون الأحرى بأنقرة تكثيف التواجد الأمني على الحدود التركية العراقية السورية لمنع تسلل أي من العناصر الإرهابية اليها ومحاربة عناصر “العمال الكردستاني” داخل أراضيها وليس نقل المعركة للعمق العراق والسوري، وهو ما يمثل إعتداء على سيادة دول عربية. وبناء على ما سبق فإن مستقبل العلاقات التركية العربية سيتمثل في ..
-استمرار التقارب التركي الخليجي للحفاظ على الاستثمارات الاقتصادية ومعالجة أزمات الاقتصاد التركي
-تعثر التقارب المصري التركي نظرا لطبيعة الملفات الخلافية بينهم حيث أنها تمس الأمن القومي المباشر للقاهرة، بيد أن ذلك لن يمنع من تطوير العلاقات الاقتصادية بين الدولتين.
-استمرار الاستهداف التركي العسكري والسياسي للعراق وسوريا، وشن المزيد من العمليات العسكرية المحدودة بشمال الدولتين، إلا أذا أعربت القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا عن رفضهم المباشر لذلك.
-حدوث محاولات تركية للتدخل سياسيا في الدول العربية الصغيرة المتأزمة مثل تونس، لبنان، واليمن. والاستفادة من عدم الاستقرار السياسي والتعثر الاقتصادي بتلك الدول في تعزيز النفوذ التركي الإقليمي دون إغضاب الحلفاء الخليجيين.
2-العلاقات التركية الإيرانية:
ساهم “مسار الآستانة” في تعزيز التقارب بين الدول الثلاث (تركيا، إيران، روسيا)، وهي دول لها تواجد ونفوذ في ثلاث أقاليم (الشرق الأوسط، القوقاز، البلقان) وكل دولة ستسعى للحفاظ على مصالحها فيها وسيكون هناك صدامات واختلافات بينهم لكنهم سيحافظون على استمرار التشاور بينهم وفق “آلية الأستانة” التي حققت نجاحات كبيرة وطفرات في العلاقات الثنائية بينهم، وحال تمت صدام سيكون من خلال الوكلاء (الميليشيات المرتزقة) أو الإضرار بالمصالح الاقتصادية المتشعبة لكل منهم. وفيما يخص إيران وتركيا فهما دولتين جاريتين إقليميتين بالشرق الأوسط كلا منهم تسعى لقيادة المنطقة وتعزيز دورها الإقليمي وتهميش الدول العربية الرئيسية، وقد انخرطتا منذ ما عرف بثورات الربيع العربي في الشأن الداخلي للدول العربية لتحقق كلا منهم حلمها بقيادة المنطقة، بيد أن مجريات الأحداث لم تؤدي لذلك رغم تصاعد الدور الإقليمي لكلا منهما، وقد اعتمدتا على نفس الأدوات تقربيا ومنها .. دعم الميلشيات المسلحة والتدخلات العسكرية واستخدام القوة الناعمة ودعم النخب المؤيدة لهم في الدول العربية، وهذا أدى لوجود خلافات حادة بين أنقرة وطهران حيث اصطفت كلا منهم لجانب محاور مختلفة، ففي الملف السوري دعمت أنقرة ولازالت المعارضة سياسيا وعسكريا عبر “الجيش السوري الحر” ونفذت أربع عمليات عسكرية داخل العمق السوري.
بينما إيران دعمت النظام الحاكم والجيش السوري، وفي العراق دعمت إيران الميليشيات الشيعية ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، بينما سعت تركيا لتحقيق مصالحها وتعميق تدخلاتها بإقليم كردستان العراق، وهذه الخلافات نجد أنها متكررة في أقاليم آخرى تتقاطع فيها مصالح الدولتين، ففي إقليم القوقاز تدعم تركيا أذربيجان وإيران وأرمينيا، وفي البلقان وآسيا الوسطى تدعم تركيا الأقليات المسلمة التركية السنية وإيران تدعم الأقليات الشيعية، ورغم تلك الخلافات إلا أن أنقرة وطهران تتفقان من خلال “آلية الآستانة” على عدم الصدام العسكري وتقاسم النفوذ السياسي بتلك الأقاليم للحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية ومنع استغلال القوى الآخرى للخلافات بينهم لتبسط نفوذها بتلك الأقاليم الحيوية.
وللتدليل على ذلك ففي يونيو 2020، قام وزير الخارجية الإيراني السابق “جواد ظريف” بزيارة لأنقرة، وافق خلالها وفق مصادر دبلوماسية على دعم التدخل التركي في الملف الليبي مقابل رفض “أردوغان” فرض عقوبات على طهران، كما قدمت أنقرة عدد من التسهيلات لطهران للتغلب على العقوبات المفروضة عليها ومنها (السفر إليها بدون تأشيرة، منح الجنسية التركية مقابل استثمارات بقيمة 250 ألف دولار)، في المقابل يتعرض المعارضين الإيرانيين في تركيا للاعتقال او القتل والخطف والاعادة قسرا لطهران بمعرفة الأمن التركي، كما يتم التنسيق بين طهران وأنقرة لقصف مواقع بشمال كردستان العراق لاستهداف معسكرات حزب العمال الكردستاني الكردي (ppk) وحزب “الحياة” الكردي الإيراني المعارض (بيجاك) وهي أحزاب مصنفة إرهابية في انقرة وطهران، ولذا شيدت تركيا جدار أمني بطول 191 كم على حدودها الشرقية مع إيران مزود بأجهزة استشعار حرارية لمنع تسلل الإرهابيين وعناصر التنظيمات الكردية واللاجئين والتهريب ومن المقرر أن تنشأ جدار مماثل بطول 145 كم في ولايتي (وان، آغري)، قبل نهاية العام الحالي وذلك بعدما ارتفعت معدلات الهجرة والتهريب الغير قانوني من إيران لتركيا، بيد أن هذه الخلافات لم تؤثر على علاقاتهم الثنائية وخلال قمة طهران الأخيرة وقعت إيران وتركيا على 8 اتفاقيات لتعزيز التعاون الاقتصادي والدفاعي بينهم، وأعلنوا عن عزمهم على رفع التجارة الثنائية بينهم إلى 30 مليار دولار سنويا.
ثالثا: السياسة الخارجية التركية في آسيا الوسطى والقوقاز:
1-تعاون مؤسسي بآسيا الوسطى:
تحظى منطقة آسيا الوسطى بأهمية خاصة في السياسة الخارجية التركية حيث أنها تمثل إمتداد لها ويطلق عليها (العالم التركي) لأنها تضم الدول الناطقة باللغة التركية والشعوب الطورانية التي ينحدر منها الشعب التركي، وقد اهتم “أردوغان” بتلك المنطقة منذ توليه منصبه وكثف إهتمامه مؤخرا بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021 حيث سعى لملء الفراغ العسكري والسياسي بتلك المنطقة معتمدا على العوامل التاريخية واللغوية المشتركة، حيث تسعى أنقرة لتزعم دول آسيا الوسطى (تركمانستان، أوزبكستان، قرغيزستان، كازاخستان، طاجيسكتان)، والقوقاز (أذربيجان وآرمينيا وجورجيا)، وبعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021 تسعى تركيا لملء الفراغ الأمني في المنطقة وطرح نفسها كنموذج يحتذى به وقائد لدول المنطقة، لاسيما في ظل تواجد التنظيمات الإرهابية “كداعش” و”القاعدة” في أفغانستان، مما يهدد الأمن والاستقرار بتلك الدول لاسيما بعد الهجمات الإرهابية في طاجيكستان 2020. ومؤخرا اتخذ “أردوغان” عدة خطوات هامة لتعزيز الدور التركي بآسيا الوسطى بدا فيها منافسا قويا لدول كبرى مؤثرة إقليميا كروسيا والصين، ومنها:
-تأسيس منظمة الدول التركية: أعلن في نوفمبر 2021 بأنقرة عن تحويل “منتدى التعاون التركي” إلى “منظمة الدول التركية” خلال قمة رئاسية للمنظمة، وهذا التغير الشكلي في الاسم يضفي أهمية كبرى على تلك المنظمة ويؤكد محوريتها في السياسة الخارجية التركية، وقد أسست في 3 أكتوبر 2009 لتعزيز التعاون بين الدول المتحدثة باللغة التركية وتقودها أنقرة بالطبع وتضم في عضويتها (تركيا، أذربيجان، كازاخستان، قرغيزستان، أوزبكستان)، وتجري مفاوضات لضم تركمانستان المتحدثة بالتركية، والمجر وبلغاريا نظرا لكبر الأقليات التركية بهم وحاليا تمثل الدول الثلاث بصفة مراقب في المنظمة، وهذا التجمع يسعى ليتحول “لاتحاد تركي” مثل الاتحاد الأوروبي، فهذه الدول بها 200 مليون نسمة وتبلغ مساحتها حوالي 5 ملايين كم2 ، وإجمالي دخلها 2 تريليون دولار. وتسعى تركيا لضم “جمهورية شمال قبرص التركية” للمنظمة بيد أن أعضائها رفضوا لعدم اعترافهم بها كدولة.
– مساع لتأسيس مركز إقليمي للطاقة: تسعى تركيا للتحول إلى مركز استراتيجي لنقل التجارة والطاقة من دول آسيا الوسطى الحبيسة نحو أوروبا. حيث يبلغ حجم الغاز الطبيعي في تلك المنطقة 34% من الاحتياطي العالمي، و27% من احتياط النفط العالمي، بالإضافة إلى ثروات ضخمة من المياه العذبة والباطنية، واحتياطات هائلة من المعادن والفحم ما يجعلها أحد أغنى مناطق العالم. وهذا سيوفر لأنقرة مصادر الطاقة التي تفتقر إليها وتمثل تهديد جيوسياسي رئيسي لتركيا. كما سيمنحها فرصة للتحكم في ممرات عبور الطاقة من وإلى أوروبا مما يعزز مكانتها الاستراتيجية دوليا، وقد قامت أنقرة بإنشاء عدد من الممرات ذات الأهمية الاستراتيجية التي تحقق هذا الهدف ومنها خط الغاز “ترك ستريم” الذي ينقل الغاز الروسي لأوروبا عبر تركيا، وخط غاز “تاناب” الذي ينقل غاز أذربيجان عبر جورجيا وأرض الأناضول إلى أوروبا. الأتراك يعتزمون تشغيل خط أنابيب الغاز عبر بحر قزوين، والذي سيربط أذربيجان وتركمانستان، وربما كازاخستان. وهذا يعني تحول تركيا إلى مركز رئيس للغاز.
كما تم الاتفاق على تطوير حقل الغاز دوستلوك (الصداقة) بين تركيا أذربيجان وتركمانستان، ويهدف هذا الخط إلى نقل غاز عبر قزوين، عبر خط أنابيب من جنوب القوقاز إلى أوروبا مرورا بتركيا. وتتحفظ روسيا وإيران على إنشاء هذا الخط لأن تركمانستان ستصبح منافس لهما في سوق الغاز الأوروبية. وتعمل على افتتاح ممر ناخيتشيفان” وفقًا لاتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة في 10 نوفمبر 2020 بين آرمينيا وأذربيجان، فإنه سيتم فتح هذا الممر ليربط منطقة نخجوان الأذربيجانية عبر أرمينيا بأذربيجان. وهذا من شأنه أن يوفر لتركيا ممرًا مباشرًا إلى حوض بحر قزوين. وفي 1 أكتوبر 2021 أنطلقت أول رحلة من اسطنبول لمطار “أوش الدولي” بقيرغيزستان منذ 8 سنوات مما يربط الأخيرة بـ 19 دولة في العالم عبر تركيا.
– تعزيز التعاون العسكري: تكثف أنقرة من التواصل مع دول آسيا الوسطى من خلال الاتفاقيات الثنائية لاسيما في مجال التعاون الدفاعي والأمني والعسكري. وقد مثل انتصار أذربيجان في حربها عام 2020 بمعدات عسكرية تركية أبرزها المسيرات (بيرقدار) أكبر ترويج للصناعات الدفاعية التركية التي تستعد أنقرة لتصديرها لدول آسيا الوسطى. حيث أعلنت أوزبكستان اهتمامها بمنتجات تركيا الدفاعية وتعمل مع شركات تركية مختلفة، كما تعمل مع أوزبكستان على توقيع اتفاقية تجارة حرة، حيث تولى أنقرة أهمية لأوزبكستان لأنها أكبر دول المنطقة وثاني دولة ناطقة باللغة التركية بعد تركيا. وفي 1 أكتوبر 2021 أعلنت أنقرة تقديم المساعدة لقيرغيزستان بالمعدات العسكرية وتدريب أفراد الأمن. وفي منتصف أكتوبر 2021 أعلنت طاجيكستان وتركيا عزمهم رفع حجم التجارة الثنائية إلى مليار دولار في السنوات المقبلة بينها معدات عسكرية تركية، وتم إنشاء حوالي 60 مؤسسة صناعية مشتركة بينهم، وتشغيل الرحلات المباشرة عبر الخطوط الجوية التركية لربط طاجيكستان بأوروبا، وذلك رغم أنها ليست عضوا بمنتدى “الدول التركية” وتتحدث الفارسية وتعد حليفة لإيران في المنطقة.
-تكثيف الزيارات بين تركيا ودول آسيا الوسطى” وذلك بشتى المجالات من خلال زياراته المتكررة للمنطقة، حيث في منتصف ديسمبر 2021 استقبل رئيس تركمانستان السابق “قربانقولي بيردي محمدوف” الأمين العام للمنظمة الدولية للثقافة التركية (توركسوي) “دوسين كاسينوف” بالعاصمة عشق أباد، كما تم تعيين “محمدوف” في مجلس أمناء الدول التركية بترشيح من أنقرة في أبريل 2022 بعد تخليه عن منصبه وانتخاب نجله رئيسا للبلاد. وقام “أردوغان” بزيارة أوزبكستان يومي (29-30 مارس 2022)، وذلك بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثلاثين للعلاقات الأوزبكية التركية، وقد استقبله خلالها نظيره الأوزبكي “شوكت ميرضيائيف”، وحضرا اجتماع لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين. وأعرب “أردوغان” عن طموحة لزيادة حجم التجارة بين أنقرة وطشقند إلى 10 مليارات دولار. ووقعت الدولتين 10 اتفاقيات تعاون.
ثم قام رئيس كازاخستان “قاسم جودت توكاييف” بزيارة لأنقرة في مايو الماضي وتم الإعلان عن بدأ كازاخستان في إنتاج طائرات “أنكا” التركية وهي طائرات هجومية بدون طيار، كما أعلن “أردوغان عن سعى الدولتين لرفع التبادل التجاري بينهم ليصل نحو 10 مليار دولار أمريكي سنويا، وهو يعني مضاعفة حجم التجارة الحالي بينهم. بينما أكد “توكاييف” “إن تركيا شريك استراتيجي مهم للغاية لكازاخستان”، وتم التوقيع على 15 اتفاق للتعاون في مجالات مختلفة خلال الزيارة، فيما تتمتع العلاقات التركية الطاجيكية بتعاون وثيق وفي 20 مايو الماضي قام وفد صناعي تركي بزيارة طاجيكستان لبحث سبل تطوير التعاون معها في جميع الاتجاهات.
-توظيف القوة الناعمة التركية: استخدمت تركيا خطابا سياسيا قوميا منذ اعترافها بدول آسيا الوسطى وروجت إلى إنتماء هذه الشعوب للقومية التركية الواحدة، ومثلت نموذجًا ثقافيًا اقتصاديًا تنمويًا يتطلعون له، وذلك بفعل القواسم الثقافية الاجتماعية الدينية المشتركة بينهم ومنها الديانة الإسلامية التي يعتنقها غالبية الشعوب واللغة تركية المنتشرة وتبني ذات القيم الاجتماعية. كما أن هذه الدول رحبت بالانخراط التركي بمختلف أدواته الصلبة والناعمة. حيث اعتمدت أنقرة على عدة أدوات ثقافية لتحقيق تغلغلها بدول آسيا الوسطى، ومنها .. تقديم المساعدات والمشاريع الخيرية حيث أنشأت مؤسسة “تيكا” (وكالة التعاون والتنسيق التركية) عام 1992 بهدف مساعدة الجمهوريات في آسيا الوسطى بعد استقلالها حيث كانت تعاني من أزمات اقتصادية واستمرت بتقديم ذلك الدعم حتى اليوم، وفي عام 2018 أعلنت “تيكا” عن تنفيذ (761) مشروعاً خيري في قرغيزستان و(725) في أوزبكستان منذ 1992. وقدمت منح لطلاب دول آسيا الوسطى تحت عنوان “مشروع الطلاب الكبير”. إضافة إلى تأسيس مئات المدارس والجامعات التركية بتلك الدول. كما تقوم تركيا ببناء وتطوير المساجد العثمانية في تلك الدول وبنت أكبر مسجد في آسيا الوسطى كلفته 35 مليون دولار، تم بناؤه من قبل مؤسسة الوقف التركي (ديانت) في العاصمة القرغيزية بيشكيك عام 2019 بسعة 20 ألف مصلٍ. كما تستعد شركة “تورك أوزغوفن” التركية لبناء أعلى ناطحة سحاب في آسيا الوسطى، بالعاصمة الأوزبكية طشقند.
وفيما يتعلق بمستقبل السياسة الخارجية التركية بآسيا الوسطى فإن “أردوغان” سيسعى لتنفيذ “رؤية 2024 للاتحاد التركي” التي ضمت 120 هدفاً طموحاً للتعاون بين الدول في مختلف المجالات من التجارة إلى التعليم والصحة والثقافة، ويفترض أن توفر هذه الأهداف – إن تحققت – التكامل بين جميع دول الاتحاد في مختلف المجالات على غرار الاتحاد الأوروبي، دون تشكيل مفوضية أو برلمان مشترك. كما تم وضع مشروع طموح بعنوان “التكنولوجيا الخضراء والمدن الذكية التكنولوجية” للعمل عليه خلال هذه الفترة. وتم أيضاً تشكيل مجموعة عمل بين الدول المشاركة من أجل العمل والتمهيد لرفع التعرفة الجمركية ووضع قوانين التجارة الالكترونية بين الدول وحرية التجارة، استعداداً للمشاركة في مشروع الحرير الصيني. وتعهدت الدول المشاركة بزيادة التبادل التجاري بالعملات المحلية من أجل تخفيف الاعتماد على الدولار والعملات الأجنبية، وهو أمر يصبّ في مصلحة تركيا أولاً، كما وقّعت أنقرة خلال الاجتماع اتفاقاً لاستيراد الغاز من تركمانستان عبر أذربيجان، وبذلك تستغني تركيا عن استيراد الغاز من إيران الذي لم تجدد تركيا عقده هذا العام.
كما سيعمل “أردوغان” على تعزيز مكانة منظمة الدول التركية وضم دول جديدة لها وتحويلها “لاتحاد تركي” كما الاتحاد الأوروبي، من خلال توحيد السياسات الجمركية ،وإنشاء بنك للتنمية، وصندوق استثماري، وهذا سيؤدي لتعزيز الدور والنفوذ التركي في المنطقة وسيعزز التنافس بين موسكو وأنقرة تحديدا، حيث صرح وزير الدولة التركي للعلاقات مع الدول الناطقة بالتركية عام 2020، بأن “الجمهورية التركية، خليفة الإمبراطورية العثمانية العظيمة، وعليها أن تنشئ تحالفًا مع أذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان، حتى لو أدى ذلك إلى مواجهة حادة مع روسيا”. في المقابل أكد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” عام 2022 أن موسكو ستحافظ على استقرار منطقة آسيا الوسطى، وخلال الاضطرابات التي شهدتها كازاخستان تبادلت وسائل الإعلام الروسية والتركية الاتهامات بتورط موسكو وأنقرة في تلك الأحداث، كما اعترضت موسكو على تصريحات مستشار “أردوغان” الذي انتقد تواجد القوات الروسية في كازاخستان، وأكدت موسكو أن قواتها تواجدت هناك ضمن قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة “معاهدة الأمن الجماعي” وبناء على طلب رسمي من رئيس كازاخستان لأن دولته عضو بالمنظمة، وربما تسعى موسكو لعرقلة خطوط وممرات الطاقة التي تعتزم تركيا إنشاؤها، لأن ذلك حال تم سيعزز مكانة أنقرة كمعبر لنقل الطاقة لأوروبا وسيؤدي لتراجع الأهمية الاستراتيجية للغاز الروسي لأوروبا لاسيما في ظل ارتفاع أسعاره عالميا. كما تمتعض موسكو من استمرار عقد صققات السلاح وتصدير المعدات العسكرية التركية لدول آسيا الوسطى مما يهدد مكانة روسيا كمورد أول للسلاح لتلك المنطقة.
مما سبق نجد أنه رغم تصاعد الدور والنفوذ التركي بآسيا الوسطى إلا أن منظمة الدول التركية مازال تأثيرها سياسيا وعسكريا محدود بالمنطقة، فلم يكن لها دور خلال الاضطرابات الحادة التي شهدتها كازاخستان في مطلع يناير 2022 وأدت لتدخل قوات حفظ سلام من منظمة “معاهدة الأمن الجماعي” بقيادة روسيا وساهمت في إرساء الاستقرار بالبلاد، كما شهدت أوزبكستان احتجاجات حادة في مطلع يوليو الحالي ولم تتخذ أنقرة أي موقف منها سوى الإدانة، ولذا فإن تأثير تركيا مازال محدود في تلك الدول مقارنة بالتأثير العسكري السياسي الروسي حيث تحتفظ موسكو بقاعدة عسكرية في طاجكستان وقيرغزستان، ولها علاقات متميزة مع سائر دول آسيا الوسطى التي ترتبط معها باتفاقيات ومعاهدات عسكرية، ولذا فإنه من الأفضل لأنقرة أن تنظر مستقبلا في إنشاء قوات حفظ سلام أو تعزيز التعاون الدفاعي بين أعضاء “منظمة الدول التركية”، ولا تكتفي بالتعاون الاقتصادي والثقافي فقط.
2- تغلغل تركي بأفغانستان:
لم يترك “أردوغان” أى فرصة أو محفل دولي دون طرح قدرته على إدارة الملف الأفغاني أمنيًا وسياسيًا، وقد بدأ ذلك قبل إتمام الانسحاب الأمريكي في منتصف أغسطس 2021، لاسيما عرض قدرة أنقرة على تأمين وإدارة مطار العاصمة كابول لأنه يعد الرابط الجوي الأهم بالبلاد والذي تتم من خلاله عمليات الإجلاء والتواصل مع العالم الخارجي في ظل ضعف البنية التحتية للمطارات الأفغانية الأخرى. وقد بدأ ذلك في يونيو 2021 خلال قمة حلف “الناتو” بعدما عرض “أردوغان” تأمين وإدارة وتشغيل مطار كابول عقب الانسحاب الأمريكي. بغية إعادة توزيع مهام القوات التركية المتواجدة بأفغانستان ضمن قوات حلف “الناتو”. فقد شاركت أنقرة ضمن قوات “إيساف” التابعة للحلف منذ إسقاط حكم “طالبان” عام 2001، وتولى جنرال تركي لمرتين قيادة تلك القوات. وتسلمت تركيا بيناير 2021، رئاستها، كما أن أنقرة كانت تشارك بنحو 500 جندي بتلك القوات انسحبوا في أغسطس 2021، ثم في مطلع عام 2022 أعلنت تركيا عن مشاركتها مع شركة قطرية في إدارة مطار كابول.
وخلال المرحلة المقبلة تسعى أنقرة للتدخل أكثر في الشأن الأفغاني وتعزز تعاونها مع حركة “طالبان” التي استضافت عدة وفود منها بأنقرة رغم عدم اعترافها رسميا بشرعية حكم الحركة، وهذا كي تكرر سيناريو تدخلها بالصومال نظرا للتشابه بينهم فحالة “اللادولة” التي تمر بها كابول يمكن أن تستمر طويلا مما سيؤثر على الأمن الإقليمي بوسط آسيا، ولذا تخطط تركيا للتواجد على خريطة النفوذ الأفغانية، وإدارة الوضع داخلها وخارجها بغية منع تحول أفغانستان لبؤرة للجماعات الإرهابية لأن ذلك سيهدد دول المنطقة والشرق الأوسط الذي سينتقل إليه تلك الجماعات كما حدث سابقا مع تنظيم “القاعدة”، ومكافحة تهريب المخدرات، والحفاظ على وضع الأقليات وحقوق الإنسان والمرأة، والتقارب مع واشنطن باعتبارها وكيل لها في كابول، وحل مشكلة الهجرة اليومية من أفغانستان لتركيا وفتح أسواق جديدة للمنتجات التركية، وإعادة التسويق للتيارات الإسلام السياسي ممثلة في حركة “طالبان” الحاكمة بأفغانستان، وبالطبع ربما تسعى أنقرة لضم أفغانستان لمنظمة “الدول التركية” مستقبلا، وهذا التواجد التركي في أفغانستان سيعزز نفوذها في منطقة آسيا الوسطى ككل.
2-تحالف استراتيجي مع أذربيجان:
تعد العلاقات بين تركيا وأذربيجان علاقات استراتيجية خاصة نظرا لوجود اللغة والثقافة والتاريخ المشترك بينهم، وقد وصفها الرئيس الأذري “إلهام علييف” بأنهم “شعب واحد في دولتين”، وكانت أنقرة أول دولة اعترفت باستقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، وقدمت لها كافة أشكال دعم والتعاون الاقتصادي والسياسي واللوجستي وشاركت في بناء الدولة الجديدة، وبلغ حجم التبادل التجاري بينهم نحو 15 مليار دولار عام 2021 بينهم 89 مليون دولار واردات أذربيجان الدفاعية من تركيا التي مثلت نحو ثلث وارداتها الاجمالية. كما سعت تركيا للربط برا بين الدولتين رغم عدم الاتصال الجغرافي بينهم، ففي عام 2017 تم إطلاق أول قطار على خط سكة حديد “باكو – تبليسي – قارص” للربط بين (أذربيجان – جورجيا- تركيا) ويمتد من بحر قزوين ميناء آلات البحري إلى مدينة كارس شرقي تركيا، وترتبط تركيا مع أذربيجان بمشروع “ممر الغاز الجنوبي” وهو نقل الغاز الطبيعي من جنوب القوقاز وبحر قزوين عبر “أذربيجان، جورجيا، تركيا”، وتبلغ كلفته الإجمالية 40 مليار دولار، ويهدف لنقل الغاز الأذري لمسافة 3500 كم إلى أوروبا لتقليل اعتماد الغرب على الطاقة الروسية، وبعد أزمة الطاقة الحالية الناجمة عن الحرب الأوكرانية فإن هذا المشروع يحظى بأهمية مضاعفة وحال استمراره فإنه سيعزز مكانة تركيا كمركز للطاقة الإقليمي لنقل الغاز من آسيا الوسطى والقوقاز لأوروبا.
وقد بدأت العلاقات التركية الأذرية مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي بعد انتصار أذربيجان على أرمينيا في حرب “كاراباخ الثانية” في نوفمبر 2020 بفضل الدعم العسكري واللوجستي التركي لها، حيث أكد الرئيس الأذري “إلهام علييف” يوم 5 أكتوبر 2020 ، أن الجيش الأذري حرر العديد من المناطق المحتلة في إقليم كاراباخ، مشيرًا إلى أن أذربيجان سعيدة بوجود حليف لها مثل تركيا، وأوضح أن الأخيرة قدمت دعمًا معنويًا، كبيرا لباكو وأكد امتلاك بلاده منظومات دفاعية تركية، وأكد أن تركيا دولة قوية ولها مكانة كبيرة في المجتمع الدولي، ويجب أن يكون لها دور في حل النزاع في إقليم كاراباخ. بينما أوضحت الحكومة الأرمينية إن دعم تركيا العسكري لأذربيجان يوسّع الحرب، ويقوض الأمن الإقليمي. وبالطبع فإن العلاقات بين أنقرة ويريفان متوترة بفعل رفض تركيا الاعتراف “بالإبادة الجماعية للأرمن” على يد القوات العثمانية منذ قرت مضى.
وقد حقق “أردوغان” عدة أهداف من دعمه العسكري لأذربيجان في هذه الحرب منها .. تعزيز مكانة تركيا في المنطقة وتجديد العداء للأرمن واستقطاب القوميات التركية والناطقين بها، والترويج للصناعات الدفاعية التركية لاسيما الطائرات بدون طيار (بيرقيدار)، منافسة روسيا بندية تعزز مكانة أنقرة بحلف “الناتو”، ولذا فقد أضافت الأزمة أقليم كاراباخ ملفا جديدا للخلافات بين “فلاديمير بوتين” و”رجب طيب إردوغان” فضلا عن ملفي سوريا وليبيا، حيث تدعم موسكو أرمينيا التي تعد الحديقة الخلفية لموسكو وجزء من أمنها القومي وروسيا لها قاعدة عسكرية في أرمينيا هي قاعدة (غيومري). كما ترتبط موسكو وباكو بعلاقات وثيقة للغاية، وليس فقط اقتصادية. كما أدى لتهميش “مجموعة مينسيك” تضم (روسيا وفرنسا والولايات المتحدة) والتي كانت تعمل لإيجاد حل سلمي للنزاع بين أرمينيا وأذربيجان منذ عقدين. ولذا فإن الدعم العسكري واللوجستي التركي لأذربيجان في حرب “كاراباخ الثانية” التي استمرت 44 يومًا وانتهت في 9 نوفمبر 2020 بإعلان سيطرة باكو على الإقليم وخسارة أرمينيا، والفوز الاذري حقق مكاسب “لأردوغان” أكثر من “علييف” نفسه، وأدى لخلل في التوازنات الجيوسياسية بمنطقة القوقاز لصالح أنقرة حيث أنه عزز مكانة تركيا كحليف موثوق به في آسيا الوسطى والقوقاز ووسط القوميات التركية المنتشرة بدول تلك المنطقة، واستغلت أنقرة ذلك لتعزيز تعاونها الدفاعي والاقتصادي مع كل دول المنطقة فيما بعد، كما أن سيطرة أذربيجان على “كاراباخ” منحت تركيا وجودًا عسكريًا في القوقاز وممرًا بري عبر “ناخيتشيفان” سيربط تركيا مباشرة بأذربيجان ودول آسيا الوسطى. وهو ما سيتحقق بعد “إعلان شوشا” الذي صدر خلال زيارة “أردوغان” لأذربيجان في 3 يوليو 2021 ويمثل اتفاق دفاع مشترك بينهم وينص على “يتعهد الطرفان بمساعدة بعضهما البعض، بما يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة، إذا تعرض استقلال أحد الأطراف أو سلامته الإقليمية أو أمنه للتهديد أو الهجوم من قبل دولة أو دول ثالثة”.
3- تقارب تركي باكستاني:
كانت توصف العلاقات التركية الباكستانية بأنها جيدة، بيد أنها بدأت مرحلة تعاون استراتيجي خلال فترة تولي رئيس الوزراء الباكستاني السابق “عمران خان منصبه (2018- 9 أبريل 2022)، حيث سعى لتطبيق النموذج التركي ببلاده وعزز علاقاته الشخصية مع “أردوغان” وهذا لكي يواجه النفوذ الإيراني الكبير ببلاده، ويجد حليف داعم له في مواجهة التوترات الحدودية المستمرة مع الهند، وحضر “خان وأردوغان” قمة “ماليزيا الإسلامية” بنهاية عام 2019 في مسعى لتشكيل تحالف إسلامي ومنظمة جديدة منافسة لمنظمة التعاون الإسلامي التي تقودها المملكة العربية السعودية، تضم (تركيا، ماليزيا، قطر، إيران، باكستان) بيد أن القمة فشلت في الخروج بأي نتائج. ثم زار “أردوغان” باكستان في منتصف فبراير 2020 وأكد “أن بلاده ستواصل دعم باكستان والوقوف معها في وجه الضغوط السياسية ولمكافحة الإرهاب، لن ننسى تقاسمهم رغيف الخبز معنا في حرب استقلالنا” وذلك خلال كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للبرلمان الباكستاني في العاصمة إسلام آباد، أنقرة تدعم مبدأ الحوار والعدل لحل أزمة إقليم كشمير لأنه من غير الممكن حل هذه الأزمة بالقوة، كما أن معاناة الكشميريين زادت أضعافا في الآونة الأخيرة، نتيجة الخطوات الأحادية المتخذة والتي تقيد حرية سكان كشمير”. وهذا الخطاب قد أزعج الهند الذي ردت عليه ببيان من وزارة الخارجية يطالب أنقرة بعدم التدخل في شؤونها الداخلية واستيعاب حقائق الوضع بإقليم كشمير لأنه جزء لا يتجزأ من الهند.
ومنذ ذلك الوقت فقد نفذ 100 مستثمر تركي استثمارات ضخمة في باكستان خاصة بمجال الصناعات الدفاعية، فضلا عن تصدير الدراما التركية لإسلام آباد والتي لاقت نجاحا باهرا هناك وأعلن وقف “المعارف” التركي افتتاح 83 مدرسة تركية بباكستان، وحظى الرئيس “أردوغان” بشعبية كبيرة في باكستان لدرجة أن “عمران خان” أعلن أنه لو ترشح “أردوغان” للرئاسيات الباكستانية فإنه سيفوز”. وقد آثار التقارب التركي الباكستاني مخاوف موسكو وواشنطن وطهران وبكين نظرا لأن كلا منهن مصالح ونفوذ استراتيجي في باكستان وجنوب القوقاز تسعى للحفاظ عليها، كما ثارت المخاوف من نقل التكنولوجيا النووية الباكستانية لتركيا مما يجعلها “دولة نووية” وهذا سيؤدي لخلل في توازن القوى بالشرق الأوسط كما سيكون ورقة ضغط في علاقاتها مع موسكو وواشنطن، ولذا رفضت الأخيرة تصدير تركيا 30 طائرة هليكوبتر هجومية من طراز (ATAK) إلى باكستان، وهذا لم يؤثر على التعاون العسكري بين أنقرة وإسلام آباد حيث استلمت باكستان أربع طرادات من طراز MİLGEM و30 مروحية T129 ATAK تركية الصنع، مما جعل تركيا رابع أكبر مصدر للمعدات العسكرية لإسلام آباد.
4-تحالفات عابرة للقوميات:
سعى “أردوغان” لتشكيل تحالف ثلاثي يضم (تركيا، باكستان، أذربيجان) منذ عام 2017 وعقد وزراء الخارجية للدول الثلاث اجتماع آنذاك لاتخاذ الإجراءات المناسبة لذلك بيد أن تفعيل هذا التحالف قد تأخر، وفي يناير 2021 أعلن وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”، أن أنقرة وإسلام أباد وباكو قرروا اتخاذ خطوات مهمة بخصوص تعزيز الأمن والاستقرار والازدهار بينهم، وهذا بعد اجتماع ثلاثي عقده مع نظرائه الباكستاني والأذري، وأكد “أوغلو” أن الدول الثلاث ستعمل على تطوير البنية التحتية في مجالي النقل والطاقة وستهتم بالتطورات الإقليمية في إقليم كاراباخ وكشمير، وقبرص، وشرقي البحر المتوسط، وأفغانستان. وفي 21 يوليو 2022 عقد رؤساء البرلمانات للدول الثلاث اجتماعا في تركيا وقعوا خلاله على اتفاق لتعزيز التعاون البرلماني بينهم. في المقابل، أدى التقارب التركي الأذري الباكستاني، لتوتر في العلاقات بين تركيا وأرمينيا والهند، ورغم محاولات التطبيع بين أنقرة ويريفان ألا أنها بعد عامين لم تسفر عن نتائج جديدة، بل أن المعارضة الآرمينية تنتقد حكومتها للتقارب مع تركيا وحال تولت المعارضة الحكم بيريفان ربما تعود حالة العداء بينها وبين أنقرة، فضلا عن اتساع فجوة الخلاف بين أنقرة ونيودلهي نظرا لموقف الأولى من إقليم “كشمير”، كما أعربت إيران أكثر من مرة عن امتعاضها من التقارب التركي الباكستاني الذي ينافس نفوذها القوى بإسلام آباد، وكذلك دعمت طهران أرمينيا ضد أذربيجان نظرا للتوترات التاريخية مع الأخيرة، مما ضاعف حدة التنافس بين تركيا وإيران على بسط النفوذ بجنوب آسيا والقوقاز.
كما دعا “أردوغان” في نوفمبر 2020 لتشكيل صيغة (3+3) وهو “تحالف سداسي عابر للقوميات” يضم (إيران، روسيا، تركيا، أذربيجان، جورجيا، أرمينيا) وهذا جاء بعد إعلان انتصار أذربيجان بحرب “كاراباخ” فبدأت أنقرة طرح نفسها بوصفها دولة قائدة لدول القوقاز و حليفة لإيران وروسيا، وقد دعمت طهران تلك الدعوة لتعزيز نفوذها في القوقاز بعدما حققت أنقرة انتصارا على حليفتها أرمينيا بعد خسارتها إقليم كاراباخ لصالح أذربيجان حليفة تركيا، حيث إن “أردوغان” قد طرح تلك المبادرة عقب فوز باكو في الحرب بدعم تركي، وهو ما يعكس المخاوف الايرانية من اتساع النفوذ التركي في القوقاز، فرغم انتهاء حرب “كاراباخ” الا ان الاشتباكات الحدودية مستمرة حد التهديد بإشعال الحرب مرة آخرى، كما ثارت بعض التوترات بين إيران وأذربيجان مما يمثل حرجا لتركيا التي لم تتوسط بين الطرفين وهم من حلفائها، وفي نفس السياق لم ترحب موسكو كثيرا بمبادرة “أردوغان” السداسية نظرا للخلافات بينها وبين جورجيا بعد إنفصال أوسيتيا الجنوبية وموقفها من أذربيجان، كما أن موسكو تعترض على النفوذ التركي المتصاعد في القوقاز بعد حرب “كاراباخ” ولذا أكد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” آنذاك على أهمية صيغة 3 + 3 لكنه رفض “بناء نشاط عسكري في المنطقة” وهو ما تقوم به تركيا من خلال دعمها العسكري لأذربيجان.
بيد أن هذا التحالف السداسي لم يرى النور، نظرا للتعارض الشديد ورفض طهران وموسكو للنفوذ التركي للسيطرة على مصادر الطاقة بالقوقاز ووسط آسيا. ولذا قامت روسيا وإيران بتعزيز تعاونهم في تلك المنطقة لمواجهة تركيا عضو حلف الناتو وخصم محتمل في أي صراع مستقبلي في تلك المنطقة التي تعج بالأزمات الساخنة التي ربما تتحول لحرب في أي لحظة مثل (إقليم كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا، إقليم كشمير بين باكستان والهند، الخلافات الحدودية بين آسيا الوسطى خاصة طاجيكستان وقيرغيزستان)، حيث شهدت قمة بحر قزوين عام 2021 وعام 2022 التي عقدت في يونيو الماضي بتركمانستان توافق روسي إيراني لتعزيز تعاونهما في مجال الطاقة لمواجهة المشاريع التركية لنقل غاز بحر قزوين لأوروبا، مما يقوض قدرة روسيا على السيطرة على أسواق الطاقة العالمية لاسيما بعد فرض عقوبات اقتصادية عليها، وقد أكدت موسكو في قمة تركمانستان أن بحر قزوين “سيبقى بحيرة روسية تتحكم موسكو فيها”، وهو ما يؤكد عرقلة أي مشاريع تركية للتمدد وبسط النفوذ في تلك المنطقة.
وفيما يخص مستقبل السياسة الخارجية التركية بجنوب آسيا (باكستان، الهند) والقوقاز فإنها ستعمل على:
– تعزيز التعاون الثلاثي مع أذربيجان وباكستان بشتى المجالات خاصة التعاون الدفاعي، وربما تستكمل التطبيع مع آرمينيا وتعترف بها، وسيكون هناك دعم أمريكي للتواجد التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، لأنها دولة بحلف “الناتو” ونفوذها بتلك المنطقة سينافس نظيره الروسي ويعرقل مما يعد مكسبا لواشنطن التي تقلص نفوذها تماما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
-ستستغل واشنطن النفوذ التركي بآسيا الوسطى لمحاصرة روسيا والصين في تلك المنطقة،ـ والتواجد التركي سيجعل أنقرة تتقاسم النفوذ بالبحر الأسود مع روسيا وهو ما برز مؤخرا من خلال توقيع اتفاق تصدير “الحبوب الأوكرانية” الذي لم يكن يتم لولا الوساطة التركية، كما أن واشنطن لم تعترض على التحركات التركية في المنطقة لاسيما دعمها العسكري لأذربيجان في حربها ضد أرمينيا بأكتوبر 2020، وكذلك تصدير المنتجات الدفاعية التركية (طائرات بدون طيار بيرقدار) لدول المنطقة بل شجعتها على ذلك. والتقارب التركي الأذري الباكستاني أدى لتوتر العلاقات بين أنقرة ونيودلهي مؤخرا، بخلاف التوترات المستمرة والتقارب المذبذب بين تركيا وآرمينيا، ولذا فإن المزيد من التقارب بين الثلاثي (تركيا، أذربيجان، باكستان) سيؤدي لتحالف قوي وفاعل بجنوب القوقاز وكذلك سيؤدي لتاثيرات سلبية في العلاقات التركية الهندية، وهو ما يمكن أن تستغله الصين للتقارب مع تركيا، ولذا يجب على أنقرة حساب مصالحها الاستراتيجية المستقبلية في تلك المنطقة بكل دقة، لأن سياساتها سيكون لها ارتدادات عكسية من القوى الإقليمية الآسيوية المؤثرة هناك.
رابعا: تصاعد النفوذ التركي بمنطقة البلقان:
ثمة قلق أمريكي أوروبي روسي من تصاعد النفوذ التركي بالعقد الأخير من عهد “أردوغان” لاسيما بعد عام 2018 في منطقة البلقان (الجبل الأسود، ألبانيا، كوسوفو، البوسنة والهرسك، كرواتيا، صربيا، مقدونيا الشمالية)، حيث تسعى تركيا لاستغلال ميراثها العثماني وإحيائه في تلك الدول ثقافيا وبالاعتماد على الأقليات التركية هناك التي أصبح لها نفوذ كبير وتمثل في الأحزاب السياسية وتشارك في الحكومات المتعددة لاسيما في بلغاريا وألبانيا وكوسوفو، حيث يسعى “أردوغان” لملء الفراغ الأمريكي الأوروبي بالبلقان خاصة في ألبانيا وكوسوفو والبوسنة حيث الأغلبية المسلمة والأقليات التركية وقد وصف رئيس الوزراء الألباني “إيدي راما” الدور التركي في المنطقة “بأنه لا غنى عنه”، وقد نجحت تركيا في تأسيس شراكات إستراتيجية تعاونية مع دول البلقان وتعمل لاستعادة نفوذها العثماني الجيوسياسي فيها من خلال توظيف قوتها الناعمة حيث تقوم بإحياء التاريخ العثماني وترميم المساجد والمبان العثمانية التاريخية وتنشر مراكز تعليم اللغة التركية وتنشىء مدارس تركية في كافة تلك الدول، مما جعل لها علاقات متميزة مع ألبانيا والمجر وكوسوفو، وعلاقات جيدة مع صربيا رغم الخلافات التاريخية والسياسية بينهم،كما وظفت تركيا أزمة تفشي فيروس (COVID-19) لتبدو أكثر فاعلية وقدمت مساعدة طبية لدول البلقان، وقد قام “أردوغان” بعدة زيارات للمنطقة أخرها في أغسطس 2021 شملت البوسنة والهرسك والجبل الأسود، وفي يناير 2022 زار ألبانيا، وبخلاف تعزيز التعاون واستعادة النفوذ التاريخي بتلك الدول.
و”أردوغان” له هدف جديد من تكثيف تعاونه مع البلقان هو استهداف مؤسسات حركة الخدمة (يتهمها “أردوغان” بتدبير الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016 دون أي دليل) في البلقان لأنها تنشط للغاية بتلك المنطقة وشهدت الأعوام الأربع الماضية ترحيل عدد من العاملين بمدراس الخدمة من دول البلقان لتركيا حيث تم اختطاف ست مدرسين من كوسوفو ونقلوا سرا لأنقرة وهو ما انتقدته الأمم المتحدة وقدرت عدد المرحلين قسرا بأكثر من 100 شخص ووصفت تلك العلاقات بأنها “عمليات اختطاف خارج الحدود الإقليمية، واختفاء قسري”، وأخيرا يسعى “أردوغان” للضغط على الاتحاد الأوروبي في حديقته الخلفية بالبلقان، للتأكيد على قوته كمركز إقليمي ولقبول الاتحاد بعضوية أنقرة، كما يسعى للارتباط بعلاقات متميزة مع الصرب المسيحيين وليس فقط مسلمي البلقان، بل وسيط بين المجموعات العرقية المختلفة في المنطقة.
ويمكن إجمال أبرز التطورات في العلاقات التركية بدول البلقان فيما يلي ..
-اتهام تركيا بالتدخل في انتخابات بلغاريا: شهدت العلاقات بين أنقرة وصوفيا توترا بنهاية نوفمبر 2021 بعد اتهام تركيا بالتدخل في سير الانتخابات الرئاسة البلغارية ودعم أحد المرشحين من أصل تركي، حيث اتهم وزير الداخلية البلغاري “بويكو راشكوف” في منتصف نوفمبر 2021 تركيا بمحاولة التأثير على الجاليات والأقليات التركية للتصويت لصالح المرشح الرئاسي “مصطفى كارادي”، وتم استدعاء السفير التركي بصوفيا وتحذيره من مخاطر التأثير على التصويت الرئاسي، بل وتم تنظيم تظاهرات أمام السفارة التركية بصوفيا احتجاجا على الدخل التركي في الشأن الداخلي للبلاد، وهذه ليس المرة الأولى التي يوجه فيها تلك الاتهامات لتركيا حيث وجه لها اتهام مماثل عام 2017 وسحبت بلغاريا سفيرها من أنقرة، كما تشتغل أنقرة النخبة السياسية البلغارية الموالية لها ليعبروا عن مصالح أنقرة داخل الاتحاد الأوروبي ومنهم رئيس الوزراء البلغاري السابق “بوريسوف” الذي كان يعرقل فرض عقوبات اقتصادية أوروبية على تركيا، وحذرت من أن أنقرة لديها القدرة على إغراق الاتحاد الأوروبي بالمهاجرين من خلال إلغاء اتفاق عام 2016 للحد من تدفقهم. وقد اعترفت أنقرة بالتدخل فعليا في الشأن الداخلي لصوفيا، من خلال تقديم تبرعات ومنح لمكتب المفتي البلغاري وهو السلطة الدينية للمسلمين بالبلاد كما أوضح وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” أن تركيا “اضطرت للتدخل” في العملية التشريعية البلغارية”.
-علاقات استراتيجية مع ألبانيا: استهل “أردوغان” العام الحالي بزيارة هامة لألبانيا في 17 يناير الماضي، ساهمت في تعميق العلاقات بين الدولتين وأكد “أردوغان” أن “التوافق بين أنقرة وتيرانا أمر طبيعي وحقيقي، لأن عدد الألبان الذين يعيشون في تركيا أعلى منه في ألبانيا نفسها”، وتعد تركيا احد أكبر المستثمرين في ألبانيا بالبنية التحتية، ويبلغ حجم التجارة الثنائية مليار دولار، وتم التوقيع على 7 اتفاقيات مع رئيس الوزراء “إيدي راما” وتوجد 400 شركة تركية عاملة بألبانيا، وخلال الزيارة افتتح “أردوغان” مسجدا تاريخيا عثمانيا باسم “أدهم بيك” بعد إعادة ترميمه في العاصمة تيرانا ومستشفى، وقام بتسليم 522 منزل لضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد عام 2019، وجميع تلك المشاريع نفذت بتمويل تركي.
-توافق مع صربيا لضبط الحدود بالبلقان: استقبل “أردوغان” بأنقرة الرئيس الصربي “ألكسندر فوتشيتش” بمنتصف العام الحالي، وتركزت مباحثاتهما على تطوير العلاقات الثنائية لاسيما بعد افتتاح قنصلية تركية بمدينة نوفي بازار في صربيا ويسكنها مسلمو البوشناق في سبتمبر 2021، كما بحثوا معضلة “إعادة ترسيم الحدود” بالبلقان بعد تطورات الأوضاع في البوسنة والهرسك، حيث تتصاعد المطالب بضم 3 محافظات ألبانية بصربيا إلى كوسوفو، وضم 4 محافظات صربية في كوسوفو إلي دولة صربيا، كما تطالب صرب البوسنة بالانفصال عنها والانضمام لصربيا، الأمر الذي يرفضه الاتحاد الأوروبي لأنه سيؤدي لانهيار التوازن الإقليمي في البلقان، وسيكون لأنقرة وبلجراد دور كوسطاء بين الفرقاء المحليين في تلك المنطقة، حيث يعول كثيرا على دور “فوتشيتش” في منع الصرب من تنفيذ تهديداتهم، وكذلك “أردوغان” يمكنه إقناع مسلمي كوسوفو والبوسنة بحل وسط لأنه حليف لهم منذ الاستقلال عام 2008، كما يتمتع بعلاقات متميزة مع روسيا وصربيا التي ترفض الاعتراف بكوسوفو كدولة حتى اليوم.
ومما سبق نجد أن تركيا ستقوم بتعزيز تعاونها مستقبلا مع دول المنطقة وطرح نفسها كوسيط في أزماتها واستقطاب الناخبين الأتراك لتأييد “أردوغان” دوما مستغلة قوتها الناعمة لاستعادة نفوذها، بيد أنها ستواجه رفض إقليمي ودولي لتلك الخطوات حيث أعلنت اليونان رفضها لأي تغييرات جديدة في الحدود الإقليمية بين صربيا وكوسوفو نظرا لأنها مازالت ترسم الحدود مع مقدونيا الشمالية وستعارض أي تحركات تركية بتلك المنطقة، كما تنتقد المعارضة بدول البلقان النفوذ التركي حيث دعت وزيرة الدفاع الألبانية “أولتا جاتشكا” عام 2020 واشنطن لبناء قاعدة جوية وبحرية في ألبانيا “للحد من انتشار النفوذ الروسي والتركي والإيراني” ببلادها، واتهمت ألمانيا “أردوغان” بإحياء التراث العثماني في البوسنة والهرسك، ودعت برلين في سبتمبر 2021 لانضمام دول البلقان إلى الاتحاد الأوروبي لأنه يحقق “المصلحة الجيوستراتيجية المطلقة” للاتحاد في مواجهة نفوذ قوى أخرى بالمنطقة، في إشارة لتركيا والصين التي عززت استثماراتها مؤخرا بالبلقان، وذلك نتيجة للفراغ الاستراتيجي الأوروبي بالبلقان، وبالفعل بدأ الاتحاد الأوروبي مفاوضات انضمام ألبانيا ومقدونيا الشمالية في 19 يوليو 2022.
من جهة آخرى فإن النفوذ التركي بالبلقان سينعكس سلبا على التعاون بين موسكو وأنقرة، حيث ستطالب الأخيرة باتخاذ موقف محدد من التنافس بين واشنطن وموسكو في تلك المنطقة حيث اتهم “لافروف” واشنطن بالتدخل في الشؤون الداخلية لمقدونيا وإرغامها على الانضمام إلى حلف “الناتو”، كما تدعم موسكو صربيا والأقليات الصربية بالبلقان وتقدم لهم كل الدعم اللوجيستي للحصول على حقوقهم وتؤيد إعادة ترسيم الحدود بالبلقان، وتركيا بصفتها عضو “بالناتو” ستنفذ سياساته التي تضعها واشنطن لمواجهة النفوذ الروسي في المنطقة، ولذا ربما تنتقل المواجهة بين موسكو وواشنطن من أوكرانيا للبلقان وآسيا الوسطى مما سيعزز دور تركيا مستقبلا كوسيط هام ومقبول في أزمات المنطقة، كما تقوم حاليا بوساطة في الأزمة الأوكرانية.
من خلال العرض المطول السابق، نجد أن المعضلة التي ستواجه السياسة الخارجية التركية بعد فوز “أردوغان” بالانتخابات الرئاسية المقبلة هي كيفية التوازن بين التواجد العسكري وتمدد النفوذ السياسي في ثلاث أقاليم متوترة (الشرق الأوسط، آسيا الوسطى والقوقاز، البلقان)، فتركيا دولة متوسطة القوة وليست دولة عظمى لتحقق ذلك، وعليها تحديد أولوياتها واحترام خصومها، كما يجب على “أردوغان” تكثيف تركيزه خلال العام المقبل على الوضع الداخلي ببلاده لاسيما الاقتصادي لضمان الفوز بالانتخابات.
د. منى سليمان
باحثة في العلاقات الدولية والشأن التركي