حللت صحيفة “ذي ناشيونال انترست” مستقبل العلاقات الدولية، واتخذت من تركيا والمملكة المتحدة مثالا على “النزعة الأحادية”، في مقال من تأليف ألب سويمليسوي و بيتر وودارد.
وفيما يلي نص المقال:
إن الصراعات العالمية تعد نقطة تحول مهمة في صناعة التاريخ فالتحول من عصر الإمبراطوريات إلى عصر الجمهوريات الحديثة لم يحدث إلا في أعقاب نهاية الحرب العالمية، كما أن تسريع الانقسام بين الشرق / الغرب كان من تداعيات الحرب العالمية الثانية، إلا أن ما يمكن أن نطلق عليه “العصر الثالث” وهو عبارة عن عودة ظهور الصراع الأبدي بين النزعة الأممية والنزعة الإقليمية لم يأت على فوهة البندقية بل ظهر في أعقاب الوباء العالمي.
واليوم أكثر من أي وقت مضى تعد النزعة الأحادية في العلاقات الدولية ضرورية والتحالفات القريبة هي المنهجية التي تتبعها العديد من الدول القومية حيث تقوم تلك الدول بإعادة ترتيب بلدانها في خضم خيبات الأمل المتتالية المتعلقة بحل المشكلات العالمية، من خلال تحالف أممي دولي، وبينما كان الوضع في السابق هو اتباع النهج الأممي حتى ولو كان على حساب النزعة الإقليمية أو العكس. ولكن هذا ليس نهجًا قابلاً للتطبيق للمضي قدمًا حيث لا يمكن لأي دولة أن تكون قوة دولية إذا كانت قوتها في الداخل موضع شك، وهو ما يجعل اثنان من أقوى حلفاء أمريكا في الناتو يعملان على شق طريق أحادي الجانب لأنفسهم، مع الحفاظ على الأهداف المشتركة متعددة الأطراف للولايات المتحدة.
تعد كل من المملكة المتحدة وجمهورية تركيا ، وهما حاليًا من أكثر الدول الأعضاء نشاطًا في حلف الناتو مع قوات متمركزة في قارات ومناطق متعددة ، دليلاً على أن أي دولة يمكن أن تكون لاعباً دولياً بينما تؤدي دورها الإقليمي وإعطاء الأولوية للمنطقة المجاورة له وكذلك التحالفات الموجهة للأعضاء بما في ذلك الناتو.
إن العلاقات الثنائية بين المملكة المتحدة وجمهورية تركيا تعد في أعلى مستوى لها لا سيما منذ حرب القرم، وقد تم استعراض ذلك مؤخرًا خلال الزيارة التي تم إعدادها للرئيس المستقبلي المتوقع لتركيا الجنرال السابق خلوصي أكار وهو مخضرم بارع فيما يتعلق بتحقيق أهداف الناتو والدفاع عن حدود تركيا.
إن الشعور بالمسؤولية الذي يجب أن تجسدها الدول القومية والتي كانت سابقًا إمبراطوريات إقليمية يتم الحفاظ عليه اليوم، حيث يتم توزيع السلع والخدمات البريطانية والتركية في إفريقيا، بالاضافة إلى التعاون في انشاء البنية التحتية في دول منطقة البحر الأبيض المتوسط ، أضف إلى ذلك المساعدات العسكرية المباشرة لتلك الدول، حيث تحتفظ الإمبراطوريتان السابقتان بنفوذهما خارج حدودهما وتحافظ كل منهما على براعتها التاريخية في الخارج وتكون مندمجة بالكامل في المنطقة الخاصة بها وليس داخل الاتحاد الأوروبي الذي تم اختراقه من قبل جمهورية الصين الشعبية لا سيما في قطاع البنيته التحتية الأساسية – مثل ميناء بيريوس في اليونان – كما أن جمهورية الصين الشعبية هي الشريك التجاري الرئيسي للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يؤكد توجه الاتحاد الأوروبي نحو جمهورية الصين الشعبية، ويؤكد على حاجة قوى حلف شمال الأطلسي المستقلة مثل جمهورية تركيا والمملكة المتحدة للحد من التهديدات الدولية والدفاع عن حلف شمال الأطلسي من كل من الاتحاد الروسي و من جمهورية الصين الشعبية، ومن هنا نشهد المراجعة المتكاملة لوزارة الدفاع البريطانية حيث تظهر الخطوات الواضحة اللازمة التي يجب على القوات المسلحة البريطانية اتخاذها لاستكمال تفوقها العسكري وتغلغلها كقوة الدولية في مناطق مثل منطقة البحر الأبيض المتوسط.
إن دول البحر الأبيض المتوسط مرتبطة بتراث تاريخي يجمعها جميعا من العصر الروماني إلى عصر العثمانيين وهو مادعا تلك الدول إلى التوحد تحت راية الثقافة المشتركة وأهداف الدفاع المشتركة والمصالح الاقتصادية التعاونية، وعندما يقضي الوباء على الأممية فبالضرورة يجب أن تحل الإقليمية محلها في التوازن الدولي، إن المثال الرئيسي لهذا التحول هو البحر الأبيض المتوسط ، حيث شاركت الولايات المتحدة بصفتها “صانع الملوك” بالتعاون مع جمهورية تركيا والمملكة المتحدة جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل من خلال اتفاقيات الدفاع المتبادل والتي تمثل(مقدمات على سبيل المثال في الأمن المشترك والاستخبارات العمليات التي تم إجراؤها مؤخرًا في إسطنبول) حيث ركزت دول منطقة البحر المتوسط على المنطقة نفسها وتزامن مع الشراكات المتعلقة بأمن الطاقة وهو ما يدل على أن الساحة الدولية ستشهد الدخول في عصر جديد يمكن أن نطلق عليه عصر البحار المشتركة.
ولكن وبعيدا عن البحر الأبيض المتوسط سنجد أن الشعب الأوكراني يحاول جاهدا الدفاع عن وطنه ، وبالرغم من أن القوة الداخلية للدولة القومية إلى جانب التحالفات الإقليمية هي بحد ذاتها رادع قادر دحض أولئك الذين يسعون إلى اغتصاب السيادة،إلا أن دعوات أوكرانيا للدعم الدولي لم يتم الرد عليها إلى حد كبير، وهو ما أكد عليه البرلمان الأوكراني مرارا وتكرارا ، بالإضافة إلى خيبات الأمل الكبيرة بسبب اللامبالاة الأوروبية تجاه “التفاف” روسيا على عقوبات الروبل عبر (التخزين السري للروبل في الدول الأوروبية) ، وهو ما جعل الشعب الأوكراني يعيد النظر في معنى الدفاع عن نفسه في منطقة يتربص فيها المعتدي يوميًا، وهو ما أتاح لكل من الجمهورية التركية والمملكة المتحدة بعد أن وجدت نفسيهما متوازنة بشكل جيد في هويتهما الإقليمية يقومان بمساعدة أوكرانيا بنشاط إلى جانب الولايات المتحدة، فتقديم الدعم العسكري من خلال نشر طائرات بدون طيار تركية وصواريخ بريمستون البريطانية، وهو ما يظهر الإمكانات الدفاعية والقدرة على استخدامها كقوى إقليمية.
وهو بمثابة نهج وحدات جلاديو جديدة وتتمثل في “البقاء في الخلف” حيث يتم وضع وحدات المقاومة الصديقة في أراضي بلد ما لدرء أي تسلل أو غزو محتمل بالطبع بالاشتراك مع الولايات المتحدة وهو أمر بالغ الأهمية لضمان الاستقرار خلال الحرب الباردة الجديدة. إن إنشاء هذه العمليات بالاتفاق مع سماسرة السلطة المحليين يمكن أن يضمن الحماية اللازمة لحكومات دول الناتو ضد اختراق الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية، حيث تهدف الآليات التي يتم إنشاؤها من خلال التعاون المدني والعسكري أيضا إلى استعادة القيم الأطلسية كما هو مطلوب من خلال آليات مباشرة مثل استخدام هياكل القيادة المحلية المتحالفة مع الناتو وكذلك الأساليب غير المباشرة التي تهدف إلى كبح نفوذ الاتحاد الروسي والصين داخل القطاع الخاص.
وهكذا نجد مقولة مؤسس الجمهورية التركية الحديثة أتاتورك “السلام في الوطن ثم السلام في العالم” مقولة حقيقية ، فالدولة يجب أن تكون واثقة بما يكفي للانخراط دوليًا مع عدم التضحية بهويتها المميزة سواء في منطقتها أو في الداخل وقد أظهرت القوات المسلحة التركية نشاطا عابرا للحدود يمتد من ليبيا إلى أذربيجان ومن شمال إفريقيا إلى الشرق الأوسط ، والأهم من ذلك ،من البلقان إلى البحر الأبيض المتوسط، وهي اليوم تتصدى للاتحاد الروسي ولمصالح جمهورية الصين الشعبية من خلال الانتشار العسكري المباشر وغير المباشر في الخارج مما يجعلها قوة لا غنى عنها داخل حلف الناتو.
وبالمثل فإن المملكة المتحدة تتجه نحو قيادة جديدة داخل البرلمان ، سنجد أيضا أن القدرة العسكرية البريطانية في وضع جيد لمواصلة حماية الطرق البحرية الحيوية وتمكين “النظام القائم على القواعد” من الازدهار، ولذلك أيا من كان رئيس وزراء المملكة المتحدة القادم فسوف يستفيد بالتأكيد من القوة البحرية للمملكة المتحدة سواء كان ذلك أثناء المفاوضات أو أثناء النزاع.
بالطبع لا يمكن لدولة أن تكون لاعباً عالمياً إلا إذا أوفت بمسؤولياتها في الداخل وعلى هذا النحو ، فإن الجمهورية التركية الحديثة والمملكة المتحدة يتبعان اليوم منهج الأحادية الضرورية التي قد تكون الحافز ذاته لتجديد تعددية الأطراف على أساس القدرة على تحقيق الأهداف العالمية دون المساومة على المصالح الوطنية، وذلك بالطبع ضمن تحالفات قريبة ودولية بطبيعتها.