برلين (زمان التركية)ــ قدمت الدكتورة والباحثة في الأمن الأوروآسيوي، شوشانيك ميناسيان تحليلا في صحيفة ذا ناشيونال انترست، للوضع الراهن في البحر الأسود وتوزيع نفوذ القوى فيه ما بين روسيا وتركيا، وكيف تتعامل القوى الغربية مع ذلك الوضع الجديد.
فيما يلي نص المقال التحليلي:
في السنوات الأخيرة، أصبحت أوراسيا مساحة جيوسياسية حاسمة حيث تحدد القوى العالمية مصالحها من خلال السرديات التاريخية والاجتماعية والثقافية، وعلى وجه الخصوص فقد أصبحت منطقة البحر الأسود وبشكل متزايد منطقة تتصارع فيها المصالح السياسية والعسكرية والتجارية والطاقة بين القوى العظمى العالمية والتقليدية، ونظرًا لموقعها الجغرافي الاستراتيجي حيث تسمح منطقة البحر الأسود لبعض القوى بإظهار نفوذهم داخل القارة الأوروبية، وبشكل رئيسي في البلقان وأوروبا الوسطى، بالاضافة إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوب القوقاز وشمال الشرق الأوسط.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي اكتسبت المنطقة أهمية استراتيجية إضافية لأنها تحتوي على طرق نقل لموارد الهيدروكربونات من بحر القزوين وآسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أنه قد حدث تحول ملحوظ في البيئة الجيوسياسية للبحر الأسود بعد عام 2000، حيث تحولت منطقة البحر الأسود إلى مركزا للمواجهة الأيديولوجية بين الغرب والشرق والمنافسة بين روسيا والقوى الغربية، ومنطقة دائمة للصراع على النفوذ، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على أمن واستقرار منطقة البحر الأسود فالتسلح غير المنضبط والإرهاب وتزايد المعلومات المضللة، وغياب سياسات بناء السلام المحلية والإقليمية الشاملة، كلها عوامل تجعل أمن المنطقة ضعيف للغاية.
أما مخططي السياسة الغربيين فمنذ نهاية الحرب الباردة تجدهم تجاهلو منطقة البحر الأسود إلى حد كبير، وهو ما ساعد كلا من روسيا وتركيا على تكثيف وتعزيز قدراتهما السياسية والاقتصادية في منطقة البحر الأسود، كما زاد كلا البلدين من جهودهما لبناء نظام إقليمي جديد أكثر استجابة لمصالحهما الوطنية، ويتسم النظام الإقليمي الجديد بتكامل متوازن بدقة تمكن كلا البلدين من استخدام استراتيجيات دبلوماسية مرنة ومراعية للحساسيات الموجودة بينهما، حيث يعتمد نموذج التكامل الروسي التركي الحالي على الاعتراف المتبادل بمجالات النفوذ والاستعداد لتقديم تنازلات لتحقيق نتائج مفيدة للطرفين، والهدف الأساسي هو صياغة قواعد مشتركة لتحسين إدارة العلاقة الشاملة، وكذلك الديناميكيات والأولويات الإقليمية. تصاحب هذه الاستراتيجية جهود كل دولة لتطوير اقتصاديات وطنية قوية ومتينة، وقد أصبحت كلا الدولتين قوى مؤثرة من خلال التوسع المستمر في وضعهم العسكري والاقتصادي، ومطابقته بحملة إعلامية حازمة وخطاب لا هوادة فيه.
يتمثل أحد العناصر الواضحة بشكل خاص في استراتيجية التعاون الروسية التركية هي منع زيادة النفوذ الغربي في المنطقة، وبتعبير أدق ينظر كلا البلدين إلى نفسيهما على أنهما قوى إقليمية عظمى ويرون أن منطقة البحر الأسود جزء مهم من خطاب سياستهما الخارجية. ومما لا شك فيه أن القوى الغربية من بعد الحرب العالمية ينظرون إلى أنقرة باعتبارها ثقلًا موازنًا لروسيا حيث بدت وكأنها القوة الوحيدة القادرة على مقاومة التحركات الروسية في منطقة البحر الأسود، واعتقد الليبراليون الذين يقودهم الغرب عمومًا أن أنقرة تمثل عنصرا هاما في الملف الأمني للمنطقة وهو ما سيساعد على زيادة الهيمنة الغربية المستقبلية في المنطقة .
إن التحركات الجيوسياسية المتغيرة بعد عام 2007 أدت إلى ظهور ديناميكيات غير متوقعة تمامًا في السياسة الخارجية التركية، فعودة روسيا بشكلها العدواني في عام 2007 وانضمام بلغاريا ورومانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ووصول محادثات انضمام تركيا مع الاتحاد الأوروبي إلى طريق مسدود، ولا شك أن خطط الناتو التوسعية التي تم الإعلان عنها خلال قمة بوخارست في عام 2008 شجعت أنقرة على إعادة تقويم استراتيجياتها في السياسة الخارجية، حيث بدأت تركيا بمساعدة علاقاتها التاريخية وتمتعها بأطول خط ساحلي بين الدول الساحلية في المنطقة، في اتباع سياسة نشطة لخلق سياسة إقليمية واعية لمنطقة البحر الأسود، فلقد لعبت دورًا رائدًا عبر بدء تشكيلات مختلفة.
وبعد الحرب الروسية الجورجية عام 2008، أطلق الرئيس أردوغان معاهدة الاستقرار والتعاون في القوقاز مع روسيا ودول جنوب القوقاز، إلا أن الافتقار إلى المفاهيم الإقليمية وهيمنة روسيا، بالإضافة إلى الأدوات السياسة الخارجية المحدودة لتركيا جعلت من المستحيل حتى الآن إضفاء الطابع الإقليمي على منطقة البحر الأسود، إلا أنه من اللافت للنظر استبعاد الشركاء الغربيين من هذه التشكيلات الإقليمية، وكان ذلك بمثابة رسالة واضحة من أنقرة إلى شركائها الغربيين بأنها تفضل تحديد هيكل الأمن الإقليمي الخاص بها في منطقة البحر الأسود مع روسيا.
وأصبح هذا الاتجاه واضحًا خلال الصراع بين أرمينيا وأذربيجان حول منطقة ناغورنو كاراباخ في عام 2020، ومن أجل تأمين مكان في جنوب القوقاز تفاوضت أنقرة مباشرة مع روسيا حول مبادرات بناء السلام المستقبلية وقوضت دور منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (مينسك) وهي المجموعة التي كانت تعد الشكل الوحيد لحوار بناء السلام في الصراع سابقا.
وعلى الرغم من المصالح المتباينة في سوريا والخلافات الخطيرة الأخرى خطت تركيا وروسيا بحذر في السنوات الأخيرة علاقاتهما حتى لا تلحقان الضرر بتعاونهما في منطقة البحر الأسود. بل أن كلا الدولتين اتفقتا في أيدلوجية السياسية الخارجية المتعلقة بالغرب فمنذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا في عام 2016 أعادت أنقرة تعديل فهمها لثقافة الأمن القومي بشكل كبير، ونجد البلدين يشتركان الآن في الاقتناع بأن المجتمع الليبرالي والعناصر الديمقراطية التي يقودها الغرب تهدد أمنهما القومي. وتُرجم هذا الموقف إلى سياسات داخلية قمعية قوية لها تأثير كبير على خطاب السياسة الخارجية، وتجلى هذا في إعادة إنتاج نهج استراتيجية السياسة الخارجية العدوانية التركية في السنوات الأخيرة، حيث كانت تحركات الرئيس أردوغان تحاول اثبات أن تركيا تعتبر نفسها القوة السياسية والعسكرية البارزة في الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأسود، وكان هذا بمثابة مؤشر مهم وواضح لابتعاد تركيا عن الأيديولوجية الكمالية الموالية للغرب إلى القومية العثمانية الجديدة الأوتوقراطية التوسعية.
وكان سلوك تركيا العدواني في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في عام 2020 وإظهار صناعة الدفاع المتنامية مظهرا أن تركيا تسعى لأن تكون لاعباً مركزياً في المنطقة بدلاً من أن تكون جسراً بين الشرق والغرب.
ولم يكن قرار تركيا الأخير برفض طلبات عضوية السويد وفنلندا في الناتو بالقول إن كلا البلدين يدعمان “الإرهابيين” أي جماعة حزب العمال الكردستاني المسلحة ووحدات حماية الشعب الكردية السورية التي تعتبرها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحزب العمال الكردستاني، سوى علامة على الخلاف الأيديولوجي والسياسي بين أنقرة وشركائها الغربيين. بل يجب وضع اعتراض تركيا في سياق أكبر وبالتحديد في سياق التعاون الروسي التركي، فالاستراتيجية التركية غير الواضح فيما يتعلق بحرب أوكرانيا، فبينما تدعم أنقرة وحدة أراضي أوكرانيا، إلا أنها تواصل إبقاء الباب مفتوحًا لروسيا.
إن المتابع يجد أنه على مدى السنوات القليلة الماضية قلل الغرب من شأن هذه الديناميكيات السياسية المتغيرة في منطقة البحر الأسود، حيث تركز النقاش السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا تجاه المنطقة بشكل أساسي على الروايات العدوانية لروسيا، ومع ذلك فإن استراتيجية الغرب تحتاج إلى إعادة تفكير جذري واستجابة واضحة للتقارب الأيديولوجي بين روسيا وتركيا، كما يتعين عليهم تحديد رؤيتهم تجاه الوضع الجيوسياسي الجديد وتأثير التعاون المتزايد بين موسكو وأنقرة، والخلاصة هي أن الشراكة مع تركيا تحتاج إلى وجهات نظر جديدة وفهمًا جديدًا.