د.منى سليمان
(زمان التركية)ــ عقدت جولة جديدة من “محادثات استانة” لبحث تطورات الملف السوري بدولة كازاخستان بمشاركة وفود روسية تركية إيرانية يوم 17 يونيو 2022، وقد اتفقت الدول الثلاث في البيان الختامي على استمرار التنسيق بينهم لضمان استقرار الوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب، وضرورة الحفاظ على الهدوء على الأرض بسوريا.
تأتي هذه المحادثات بعدما أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في 23 مايو الماضي عزمه شن عملية عسكرية جديدة في أي وقت على مدينتي منبج وتل رفعت الاستراتيجيتين “لمحاربة الإرهابيين الأكراد” وإنشاء منطقة آمنة وترحيل اللاجئين السوريين لها، ومنذ ذلك الحين يؤكد مرارا على شن عملية رغم الرفض الروسي والأمريكي لها، وتلويح دمشق بمقاومة شرسة لأي تدخل عسكري تركي جديد بشمال سوريا، وبعد مرور قرابة شهر على إعلان “أردوغان” لم ينفذ حتى الان أي تحرك عسكري جديد ضد سوريا، مما يؤكد صعوبة اتخاذ القرار التركي في ظل التعقيدات الدولية والإقليمية الراهنة.
أولا: أهداف “أردوغان” من العملية العسكرية المرتقبة:
أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في 23 مايو الماضي عزمه شن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا في أي وقت على مدينتي منبج وتل رفعت الاستراتيجية التي يوجد بها 60% من المياه العذبة بالمنطقة المسيطر عليها قوات “سوريا الديمقراطية” “قسد” (ميليشيات كردية مدعومة أمريكيا تسيطر على مدن شمال سوريا منذ 2012 وأقامت بها منطقة إدارة ذاتية لا تعترف بها الحكومة المركزية بدمشق) لوقف الهجمات الإرهابية المنطلقة تجاه حدود بلاده الجنوبية حيث اتهم “قسد” بشن ألف هجوم ضد تركيا.
1-الأهداف التركية:
تتعدد الأهداف التركية من شن العملية العسكرية ومنها..
-رفع شعبية “أردوغان” في أوساط الكتل التصويتية القومية المعادية للأكراد، إقامة المنطقة الآمنة بطول 30 كم داخل العمق السوري ونقل اللاجئين السوريين إليها للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية بتركيا.
-محاربة حزب العمال الكردستاني(pkk) الذي اكتسب نفوذا وتواجدا استراتيجيا في شمالي العراق بمدينة سنجار وجبال قنديل وسوريا في مناطق الإدارة الذاتية الكردية. وأصبح بالفعل تهديد للأمن القومي التركي لاسيما في ظل تصاعد الهجمات التي يقوم بها عناصره ضد الأهداف التركية في الداخل العراقي حيث يقوم بقصف مستمر للمعسكرات التركية في “زليكان والموصل” بكردستان العراق، فضلا عن نقله للأسلحة من وإلى سوريا في ظل السيولة الأمنية بين الحدود المشتركة والارتباطات الفصائيلية والعشائرية بين طرفي الحزب العراقي والسوري.
-الربط بين المناطق الخاضعة لسيطرة أنقرة وفصائل الجيش السوري الحر المعارض في شمال غرب وشرق سوريا مع بعضهم البعض. حيث إن العملية تستهدف مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب، بهدف ربط منطقة جرابلس بمنبج في ريف حلب الشرقي، ومنطقة عفرين بتل رفعت بريف حلب، كذلك ستربط بين مناطق عملية درع الفرات (جرابلس) بمناطق عملية نبع السلام (تل أبيض ورأس العين) من خلال السيطرة على عين العرب وعين عيسى.
-إحداث تغيير ديمغرافي بالمنطقة عبر إزاحة سكانها الأصليين من الأكراد وتوطين اللاجئين السوريين من العرب فيها، وهذا ربما يؤدي لتحالف بين قسد ودمشق بدعم روسي لمواجهة استمرار الاعتداءات التركية على السيادة السورية. حيث تبني تركيا تجمعات سكنية ضمن مشروع ما وصفته بـ “العودة الطوعية” لمليون لاجئ سوري يقيمون على أراضيها. والتغيير الديمغرافي هو تسكين مواطنين عرب وتركمان مكان الأكراد بالحدود التركية السورية، ونتيجة للعمليات العسكرية التركية التي يتبعها تغيير ديمغرافي بشمال سوريا، تراجع عدد السكان الأكراد في مدينة عفرين على سبيل المثال الى 25% بعدما كانوا يشكلون 96% من نسبة السكان، وأصبح التركمان والعرب يشكلون نسبة 75%. حاليا من عدد سكان المدينة. هذا فضلا عن “التتريك” الذي تشهده هذه المدن حيث يتم تدريس المناهج الدراسية باللغة التركية، ويتم رفع الأعلام التركية على واجهات المحلات، وأصبحت الليرة التركية هي العملية المستخدمة بكافة تلك المدن. وتعد مدينة عفرين لها موضع خاص حيث أنها في نظر أنقرة “ولاية تركية” تابعة لمقاطعة “هاتاي”.
جدير بالذكر، أن منطقة شمال شرقي سوريا الخاضعة عسكرياً وإدارياً لقسد، وتسيطر “قسد” على “إقليم الشهباء” ويضم بلدات تل رفعت وفافين وأحرص وكفر نايا وتبلغ مساحته بحدود 50 كيلومتراً مربعاً. وعلى كامل مدن منبج والعريمة وعين العرب (كوباني) وريفها وهذا الجزء المحاذي للحدود التركية الجنوبية متصل جغرافياً بمدينة حلب شمالاً وريف محافظة الرقة شرقاً ومنها إلى دير الزور والحسكة، كما تسيطر على مركز المحافظة وبلدتي عين عيسى والطبقة وريفهما. وتصنف تركيا الوحدات الكردية المنضوية في “قسد” كتنظيم إرهابي.
2-خطأ المفهوم التركي للمنطقة الآمنة:
بدء إنشاء “المناطق الآمنة” في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، حيث تم وضع اللاجئ على أساس وجود بديل للحماية داخل دولته، وقد حدد القانون الدولي الإنساني معايير عودة طالبي اللجوء إلى “المناطق الآمنة” ومنها ضرورة ضمان حمايتهم وتوفير وسائل الاعاشة اللازمة لهم وعدم ترحيلهم إليها قسرا. وقد استحوذت مسألة إقامة “منطقة آمنة” بالعمق السوري على إهتمام القيادة السياسية التركية، حيث أعلن رئيس الوزراء التركي الأسبق “أحمد داود أوغلو” يوم 15 أكتوبر 2014 إنّ بلاده تطالب بإقامة منطقة آمنة للمدنيين السوريين، وليس منطقة عسكرية عازلة. وتكررت هذه الدعوة كثيرا فيما بعد، ووفق الرؤية التركية للمنطقة الآمنة بشمال سوريا فإنها يجب أن تخضع بالكامل للإشراف التركي، وقد دفعت أنقرة بعدة دوافع لتحقيق ذلك حيث أكدت أن المنطقة الامنة ستعمل على تسكين اللاجئين فيها وإبعاد عناصر حزب العمال الكردستاني والسكان الأكراد من المدن الحدودية التركية السورية.
وفي يناير 2019 اتفقت واشنطن وأنقرة على إقامة منطقة أمنية بشمال سوريا، بيد أنهما أختلفا علي الترتيبات الامنية، حيث أرادت أنقرة أن يمتد عمق المنطقة إلى 32 كم داخل سوريا، بطول 460 كم أي على نصف طول الحدود السورية – التركية البالغة 900 كم، بينما “ترامب” يرغب أن تبلغ المنطقة 20 كم فقط. كما تتمسك أنقرة برفض أي وجود لقوات الجيش السوري في تلك المنطقة. حتى لا تتعاون مع القوات الكردية ضد أنقرة. وتريد أنقرة إجراءات وترتيبات تبعد هذه المناطق عن سلطة الدولة السورية المركزية بحيث تخضع للنفوذ التركي بغية نشر قوات “الجيش السوري الحر” فيها بعد ذلك، وأنقرة بهذا تريد فصل منطقة شمال سوريا التي تمثل ربع مساحة سوريا فعليا عن الدولة السورية، ووضع قوات أمنية ومجالس محلية خاضغة لأنقرة لتضفي شرعية على احتلالها لتلك المنطقة الذي نفذته عبر عملية “درع الفرات العسكرية في أغسطس 2016، وعملية “غصن الزيتون” في يناير 2018.
وقد أعلنت وزارة الدفاع التركية أن مروحيات تركية وأمريكية حلقت يوم 5 سبتمبر 2019، فوق أجواء شمال سوريا في إطار التحضيرات المشتركة لإقامة المنطقة الآمنة المتفق عليها بين الجانبين. وتعد تلك الطلعة الجوية المشتركة الثالثة في أجواء شمال سوريا، في إطار المرحلة الأولى من إنشاء المنطقة الآمنة، وجاءت الطلعة الجوية المشتركة في إطار نشاط “مركز العمليات التركي – الأمريكي” المعني بتنسيق إنشاء وإدارة المنطقة الآمنة. بيد أن “أردوغان” اتهم واشنطن بعد ذلك بأنها تسعى لتحقيق مصالحها عبر تأسيس المنطقة الآمنة لنشر قوات كردية فيها، وهدد بتنفيذ خطط خاصة ببلاده لضمان الأمن القومي التركي، حيث ألمح من قبل الى شن عملية عسكرية تركية شرق الفرات حيث تتمركز القوات الكردية وآبار النفط السورية وهو ما رفضته واشنطن وحذرته من تداعيات الاشتباكات التركية الكردية، حيث أن الإدارة الامريكية تعمل للحفاظ على مصالح حليفيها التركي والكردي.
ويسعى “أردوغان” للسيطرة على تلك المساحة الكبيرة من شمال شرق سوريا بغية إنشاء مدن وقرى ومساكن في “المنطقة الآمنة” وقد أعلن عن تفاصيل هذه المنطقة خلال كلمته أمام الدورة الـ 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2019، حيث أعلن عزمه إنشاء 200 ألف مبنى، من أجل توطين أكثر من مليون سوري، كمرحلة أولى، من اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا. ويشمل المخطط الكامل “للمنطقة الامنة ” كما أعلنها “أردوغان” .. إنشاء 140 قرية تتسع كل واحدة منها لـ5000 شخص، إضافة إلى إنشاء 10 بلدات (أو مدن صغيرة) تتسع كل واحدة منها لـ30 ألف شخص، وتكون منتشرة على طول المنطقة المحاذية للحدود التركية السورية في الشمال السوري، من نهر الفرات وحتى الحدود العراقية، بعرض 30 كيلومتراً في عمق الأراضي السورية، وبطول 480 كيلومتراً. وكل قرية ستضم 1000 منزل مؤلف من 4 غرف بمساحة 100 متر مربع، وسيضم كل منزل حظيرته الخاصة. كما ستضم القرية مسجدين، ومدرستين بسعة 16 قاعة دراسية، ومركزاً شبابياً وصالة رياضية مغلقة.
ووفق الرؤية التركية لتعريف “المنطقة الآمنة” فإنها تتعارض مع القانون الدولي وتعد “اعتداء مباشر على أراضي دولة أخرى” كما أنها “غير منطقية حيث تتضمن احتلال أراضي دولة أخرى ثم إتخاذ إجراءات تغيير ديمغرافي واسع النظاق عبر ترحيل السكان الأصليين لشمال سوريا من الأكراد وتوطين اللاجئين السوريين من العرب بدلا منهم.
ثانيا: محددات الرفض الروسي الأمريكي:
هناك العديد من المعطيات الإقليمية والدولية التي تعرقل وتصعب شن عملية عسكرية تركية جديدة ستكون الخامسة في العمق السوري، ولعل أولى تلك العوامل هي تأكيد الرئيس السوري “بشار الأسد” في 9 يونيو 2022 أن بلاده ستقاوم أي غزو تركي لأراضيها، وستكون هناك مقاومة شعبية لهذا الغزو، كما قامت وزارة الخارجية السورية بإرسال رسالة للأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن وصفت فيها تصرفات تركيا بأنها غير شرعية.هذا فضلا عن موقف قائد قوات “قسد” “مظلوم عبدي” الذي أكد أن العملية التركية الجديدة ستضعف القتال ضد “داعش” الذي شن مؤخرا عدد من الهجمات في العراق وسوريا ويسعى لاستعادة خلاياه النائمة، ودعا واشنطن لمساعدة “قسد” في محاربة “داعش” وحذر من فرار عناصر التنظيم المعتقلين بمخيم “الهول” بسوريا الذي تديره “قسد” مما سيؤدي لتسلل عدد منهم للدول العربية والأوروبية وتنفيذ هجمات إرهابية جديدة. كما اعترضت روسيا على تلك العملية نظرا لوجود قوات من الشرطة الروسية في منبج، ومنذ أعلنت أنقرة عن العملية الجديدة عززت موسكو تواجدها في المنطقة بأربع منظومات للدفاع الجوي من طراز “بانتسير” ومنظومتي إطلاق الصواريخ من طراز “اسكندر”. بينما دعت “قسد” قوات الجيش السوري للتنسيق معها لمواجهة التدخلات التركية الجديدة. كما اعترضت واشنطن على تلك العملية المرتقبة أيضا وأكدت أنها نظرا لأن تركيا حليف أمريكي وعضو بالناتو، و”قسد” حليف أمريكي لمحاربة الإرهاب وتنظيم “داعش”.
1-الموقف الروسي:
أكد يوم 16 يونيو الحالي المبعوث الخاص للرئيس الروسي لسوريا “ألكسندر لافرنتييف” إن روسيا ترى في عملية عسكرية تركية محتملة في سوريا “خطوة غير حكيمة ستؤدي إلى مزيد من التوترات”، ونفى وجود أي خطط روسية لمواجهة القوات التركية عسكريا. ورغم أن التعاون الروسي التركي متميز في شتى المجالات فقد قامت روسيا ببناء أربعة مفاعلات نووية في مقاطعة مرسين منذ عام 2018، وتم افتتاح خط السيل الجنوبي لنقل الغاز الروسي لتركيا عام 2020، إلا أن الخلافات بينهم تتسع، حيث شهد شمال سوريا تحركات عسكرية روسية تركية مستمرة تهدف لإعادة تموضع القوات المنتشرة هناك، فقامت موسكو بمناورات دوريات مستمرة لتؤكد استمرار حضورها بالمشهد السوري رغم انشغالها بالحرب الأوكرانية، مما يوسع نطاق المساومات بين موسكو وأنقرة في أوكرانيا وسوريا وعدد من الملفات الخلافية بينهم. كما يلي:
-انتقاد روسي للدعم العسكري التركي لكييف: حصلت كييف على طائرات تركية مسيّرة من طراز “بيرقدار تي بي 2” شاركت في تدمير السفينة الحربية الروسية “موسكفا” في البحر الأسود. كما اعترضت موسكو على إغلاق أنقرة مضيقي الدردنيل والبوسفور في مارس 2022 أمام السفن الروسية العابرة بالبحر الأسود وفق اتفاق مونترو عُقد 1936 ومنح تركيا السيطرة على المضيقين. فضلا عن تصاعد التنافس بالبحر الأسود، حيث سيطرت موسكو على الساحل الأوكراني ببحر آزوف. وتسعى للسيطرة على أوديسا بالبحر الأسود لتسيطر على كامل البحر الأسود وتصبح القوة البحرية الأكثر فاعلية فيه، مما سيضعف الموقف التركي ويهدد استمرار العمل باتفاقية “مونترو” التي ضمنت حفظ التوازنات الجيوسياسية بين الدول المطلة على البحر الأسود. وقد اتضح ذلك خلال اجتماع وزراء دفاع البحر الأسود الذي عقد في 9 أبريل الماضي بتركيا ولم تشارك فيه روسيا أكبر دولة، بينما تم دعوة بولندا التي ليس لها ساحل على البحر الأسود، بناء على طلب أمريكي لأنقرة وشارك فيه أعضاء الناتو بلغاريا وبولندا ورومانيا والمرشحين للعضوية جورجيا وأوكرانيا.
– الخلافات بالملف السوري: أعلنت أنقرة في 23 أبريل 2022، إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المدنية والعسكرية المتجهة إلى سوريا، وذلك لمدّة ثلاثة أشهر.مما يؤدي لتعقيدات في الخدمات اللوجستية للقوات الروسية العاملة بسوريا والتي تعتمد على المجال الجوي التركي بنسبة 50%. ولذا فقد أعلن “لافروف” أن بلاده تتفهم المخاوف الأمنية لتركيا من التنظيمات الكردية وتنسق معها، وأكد أنه لا يمكن ضمان الأمن على الحدود السورية – التركية إلا بنشر القوات التابعة للحكومة السورية وهذا ما ترفضه أنقرة لأنها ترغب في السيطرة على المنطقة الحدودية التركية السورية بشكل تام، وهو ما سيصعب تنفيذه في ظل التحركات العسكرية الروسية حيث أن موسكو قامت بتعزيز تمركز قواتها بالقرب من مدن (تل رفعت ومنبج والضواحي الجنوبية لعين العرب وعين عيسى)، وهي تبعد 40 كم من الحدود التركية. كما لوحت موسكو بإمكانية دعم “قسد” والجيش السوري لمواجهة الهجوم التركي المحتمل، حيث عقدَ قائد القوات الروسية العاملة في سوريا الجنرال “أليكسندر تشايكو” اجتماعاً مع قائد قوات “قسد “مظلوم عبدي” لبحث التنسيق بينهم مباشرة وللإعداد للقاءات بين “عبدي” والجيش السوري.
جدير بالذكر، أن العمليات العسكرية التركية الأربع السابقة في سوريا (“درع الفرات” 2016 و”غصن الزيتون” 2018 و”نبع السلام” 2019. و”درع الربيع” مارس 2020) لم تشهد مواجهات عسكرية مباشرة بين القوات التركية وفصائل المعارضة السورية من جهة وبين قوات الجيش السوري و”قسد” من جهة آخرى، لأن الطرف الأخير كان ينسحب بناء على تفاهمات بين موسكو وأنقرة. وهذا ما تضغط به موسكو على أنقرة حيث يمكنها دعم “قسد” والجيش السوري لمواجهة الجيش التركي وهنا سيتكبد الأخير خسائر جمة، للسيطرة على أي مدينة جديدة- بالإضافة إلى إمكانية إشعال موسكو للوضع في مدينة إدلب المجمد وفق اتفاقات “خفض التصعيد” المبرمة بين تركيا وروسيا منذ عام 2018. وهذا لن يكون في صالح أنقرة.
-استمرار الخلاف بملفات إقليمية: تتداخل المصالح التركية والروسية في عدد من الأقاليم الاستراتيجية، ومنها الملف الليبي الذي يشهد استمرار للانقسام بين حكومتين شرقا وغربا وتؤكد موسكو حكومة الشرق وتدعو لتوليها زمام الأمور بينما لم تتخذ أنقرة موقفا محددا حيث تسعى كلا منهم للحفاظ على مصالحها الاقتصادية بليبيا وتواجدها العسكري المباشر والغير مباشر من خلال دعم “المرتزقة الأجانب” ونقلهم من وإلى ليبيا. هذا يبنما توسع النفوذ التركي بمنطقة البلقان حيث تدعم أنقرة استقلال كوسوفو الذي ترفضه موسكو وتعدها جزء من حليفتها صربيا، فضلا عن تصاعد التنافس بين أنقرة وموسكو في منطقة آسيا الوسطى بعد تعزيز أنقرة تواجدها العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي بالمنطقة، فقد قامت دول طاجيكستان وكازاخستان وتركمانستان وقيرغيزستان بشراء طائرات تركية مسيرة وتم توقيع اتفاقيات للتعاون العسكري بينهم، وتصف موسكو هذه المنطقة بأنها “الحديقة الخلفية” لها، فضلا عن سعى أنقرة لتطبيع العلاقات مع أرمينيا الحليف الاستراتيجي لموسكو. كافة هذه الخلافات تضيف المزيد من التوتر المستتر للعلاقات التركية الروسية وتنعكس على التفاهمات بملفات مثل أوكرانيا وسوريا.
ولذا فإن كافة هذه الملفات والخلافات سيكون لها موضع في الحسابات بشأن الرفض الروسي للعملية العسكرية التركية المرتقبة في سوريا.
2-الرفض الأمريكي:
الموقف الأمريكي من تلك العملية المرتقبة كان أكثر وضوحا وتشددا عن سابقاتها، فقد أكدت وزارة الدفاع الأمريكي أن أي عملية عسكرية تركية جديدة في شمالي سوريا ستؤدي إلى تداعيات خطيرة بالمنطقة وفي العلاقات بين واشنطن وأنقرة، ودعا وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين” تركيا إلى الالتزام بخطوط وقف إطلاق النار المحددة مع بلاده عام 2019، بدوره أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية “نيد برايس” “نشعر بقلق عميق إزاء التقارير والمناقشات عن احتمال زيادة النشاط العسكري في شمال سوريا، ولا سيما تأثيره على السكان المدنيين هناك، ندرك مخاوف تركيا الأمنية المشروعة على حدودها الجنوبية، لكن أي هجوم جديد من شأنه أن يقوض الاستقرار في المنطقة ويعرض القوات الأمريكية وحملة التحالف على تنظيم داعش الإرهابي للخطر”.
وفي ظل هذا الرفض الأمريكي المباشر للتدخل التركي، نفذت واشنطن في منتصف يونيو الحالي عملية أمريكية بمنطقة خاضعة لسيطرة تركيا شمال سوريا للمرة الأولى حيث شن “التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب” عملية نوعية لاعتقال قيادي “بداعش”، وهناك تفسيران لتلك العملية الأول أنها نفذت بالتنسيق بين واشنطن وأنقرة التي تسيطر على تلك المنطقة وهو ما يؤكد استمرار التنسيق الميداني العسكري بينهم رغم الخلافات السياسية، والثاني هو أن العملية نفذت دون معرفة أنقرة لتوضح واشنطن قوتها وقدرتها على عرقلة جهود تركية في أي وقت، بيد أن هذا الاحتمال مستبعد.
وجدير بالذكر، أن واشنطن تحتفظ بقاعدة عسكرية بسوريا هي “قاعدة التنف” وفرقة صغيرة قوامها 900 جندي في شمال شرق البلاد، بغية القضاء على خلايا تنظيم “داعش” المتبقية، وقد شكّل تعاون واشنطن مع “قسد” إحدى أكثر المسائل الشائكة التي تواجه العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن فضلا عن الخلافات حول شراء تركيا لصواريخ (اس 400) الروسية ورفضها توسيع حلف “الناتو” بضم فنلندا والسويد، كما بدأ “أردوغان” انتقاد التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، حيث دعا في نهاية سبتمبر 2021 الولايات المتحدة الأمريكية لسحب قواتها من سوريا والعراق بنفس طريقة سحب القوات من أفغانستان، وبالطبع يريد هو أن يملأ الفراغ الأمني الذي سينجم عن ذلك حال حدوثه.
ثالثا: سيناريوهات محتملة:
“لا ننتظر إذن أحد للقيام بعملية عسكرية شمال سوريا” كان هذا هو رد “أردوغان” على الرفض السوري والروسي والأمريكي حول عزمه شن عملية جديدة بسوريا، بيد أنه بعد مرور شهر تقريبا على إعلانه لم يتخذ حتى الآن أي تحرك عسكري بشمال سوريا، في ظل توارد أنباء تفيد بأن فصائل “الجيش السوري الحر” المعارض الموالي لتركيا وذراعها العسكري في شمال سوريا قد أكملت استعدادها لشن عملية عسكرية جديدة، وهناك أنباء آخرى تفيد بأن “أردوغان” قد تراجع بالفعل عن شن تلك العملية لأنه لن يتمكن من مواجهة واشنطن وموسكو. وفي ظل المعطيات السابقة فإن تركيا أمام عدة سيناريوهات للتحرك في سوريا، هي ..
– السيناريو الأول: شن العملية العسكرية في تل رفعت ومنبج في ظل الرفض الروسي الأمريكي والمواجهة مع روسيا لأن قواتها تنشتر هناك وتقوم بدوريات مستمرة وهو أمر مستبعد تماما، وحال تم فأن موسكو ستضغط على أنقرة لوقف دعمها لكييف.
– السيناريو الثاني: استمرار القصف الجوي التركي على مواقع “قسد” في منبج وتل رفعت، دون تدخل بري. وهذا القصف قد بدأ بالفعل منذ مطلع يونيو الحالي حيث قامت القوات الجوية التركية بقصف مكثف على قرية “الهوشرية” شمال شرقي منبج كما قصفت “بالهاون” قريتي “عون الدادات والمحسنلي”. ويعد هذا حل وسط يحقق لأنقرة هدفها في القضاء المعسكرات الكردية دون إغضاب موسكو وواشنطن.
– السيناريو الثالث: التوصل لاتفاق مع روسيا يقضي بشن العملية العسكرية بسوريا، مقابل تقديم أنقرة تنازلات في الملف الأوكراني لعل أبرزها سيكون استمرار الرفض التركي لإنضمام السويد وفنلندا، واستمرار رفض تطبيق العقوبات الاقتصادية على روسيا.
-السيناريو الرابع: موافقة موسكو على شن عملية عسكرية محدودة في منبج وتل رفعت بالتنسيق معها، مما سيؤدي للاضرار بالعلاقات بين واشنطن وأنقرة.
خلاصة القول، أن التدخلات العسكرية التركية في شمال سوريا لن تتوقف وستستمر نظرا لاستمرار المبررات لذلك وحال قررت أنقرة شن عملية عسكرية جديدة بسوريا فالراجح أن توقيتها سيكون بعد قمة حلف الناتو بنهاية الشهر الحالي حتى يتمكن “أردوغان” من مساومة واشنطن على ضم فنلندا والسويد للحلف مقابل موافقتها على العملية العسكرية الجديدة، الأمر الذي يقد التوصل لأي تفاهم بين قوات “قسد” ودمشق كما يوجد خريطة متشابكة بين عدة جهات محلية وإقليمية ودولية في شمال شرق وغرب سوريا، فهناك قوات كردية وسورية وأمريكية وتركية وروسية في تلك المنطقة التي تبلغ مساحتها 40 كم، كما أن التدخلات العسكرية التركية بسوريا تشجع دول آخرى على ذلك ومنها إسرائيل التي قصفت مؤخرا مطار دمشق لتدمير شحنات أسلحة إيرانية تمر خلاله، والأردن الذي لوحت بأنها تخوض “حرب مخدرات” بالمثلث الحدودي مع سوريا والعراق عبر عصابات مدعومة من ميليشيات إيرانية لبنانية سورية، مما يؤكد استمرار الوضع الراهن من التدخلات العسكرية والجمود السياسي بالملف السوري.