حوار مع المخرج العالمي زكي ديميركُبوز
حاوره راسيه يلماز
يُعتبر زكي ديميركبوز، عضوًا رائدًا ضمن الجيل الجديد من المخرجين المشهود لهم دوليًّا في تركيا، وقد انتقد بشدَّةٍ حكومة حزب العدالة والتنمية خلال احتجاجات جيزي بارك. في حواره مع جريدة “تودايس زمان” حول الأحداث الأخيرة، قال إن الحكومة أرادت أن تتهم حركة “الخدمة” في الفترة التي تلت تحقيقات 17 ديسمبر لصرف انتباه الرأي العامّ عن أخطائها وتناقضاتها. وبالنسبة إليه، لا يمكن للحكومة أن تُقِرّ على نفسها تهمة الفساد، لذلك فبركت حُجَّة “المؤامرة ضدّ الحكومة”.
وذكر زكي ديميركبوز، المعروف بانتقاداته الشديدة لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، أن الحكومة بدأت تتعسف في استعمال السلطة بشكل متزايد، وهي بأفعالها هذه تستنسخ الطريقة التي استعملها أعضاء المجلس العسكري عندما كانوا يتدخلون في السلطة، إذ تأمل في تحقيق نفس الأشياء من خلال الاعتماد على أغلبيتها. وقال ديميركبوز إن احتجاجات جيزي بارك وتحقيقات 17 ديسمبر حول الفساد سيذكرها التاريخ على الأقلّ لمدّة قرن من الزمان، مضيفًا أن القادة الذين يعتقدون أن لديهم صلاحيات كبرى لا تتذكرهم الأجيال.
وبالنسبة إليه فقد جاءت احتجاجات جيزي بارك ردَّ فعل على أسلوب أردوغان السياسي الفظّ، واستعلائه على الشعب، ومواقفه التي تعكس فكرة “أستطيع أن أفعل كل ما أريد”. وانتقد ديميركبوز وصفَ الحكومةِ متظاهري جيزي بارك بالإرهابيين، عندما قارن بين شرعية احتجاجات مصر وأوكرانيا، ولا شرعية احتجاجات تركيا.
وقال ديميركبوز إن إذلال رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان خلال انقلاب 28 فبراير 1997 العسكري هو ما جلب حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ووَفقًا له فإن إحساس الشعب بالعدالة حال بينهم وبين ما وقع لأربكان، خصوصًا عندما ضغط الجيش عليه لكي يستقيل. إلا أنه نبَّه إلى أن “الخطر الراديكالي” الذي اعتُبر أكبر تهديد من الجنود في عهد انقلاب 28 فبراير لا يزال هو التهديد الأكبر في عهد الحكومة الحالية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] فقد جاءت احتجاجات جيزي بارك ردَّ فعل على أسلوب أردوغان السياسي الفظّ، واستعلائه على الشعب، ومواقفه التي تعكس فكرة “أستطيع أن أفعل كل ما أريد”. وانتقد ديميركبوز وصفَ الحكومةِ متظاهري جيزي بارك بالإرهابيين، عندما قارن بين شرعية احتجاجات مصر وأوكرانيا، ولا شرعية احتجاجات تركيا [/box][/one_third]
ويعتبر ديميركبوز الاستقطابَ الذي وقع خلال احتجاجات جيزي بارك محاولة متعمَّدة مِن الحكومة لترسيخ قاعدة حزب العدالة والتنمية، لأن بِنْيَته المجتمعية “سطحية وفوقية”، ولا تحترم حتى الرؤية الوطنية لحركة “الميلي غوروش” (الرأي الوطني). وبالنسبة إليه فقاعدة حركة “الخدمة” الشعبية أوسع وأكبر من قاعدة حزب العدالة والتنمية من حيث الشعور بالانتماء.
ويعتقد ديميركبوز أن كل “الأشياء الجيدة” التي فعلتها الحكومة قبل استفتاء عام 2010 أُنجِزَت فقط من أجل ترسيخ مكانتها، لا من أجل إقامة مبدأي سيادة القانون والعدالة، ويتضح ذلك في حقيقة أن النواب العامِّين الذين وصفتهم الحكومة أمس بالأبطال، أصبحوا اليوم في نظر نفس الحكومة خونة. ودعا ديميركبوز المجتمع إلى ممارسة تمرين النقد الذاتي في مسألة تفضيل السلطة على الحريات.
أشرتَ على “تويتر” إلى مفهوم “Kolpa varoluşlar cenneti” (جنة المخلوقات الزائفة)، فأين تقع بالضبط هذه الجنة؟
هنا في تركيا. في الواقع هي في كل مكان يدَّعي فيه أناس وجود أشياء غير موجودة. في هذا المكان تصبح إمكانية الحصول على “أشياء ثمينة” سهلة للغاية. أنت طبعًا بلا مجهود تحتمي وراء رمز بسيط، تقول مثلا “أنا تركي”، “أنا كردي”، “أنا مسلم”، أو “أنا يميني”، “أنا يساري”، إلخ، وبهذا تتبنى خطابًا جديدًا لك. لكن، في الواقع، الحقيقة غير ذلك، لأنك إذا أردت ادِّعاء امتلاك “أشياء ثمينة” تفتخر بها، فعليك العمل على تحقيق ذلك من خلال المجهود الدؤوب والعمل الشاقّ، وعَرَق الجبين. أما إذا أردنا أن نحصر الكلام في الرموز والهُوِيَّات، فإننا لن نخسر شيئًا يُذكَر. فهذه هُوِيَّات وجودية نُخلَق بها عن طريق الصُّدْفة، ولا تأثير لنا عليها، أي إننا من البداية لا نختارها، فهُوِيَّتك تقول فقط للآخرين مَن أنت، لا من أي نوع من الناس أنت. للأسف، هذه الشخصيات الوجودية الزائفة موجودة في تركيا، أي هذا الاحتماء وراء رموز تُصنع بشكل دقيق، لأننا ننسى أن الشخصيات التي ننظر إليها، سواء كانت سياسية أو رياضية أو فنية، ما هي إلا بشر.
تقال اليوم أشياء سوف تُنسَى غدًا، ليس لأنها غير مهمة أو لأن الناس لن يعتمدوا عليها، بل لأنها براجماتية وتستجيب للحظتها. وأكثر منها، أشياء وأحداث سيتذكرها الناس، لكن للأسف بامتعاض كبير، لأنها تركت خدوشًا في تاريخهم.
هل نفهم من قولك هذا أن الأشخاص الذين يعبِّرون عن أنفسهم من خلال السلطة واستخدام الرموز والهُوِيَّات، لا عن طريق الأخلاق والمبادئ الإنسانية، لن يتذكرهم الناس؟
في هذا المجال يقرِّر الناس ما سيكونونه في ما بعد، فإذا رجعنا إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فسنسأل أنفسنا عن أولئك الذين كانوا يعتقدون أن الدولة لن تسير وأن الشعب لن يعيش مِن دونهم. أين هم الآن؟ لا أحد يتذكر مَن كان هؤلاء. واليوم نفس الشيء يقع بشكل مختلف مع أناس آخرين. وعلى العكس، فالناس سوف يتذكرون أحداث جيزي بارك، وتحقيقات 17 ديسمبر حول الفساد، فهذا أصبح الآن جزءًا من تاريخ تركيا. كما أنها ستتذكر علي إسماعيل الذي قضى نحبه في الاحتجاجات متأثرًا بجروحه، أو سِتَّة الأشخاص الذين ماتوا خلال المظاهرات. الأساس هنا هو أن أولئك الذين لا يندمون ولا يتراجعون عما فعلوا يكون مصيرهم دائمًا النسيان، لذلك نرى أن أولئك الذين يعتمدون في حضورهم السياسي على شخصيات وجودية زائفة يختفون حالَمَا تختفي سلطتهم.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] تقال اليوم أشياء سوف تُنسَى غدًا، ليس لأنها غير مهمة أو لأن الناس لن يعتمدوا عليها، بل لأنها براجماتية وتستجيب للحظتها. وأكثر منها، أشياء وأحداث سيتذكرها الناس، لكن للأسف بامتعاض كبير، لأنها تركت خدوشًا في تاريخهم. [/box][/one_third]
لكن حكومة حزب العدالة والتنمية تدَّعي أن حركة “جيزي” مِن صُنع نظرية المؤامرة التي تدبِّرها قوى خارجية، وأن الحركة تحرِّكها أهداف تخريبية. هل توافقون على هذا الرأي؟
لا شيء في الحياة واضح، إلا أننا نصبح مسؤولين عن أفعالنا منذ اللحظة التي نُولَد فيها. وقد نفهم بعض الأشياء من زاوية هذه المسؤولية. من هذا المنطلَق، فلا حركة “جيزي” ولا أي شيء آخر في الحياة قد يُفهَم بوضوح تامّ، لكن الأفعال تستهدف دائمًا شيئًا ما، وعلى أساسه تُنجَز. لكن على الرغم من هذا فإنني أظن أن حركة “جيزي” واحدة من الحركات الفاعلة وغير المُغرِضة التي عرفها تاريخ هذا البلد. الحكومة طبعًا لن تعترف بأخطائها، ولن تدَّعِي ذلك.
الحقائق في تركيا تكون دائمًا نسبيَّة ومرتبطة بمنطق السلطة، فكل شيء يُناقَش ويُوزَن تحت ضوء السلطة. لهذا السبب أرى أنه من الضروري أن تُدرَس الحقائق وتُحسَب خارج أجندة السلطة وضيق الزمن الذي يعتمد على المدى القصير والبراجماتي، وأن تُوَضَّح في إطارٍ أوسعَ ممتدٍّ على أساس النفع العامّ. هنا يجب أن لا ننسى أن دينيز جيزميش، الطالب اليساري الراديكالي الذي اتُّهم بمحاولة تغيير الدستور بالقوة سنة 1972، وصفته الحكومة بالإرهابي، وأُعدِمَ على أثر ذلك.
تبقى الراديكالية أكبر تهديد..
هل عدم وضوح الرؤية الذي تتحدثون عنه، والذي سببه في الغالب فقدان موازين الحقائق، سببه في الأساس أن الشعب لا يجتهد أم أن القادة يمارسون التعتيم؟
أظن أن الاثنين معًا لهما نصيب في ذلك، مع أنني أحمِّل القادة المسؤولية بشكل أكبر. فعندما كان الإسلاميون يتعرضون للقمع خلال مسار 28 فبراير، كانت الراديكالية هي أكبر خطر يهدِّد المجتمع، والآن نجد العكس، أي أن أولئك الإسلاميين الذين كانوا يُعتبرون راديكاليين في 28 فبراير، وأصبحوا اليوم في الحكم، يمارسون نفس الشيء. وتبقى الراديكالية أكبر خطر يهدِّد المجتمع. إن الآيديولوجيات، والأفكار، والسياسة يكمل بعضُها بعضًا، وأولئك الذين ننظر إليهم كمعارضين يقفون في الحقيقة على نفس الأرضية ويعتمدون نفس الأدوات مع اختلاف بسيط، فمرة هناك السلطة العسكرية، ومرة هناك الرئيس عصمت إينونو، وأخرى نجد سليمان ديميرل، والآن أردوغان ومن سيأتي بعده. وتجب الإشارة هنا إلى أن ممارسة السياسة لا تتمّ من منطلَق أخلاقي أو إنساني محض، بل تعتمد أكثر على الظرفي والمصلحي.
ألا تظنّ أن شرح كل ما وقع من منطق فقدان الحِسّ الأخلاقي فضفاضٌ نوعًا ما؟
فلنجعله إذًا أكثر دقة. لقد مر نحو 90 عامًا، منها الصالح ومنها الطالح، منذ تأسيس الجمهورية إلى حدود هذه الحكومة المنتخبة. كانت خلالها قوتان تتجاذبان، فمن جهة كانت القوة العسكرية بأدواتها وسلطتها، ومن جهة كان هناك الإسلاميون بقوتهم المجتمعية. وقد كانت كلتا القوتان تحافظ على توازن الدولة. أخذ هذا الأمر في التردُّد عبر السنين، فتجد انقلابًا عسكريًّا يعيد أمور الجمهورية إلى توجُّه معيَّن، وتجد الإسلاميين يحاولون ترصيص المجتمع من ناحية أخرى، إلى أن وصلنا إلى سنة 2000، إذ انتُخبت الحكومة الجديدة على أثر ما وقع لنجم الدين أربكان، الذي أيقظ الشعور بالعدالة في أنفس الناس. طبعًا ما نعيشه اليوم من تبعات منطق التوازن هو هذه التعديلات الدستورية التي جاءت بعد الاستفتاء وإخراج العسكر من الدائرة السياسية، بحيث لم يعُد للحكومة منافسون في السياسة. ثم إننا يجب أن لا ننسى أن الفترة الجديدة في تركيا بدأت مع أردوغان وحكومته.
هنا يجب أن نقف قليلاً لكي نوضح، فإما أن لحزب العدالة والتنمية رؤيةً واضحة عن التاريخ ومعرفة تامَّة بما يفعل، بحيث يعزز المكتسَبات الديمقراطية ويأتي بعقد اجتماعي جديد يكرِّس مبدأ الحقوق والحريات، وإما أنه سيتقمص دور الضحية، الذي يميل إلى تقليد مُعذِّبه في منهج إدارته الأمور، ومن ثَم يستعمل نفس الأدوات والآليات التي استعملها معذِّبه، كالسلطة والمال، على الرغم من أن هؤلاء تَسبَّبوا لهم في عذاب كبير. هذه أشياء غير واضحة الآن وتنمُّ عن تبذبذُب رؤية الحزب الحاكم. من ثم تَحوَّلت رؤية هذه الحكومة عن اتجاه الوعود التي قطعتها في ما يتعلق بالعضوية مع الاتحاد الأوروبي أو الدستور الجديد، إلى اتجاه خلق ظاهرة جديدة تمامًا، قد نصطلح عليها “السلطة المدنية”.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] لأن الحكومة لو لم تضع كل أخطائها وتناقضاتها على كتفَي حركة “الخدمة”، فستُضطرَّ إلى مواجهة كل ذلك وحدها، وإن لم تدَّع أن تحقيقات 17 ديسمبر هي من عمليات الدولة الموازية ضدّ الحكومة، فكيف كان عليها أن تبرِّر ذلك؟ [/box][/one_third]
إنشاء قاعدة ناخبي حزب العدالة والتنمية
قلتم إن حزب العدالة والتنمية أُنشئ جرَّاء الجور والاستبداد الذي عاناه أربكان.. ماذا تقصدون بذلك؟
إن انسحاب أردوغان وغول من حزب نجم الدين أربكان يحمل في طبيعته تشابُهًا كبيرًا لخيانة الحكومة اليوم لحركة كولن. قد نفهم ونحلِّل أبعاد هذه الحالات بشكل أحسن إذا نظرنا إليها بمنظار مسرحيات وتيمات شكسبير لا بمنظار السياسة. إنهم الآن ينتقدون بقسوةٍ أولئك الذين استقالوا من حزب العدالة والتنمية، وينسون أنهم كذلك استقالوا من حزب الفضيلة. لقد تَشكَّل حزب العدالة والتنمية بمنطق التوافق. في الأول كان هناك أردوغان وفريقه، ولم تكُن لهم قاعدة من الناخبين. فحقيقة وصول حركة “جيزي” إلى هذا الحد، وتوتُّر المجتمع وتقاطُبه، هو في الواقع نتاج محاولات حزب العدالة والتنمية في توسيع رقعة ناخبيه.
في تركيا هناك اليمينيون واليساريون وحركة كولن، وكل هؤلاء تكتُّلات كبيرة لا تنتقل بسهولة طبقًا للظروف الموضوعية. في الحقيقة، وعلى مستوى الشعور بالانتماء، نجد أن حركة “الخدمة” قاعدتها الشعبية أوسع وأكبر من حزب العدالة والتنمية. لأن بنية الحزب فوقية، غير ثابتة، جديدة، تفتقر إلى نقطة ارتكاز، وهي كذلك غير مبنية على تقليد معيَّن. إنهم حادوا حتى عن مفهوم الرؤية الوطنية.
دعنا نكُن مُنصِفين قليلاً، فإلى حدود استفتاء 2010 حقَّق حزب العدالة والتنمية مُنجَزات ديمقراطية.
في اعتقادي أننا يجب أن لا نركّز على ما أُنجِزَ في الماضي، لأن المهمّ هو ما سيُنجَز في المستقبل. لا يبدأ تاريخ الإنسان عند ولادته، بل يبدأ عند أول تجربة مريرة يمرُّ بها، أو خطأ كبير يرتكبه، أو شرف عظيم يحقِّقه. وإلى حدود استفتاء 2010، حقَّق حزب العدالة والتنمية إنجازات جيدة، إلا أن أسباب هذه الإنجازات اتضح أنها كانت إجبارية، بمعنى أنها مخطَّط لها. فكما أزاح الحزب العسكر، يحاول الآن أن يزيح حركة “الخدمة”. وحتى حماسة الحديث عن الالتحاق بالاتحاد الأوروبي خفَّت في الفترات الأخيرة. كل هذا يبيِّن أن هذه الإنجازات التي تبدو في الظاهر ديمقراطية لم تتحقق بنِيَّة إحقاق سيادة القانون وترسيخ مبدأ العدالة، بل جاءت نتيجة لمخطَّط مُبيَّت يهدف إلى تركيز سلطة الحزب على المدى البعيد والحفاظ على مكانته. إن حزب العدالة والتنمية عقلانيٌّ إلى حدٍّ كبير، وسيستخدم شتَّى الوسائل، وإن كانت شريرة، لتحقيق أهدافه. فالنُّواب العامُّون الذين كانوا بالأمس القريب أبطالاً أصبحوا اليوم خونة، وحضور رئيس الوزراء إلى أوليمبياد اللغة التركية، الذي تزامن مع أحداث “جيزي بارك”، تنظِّمه مؤسَّسة ينعتها الآن بـ”الدولة الموازية”، كما أثني كثيرًا على فتح الله كولن، الذي يصفه الآن بـ”النبي الزائف”… كل هذا يدلُّ على تضارُب واضح في الأراء والمواقف.
التعتيم على الأسئلة الحقيقية
تبعًا لهذا المنطق غير الصحيح الذي تتحدثون عنه، لماذا في رأيكم أعلنت الحكومة حربًا على حركة كولن مباشرةً بعد أحداث “جيزي”؟
لأن الحكومة لو لم تضع كل أخطائها وتناقضاتها على كتفَي حركة “الخدمة”، فستُضطرَّ إلى مواجهة كل ذلك وحدها، وإن لم تدَّع أن تحقيقات 17 ديسمبر هي من عمليات الدولة الموازية ضدّ الحكومة، فكيف كان عليها أن تبرِّر ذلك؟ الأصل طبعًا هو أن تقف وقفة صادقة وتقول: “هل وقعت في فخّ الفساد؟ لنطلقْ تحقيقًا في هذا الشأن، ولندَعِ العدالة تأخذ مجراها”. وبحكم أنها كانت غير قادرة على فعل ذلك فقد ألقت اللوم على حركة “الخدمة”، والهدف كان التعتيم على الأسئلة الحقيقية.
السياسة وحدها لا تكفي
مافهمته من كلامك حول كيفية توسُّع شعبية حزب العدالة والتنمية في مقابل فكرة الإحساس بالانتماء عند أفراد جماعة كولن هو أن طريقة الحزب في تدبير الشأن المجتمعي غير ناجعة.
عندما أتحدث عن هذا فأنا أربط دائمًا التدبير السياسي بمفهوم الديمقراطية، وما رأيناه هو أن حزب العدالة والتنمية تنقصه الخبرة المعرفية بالحياة، أو على الأقلّ لا يُحسِن الذهاب أبعد من السياسة. فاعتباره للديمقراطية انتهى بعدما تَخلَّص من السلطة العسكرية. وفي هذا الفراغ الذي تركه غياب السلطة العسكرية لم تُولَد ديمقراطية مدنية، بل أنشأ الحزب سلطوية مدنية. هذا ما نواجهه الآن.
هل تقصد بهذا أن ميكانيزمات الحزب الحاكم لا تُستعمل في محلها؟
ما أقصده هنا هو توجُّه الحزب الحاكم نحو فكرة الحكم الاستبدادي، واستعماله الميكانيزمات والأدوات المُتاحة من أجل تحقيق هدف الحزب الواحد. هذا أخطر ما قد تقع فيه تركيا، ونحن نعلم من التاريخ ما تستطيع فعله القيادات الاستبدادية والدول السلطوية.
هل تتفاءلون بمستقبل سياسي إيجابي في تركيا؟
أعلم أنه في النهاية سوف ترجع الأمور إلى نصابها، لكننا قبل ذلك سوف نعاني قليلاً، وهذا يعني أن المجتمع قد يُترَك وحيدًا لمواجهة تاريخ مزعج لا أحد يريد أن يتحمله. إننا نشهد إعادة سيناريو البارحة، فما وقع لليساريين وللأكراد ولليمينيين، يقع اليوم لأفراد حركة “الخدمة”، وهذا مأساوي. القضية هنا أنه بقدر ما تتعامل الطبقة المثقفة مع هذا الموضوع بحذر وحكمة، نجد العوامَّ متيقنين من أن ما يصدر عن الإعلام الرسمي هو الحقيقة.