بقلم: ياوز أجار
بروكسل (زمان التركية) – يبدو أن الأحزاب السياسية المعارضة في تركيا قررت هي الأخرى أن تستغل قضية “اللاجئين السوريين”، بعدما استغلهم زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم الرئيس رجب طيب أردوغان لخلق نفوذ في السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء طيلة عقد من الزمن.
أدى الخلاف المتزايد حول سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية تجاه اللاجئين إلى اندلاع نزاع غير مسبوق بين وزير الداخلية سليمان صويلو الذي يحاول الحفاظ على مكانته داخل الحزب الحاكم من خلال استخدام خطابات قومية-إسلاموية وزعيم حزب “ظفر” اليميني المتطرف، الذي أسسه حديثًا أوميت أوزداغ، الذي يسعى إلى الانخراط بفعالية في السياسة الداخلية عبر تركيز خطابه على مشكلة اللاجئين وأخطاء الحكومة في هذا المضمار على وجه الخصوص.
وزير الداخلية وصف أوزداغ خلال مقابلة تلفزيونية يوم الخميس على قناة (تي جي آر تي) التركية، بأنه “أقل من حيوان.. عميل للاستخبارات الأجنبية”، وذلك بسبب انتقاده الشديد لسياسة اللاجئين التي تتبعها الحكومة.
اتهم الوزير الزعيم المعارض بالمبالغة في التهديد الذي يشكله ملايين اللاجئين، معظمهم من السوريين، تجاه اقتصاد تركيا ونسيجها الاجتماعي، زاعمًا أنه من رجال الملياردير الأمريكي جورج سوروس، الذي كثيرا ما يحمله النظام التركي مسؤولية الأزمات التي يواجهها.
بعد مهاجمة الوزير الشرسة له بألفاظ غليظة، دعاه أوزداغ إلى مواجهته أمام مقر وزارة الداخلية في أنقرة يوم الجمعة الماضي، لكنه قوبل بتدخل الشرطة أثناء محاولته إصدار بيان صحفي أمام الوزارة، مما دفعه للقول: “عندما تنتهي وظيفتك الرسمية -يا صويلو- سيتم اعتقالك.. أنت أعظم مجرم في جمهورية تركيا”، في إشارة منه إلى اتهامات تجارة المخدرات الموجهة للوزير.
بعد انشقاقه عن الحركة القومية أولا، ثم عن حزب الخير وتأسيسه حزبه الشخصي، انضم أوزداغ إلى قادة المعارضة الذين تعهدوا بإعادة حوالي 3.7 مليون مهاجر سوري من تركيا إلى بلادهم، وسط موجة “كراهية الأجانب” المتصاعدة في المجتمع بسبب دورهم المزعوم في ارتفاع معدل البطالة والاقتصاد المتدهور في البلاد.
ومن ثم أعلن أوزداغ عبر تغريدة على تويتر أنه من كلف وموّل الفليم القصير بعنوان “الاحتلال الصامت” الذي أحدث ضجة كبيرة مؤخرًا، ووصل عدد مشاهدته في موقع يوتيوب إلى نحو 4 ملايين خلا وقت قصير. الفيلم يلفت الانتباه إلى مشكلة اللاجئين في تركيا، ويزعم أن اللاجئين السوريين سوف يسيطرون على تركيا كاملا في المستقبل القريب.
ومن المفارقة أن أميت أوزداغ المناهض للاجئين ينتمي إلى عائلة داغستانية في منطقة القوقاز هاجرت من بلادها إلى تركيا فارا من القمع الروسي. فضلا عن أنه ليس من مواليد تركيا بل ولد في العاصمة اليابانية طوكيو في عام 1961 حيث كان والده موظفًا هناك.
رد فعل أردوغان
بعد أن شبه دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، حليف الحزب الحاكم، الهجرة غير المنضبطة بـ”الاحتلال”، بدأ الرئيس أردوغان يتحدث للمرة الأولى عما أسماه “العودة الطوعية” للمهاجرين السوريين من تركيا إلى بلادهم.
أعلن أردوغان في 3 مايو أن حكومته أطلقت الاستعدادات من أجل إعادة حوالي 1 مليون لاجئ سوري إلى بلادهم بناء على رغبتهم، رغم أنه كان يرفض في مارس الماضي مطالبات المعارضة بعودة السوريين، واصفًا إياهم بـ”المهاجرين” وتركيا المستضيفة لهم بـ”الأنصار”، في محاولة لدغدغة مشاعر أنصاره من خلال هذين المصطلحين الإسلاميين الذين يحملان دلالة خاصة بالنسبة لهم.
كما أن الكاتب والصحفي عبد القادر سيلفي قال في مقال له أن أردوغان يرغب في لقاء نظيره السوري بشار الأسد لتسوية الخلاف بينهم، على غرار ما فعله مع كل من إسرائيل والإمارات والسعودية، ما قد يعني أن إعادة اللاجئين قد يصب في هذا الاتجاه. لكن وبحسب سيلفي، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يسمح باستئناف المحادثات المباشرة بين الطرفين، لأنه لا يريد أن يتصل الأسد بأي دولة، وخاصة تركيا، إلا عن طريق روسيا.
ربما يهدف أردوغان من خلال هذه التصريحات إلى التصدي لموجات الغضب الموجهة إليه باعتباره أكبر مسؤول عن سياسة الهجرة المتبعة منذ ٢٠١٢ من جانب؛ ومن جانب آخر يسعى إلى إحداث تغيير ديمغرافي كل من جرابلس وإدلب وعفرين والراعي من خلال توطين سوريين موالين له في تلك المناطق.
لكن أردوغان عاد مرة أخرى وقال في 9 مايو: “سنستمر في استضافة السوريين ولن نلقي بهم في أحضان القتلة. أبواب بلادنا مفتوحة لهم وبإمكانهم العودة إلى بلادهم حيثما أرادوا”. مع أن هذه التصريحات المترددة بل المتناقضة تدل على أنه لم يحدد بعد خطابا واضحا في هذا الصدد، بل يسعى إلى توظيف الأجندة التي فرضتها عليه المعارضة، إلا أنه لا يخفى على أحد أنه يستهدف منع توجه قاعدته الانتخابية المحافظة المتعاطفة مع اللاجئين إلى عناوين أخرى.
أزمة طبيعية أم مصنّعة
هناك تساؤلات عما إذا كان تفاقم أزمة اللاجئين أمرًا طبيعيًّا يعبر عن مشاكل حقيقية تواجهها تركيا وشعبها، أم هناك أطراف سياسية تسعى من وراء إثارتها تحقيق أغراض معينة بالتزامن مع اقترب موعد الانتخابات في عام 2023.
هذه التساؤلات منطقية إذا عرفنا مراحل تطور الصراع السياسي في تاريخ تركيا الحديث، خاصة خلال العقدين الأخيرين اللذين حكم فيهما حزب أردوغان بمفرده ودون انقطاع. فقد استخدمت شبكة أرجنكون السرية، التي كانت تعتبر في يوم من الأيام “الدولة العميقة” في تركيا، كل الوسائل لهدم حكومة أردوغان في عقدها الأول، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً بفضل “قلعة الصين” التي شكلها الديمقراطيون المتمركزون حول حزب العدالة والتنمية في ذلك الوقت.
ولما أدركت استحالة نجاح مهمتها وسط التحالف بين أردوغان والديمقراطيين، اتجهت شبكة أرجنكون إلى الإيقاع بين الطرفين، فتمكنت بشكل أو بآخر من إخراج الديمقراطيين من المعادلة، لتصبح هي حليف أردوغان الجديد اعتبارًا من العقد الثاني لحكمه (2012).
شبكة أرجنكون فتحت كل أبواب الدولة لأردوغان لتمكينه من هزيمة حلفائه الديمقراطيين القدامى، باعتبارهم “الأعداء الحقيقيين لوجودها وبقائها”، معتقدة أنها سوف تسترد الدولة منه بكل سهولة في وقت لاحق. لكن الشبكة بدأت تلاحظ أنها أخطأت في حساباتها؛ حيث إن أردوغان استطاع فعلا التخلص من حلفائه القدامى، بمن فيهم حركة الخدمة، بفضل تحالفه الجديد مع هذه الشبكة، لكنه رفض تسليم الدولة لها بعد السيطرة عليها، ومن هنا بدأ صراع جديد بين أركان هذا التحالف القائم على المصالح المتبادلة.
لقد أثبت أردوغان خلال أكثر من عقدين من الخبرة في السلطة أنه ليس لاعبًا سهلاً، وبفضل تعامله الطويل مع هذه الشبكة التي وصفتها أعلى المحاكم في تركيا بـ”منظمة إرهابية مسلحة”، فقد تعلم الأساليب السياسية في خارج القنوات المعتمدة رسميا للبقاء في السلطة أو استعادتها بعد خسارتها. وخير مثال على ذلك أنه استطاع إعادة الحكومة المنفردة في عام 2015 بعد خسارتها، بفضل توظيف الإرهاب، كما رصده تقرير مؤسسة (The EUMS INT)؛ وحدة الاستخبارات العسكرية التابعة للاتحاد الأوروبي، الذي كشفت عنه النسخة التركية لموقع “أحوال تركية” في عام 2021. والمثال الثاني أنه نجح في نقل تركيا إلى النظام الرئاسي بفضل “الانقلاب المدبر” و”الحروب” التي استطاع أن يشنها في سوريا والمنطقة بأكملها بعد إعادة تصميم الجيش وفقًا لرغبته.
لذلك، يعتقد العديد من المحللين السياسيين أن أردوغان نفسه هو من يطرح موضوع عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وأنه سيعمل على توسيع نطاقها لتفجير أحداث مجتمعية ضد السوريين، من أجل استخدامها في إعلان حالة طوارئ جديدة، وإجراء انتخابات 2023 في ظلها، وضمان ولاية ثانية في الرئاسة، على غرار ما فعله عام 2015، وذلك بعد تضاؤل فرص فوزه بوسائل ديمقراطية بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة للغاية.
وحتى إن افترضنا أنه ليس له أي دخل في هذه الأزمة، وأنها نابعة من أسباب موضوعية، فإن أردوغان سوف يستغل هذا المشهد لإسقاط أزمة تركيا الحقيقية والرئيسية “الاقتصاد” و”تدهور القانون”، من أجندة الشعب من جهة؛ وإقناع قاعدته الانتخابية بأنه من يملك مفتاح حل أزمة اللاجئين أيضًا من جهة أخرى.
لكن هناك احتمال آخر وهو أن خصوم أردوغان من شبكة أرجنكون هم من يضخمون أزمة اللاجئين لتوظيف موجة الغضب المتصاعدة في الشارع في تضييق الخناق عليه قبيل الانتخابات الحاسمة باعتباره مسؤولا عن سياسة اللاجئين المتبعة.
هل سيعيد التاريخ نفسه؟
قد يكون هذا الاحتمال أقرب إلى الواقع إذا نظرنا إلى الأساليب التي استخدمتها تلك الشبكة السرية لتحقيق أهدافها السياسية خلال تاريخها الطويل، بما في ذلك الدور الذي لعبته في أحداث “مذبحة إسطنبول” أو أعمال الشغب العنصرية الاستفزازية الشهيرة التي شهدتها إسطنبول في 6-7 سبتمبر 1955 وأدت إلى تسريع هجرة اليونانيين من تركيا، خاصة من إسطنبول.
بعد هذه الأحداث العنصرية، انخفض عدد السكان اليونانيين في تركيا من 119.822 شخصًا في عام 1927 إلى حوالي 7000 في عام 1978؛ بينما انخفض عدد السكان اليونانيين في إسطنبول فقط من 65108 إلى 49081 شخصًا بين عامي 1955 و1960. وتكشف البيانات التي نشرتها وزارة الخارجية التركية في عام 2008 أن عدد المواطنين الأتراك من أصل يوناني في ذلك الوقت كان يتراوح بين 3000 و4.000.
وقد أدلى الفريق الأول متقاعد “صبري يِرْمي بَشْ أوغلو”، المتهم بالانتماء إلى شبكة أرجنكون، باعترافات رهيبة فيما يتعلق بأساليب الحرب النفسية التي اتبعها تنظيم أرجنكون، وذلك في لقاء أجري معه عام 1991، حيث أكد الجنرال قائلاً: “أحداث بوغروم إسطنبول كانت من تدبير وحدة العمليات الخاصة.. إنها كانت أعمالاً منظّمة رائعة مدروسة جيدًا، وحققت أهدافها المرجوة منها فعلاً. أسألكم: ألم يكن هذا عملاً منظمًا رائعًا؟!”.
بالنظر إلى صلاته بـ”الذئاب الرمادية” القومية المرتبطة بحزب الحركة القومية في الماضي وبشبكة أرجنكون الأوراسية حاليًا، فمن المرجح أن أوميت أوزداغ يتحرك في إطار خطة أرجنكون العامة الرامية لاستعادة الدولة من أردوغان.
عامل آخر قد يدعم هذا الرأي هو أن أردوغان بدأ في اتخاذ مواقف قريبة من الناتو والاتحاد الأوروبي بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 أبريل، الأمر الذي يتعارض مع موقف أرجنكون الموالي لروسيا.
لا شك أن أردوغان يواجه اليوم انتقادات حادة من المعارضة المدنية والسياسية لتخليه عن سياسة “صفر مشاكل مع الجيران” التي اتبعها في العقد الأول من حكمه، وتدميره علاقات تركيا مع الغرب وكل الدول في المنطقة تقريباً، ثم توجهه في الآونة الأخيرة لإصلاح هذه العلاقات، ولكن مع تقديم تنازلات مختلفة.
مهما كانت الانتقادات، فإن موقف أردوغان المحايد الحالي في الحرب الروسية الأوكرانية يساعده على الاقتراب من واشنطن وبروكسل، لكنه في الوقت نفسه يضعه بشكل مثير للسخرية أمام نيران روسيا في الخارج، وشبكة أرجنكون الموالية لها في الداخل، بعدما طور مواقف ملائمة لكليهما في السنوات السبع الماضية.
كل هذه التطورات تضع تركيا مرة أخرى على صفيح ساخن قبل الانتخابات المقبلة، والتي تعطيها جميع الأوساط السياسية أهمية خاصة لتزامنها مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية تركيا، لا سيما في ظل وجود لاعبين عقدوا العزم على استحخدام كل الوسائل للفوز والبقاء في السلطة.