برلين (زمان التركية)ـ تواجه أوروبا اليوم امتحانا صعبا في مجال الطاقة، وظهر هذا جليا خلال الأسابيع القليلة الماضية، فمع بداية الدخول العسكري الروسي إلى أوكرانيا، ورغم أن روسيا صرحت بوضوح بأنها لن تتوقف عن تزويد الأسواق بالطاقة، إلا أن أسعار الغاز ومن ورائها أسعار الكهرباء قد زادت بصورة جنونية في أوروبا، التي تستورد 90 في المائة من احتياجات الغاز الطبيعي من روسيا.
ولدى القادة الأوروبيين قلق متزايد من تسليم مليار متر مكعب من الغاز الروسي والذي تحتاجه الدول الأوروبية بصورة سنوية، الأمر الذي يجعل موضوع الغاز على صدارة اهتمامات السياسة الوطنية داخل الاتحاد الأوروبي.
وقد أصدرت مفوضية الاتحاد الأوروبي دعوة للتخلص من واردات الوقود الأحفوري الروسي قبل عام 2030، فاستبدال الغاز الروسي خلال ثماني سنوات أمر يتطلب خطة هائلة من التمويل بجوار التعاون السياسي مع الموردين خارج الاتحاد الأوروبي، من أجل تقديم دعم مستقر وثابت للمستهلكين داخل الأتحاد الأوروبي.
وقد يمثل إمداد أوروبا بغاز بديل مشكلة على مستوى قصير الأمد فلا يكاد يوجد غاز يتدفق إلى أوربا عبر شمال أفريقيا أو النرويج، أما حقل ساكاريا التركي في البحر الأسود وكذلك حقل نبتون، فقد يمثلان بديلا جيد فقط إن تم إعطائهما الضوء الأخضر ولكن لن تتم الاستفادة منهما قبل عام 2024 وقد تستغرق التوسعات من الموردين الحالين خمس سنوات أو أكثر، أما غاز شرق المتوسط أمامه طريق طويل لتزويد أوروبا بالغاز.
ولذلك فيعد بحر القزوين خيارا جيدا الآن، فمنتجو بحر القزوين في وضع يسمح لهم بتوريد ما مقداره 10 مليار متر مكعب إضافية من الغاز الطبيعي إلى أوروبا خلال أشهر ، وهذا الحجم لا يمكن أن تضاهيه أي مصادر أخرى من غاز خطوط الأنابيب، وهناك حاليا ثلاث طرق يمكن من خلالها أن يسهم غاز بحر القزوين في توازن الغاز داخل أوروبا على المستوى القصير، وجميع تلك الطرق الثلاث تستند إلى أمر في غاية الأهمية وهو أنه مادام غاز بحر القزوين يصل إلى تركيا فيمكن حينها إطلاق الغاز الطبيعي المسال المتجه إلى تركيا للبيع التنافسي في بقية أوروبا، لا سيما مع وجود فائض يسمح بإعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز، فقد استوردت تركيا في عام 2020 15 مليار من الغاز الطبيعي المسال، وفي عام 2021 استوردت 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال وهو ما يمثل 24 في المائة من إجمالي الغاز الطبيعي الذي تحتاجه تركيا سنويا، وهكذا فإن استبدال بعض خطوط أنابيب الغاز الطبيعي من بحر القزوين بالإضافة إلى تحرير الغاز المسال وإيصاله لأسواق الإتحاد الأوروبي وتقديم عطاءات عليه سيوفر للأتحاد الأوروبي إمدادا فوريا.
إن الحصول على ما مقداره 5 مليارات من الغاز الذي تنتجه بتروناس في قطاع تركمانستان من بحر القزوين، أو زيادة الكميات عبر ترتيب مقايضة ثلاثية تركمنستان- إيران- أذربيجان من 2- 3 مليار متر مكعب، أو ترتيب مقايضة جديدة بين تركمانستان وإيران وتركيا للإستفادة من الطاقة الفائضة في خط الأنابيب الحال البالغ 48 بوصة والذي يتم نقل الغاز عبر من إيران إلى تركيا، كل هذه الخيارات متاحة أمام الإتحاد الأوروبي، فـ تركمنستان لديها فائض إنتاجي من الطاقة ، أو ربط تغذية الإنتاج عبر خطوط أنابيب بتروناس من خلال إنشاء خط قصير بطول 78 كيلو متر للربط مع منشآت تجميع الغاز الحالية في اذربيجان وتزويد أوروبا بما مقداره عشرة مليار متر مكعب من الغاز، ومثل هذا الخط إذا تمت الموافقة عليه فمن الممكن ان يكون جاهز للتشغيل خلال 4-6 أسابيع وتتراوح تكلفة مثل هذا المشروع بمبلغ يقدر بـ 300-500 مليون دولار أمريكي.
لا يجب أن ننسى أن خط الغاز الإيراني التركي قادر على نقل المزيد من الغاز فقد صدرت إلى تركيا قرابة عشرة مليار متر مكعب من الغاز ويعتقد أن هذا الخط قادر على نقل المزيد، وهكذا فتنشيط صادرات تركمنستان إلى شمال شرق إيران سيوفر إمدادات الغاز اللازمة لأوروبا.
من جهة أخرى فإن مقايضة الغاز السارية بين تركمانستان وإيران وأذربيجان تعمل بشكل جيد منذ بداية عام 2022 وتشير التقارير أن هناك توجه للتوسع ولو أنه من الصعب تقدير كمية الغاز التي من الممكن وصولها إلى أذربيجان فخط الأنابيب هذا تم بناءه منذ خمسين عاما لتصدير الغاز إلى الاتحاد السوفيتي، ولاحقا تم إعادة توجيه الخط لحمل 2 مليار متر مكعب، وعلى كل حال، فالمتوقع أن القدرة التحميلية للخط أقل بكثير من 10 مليار متر مكعب المتوقعة، ولكن المناقشات الدائرة بين إيران وأذربيجان تعطي أمل في أنه قد تزيد القدرة الخط لما يقارب 10 مليار متر مكعب.
كما أنه في غضون عام قد تكون تركمنستان قادرة على تصدير مايقارب 10 مليار متر مكعب إلى أذربيجان سواء من خلال خط ربط جديد عبر بحر القزوين أو عبر إيران، والسؤال هنا هو كيف سيتم نقل الغاز غربا إلى تركيا؟ فلا يزال من غير الواضح إذا ما كان خط أنابيب القوقاز الحالي قادرا على تحمل هذه الكميات الإضافية، ولكن ما يشجع الاتحاد الأوروبي هو تم نقل عبر هذا الخط قرابة 17.7 مليار متر مكعب من الغاز عام 2021 بين أذربيجان وجورجيا وتركيا.
ويتبقى الجزء الأخير وهي مرحلة نقل الغاز من تركيا إلى إيطاليا عبر خط أنابيب يمر عبر البحر الأدرياتيكي، وسعته الحالية 10 مليار متر مكعب، وحاليا هذا أقصى ما يمكن نقله إلى أوروبا عبر تركيا.
ولهذا السبب فإن التعاون السياسي التركي يعد عنصرا هاما وحاسما لإستيراد غاز بحر القزوين وتزويد أوروبا به، فمن الهام عدم وجود عوائق تجارية بالإضافة إلى أن المشترون داخل الإتحاد الأوروبي يحتاجون إلى تقديم أسعار تنافسية ، ولا يمكن تناسي كون أن القضايا التقنية والتجارية ستحتاج إلى المزيد من التوضيح، إلا أنه مع ندرة خطوط الأنابيب على المدى القصير فيعد غاز بحر القزوين جذابا.
أخيرا وليس أخرا فإن المتابع يجد أنه ورغم أرتفاع أسعار الغاز عالميا فقد زاد طلب تركيا من الغاز عام 2021 حيث ارتفع بمقدار 20% عن عام 2020 ليصل إلى 58 مليار متر مكعب ، فقط أدى انخفاض هطول الأمطار إلى خفض الطاقة المائية بصورة كبيرة وهو ما دعا تركيا لزيادة استيراد الغاز لتعويض نقص الطاقة المائية، ومع تحسن هطول الأمطار هذا العام فيبدو أن طلب تركيا على الغاز سيتراجع مما سيوفر بعض الغاز للتصدير.
وبشكل عام فإن إمدادات الغاز الجاهزة ونقص الفرص الأخرى الممكنة تجعل من غاز بحر القزوين خيارا جذابا وقابلا للتطبيق إلا أنه سيتطلب مزيد من التعاون بين الإتحاد الأوروبي وتركيا خاصة في مجال الطاقة وبناء تلك العلاقة أمر ممكن وضروري في الوقت ذاته.