*د.منى سليمان
القاهرة (زمان التركية)ــ يحل في منتصف فبراير الحالي الذكرى السابعة عشر لاغتيال رئيس الوزراء الأسبق زعيم الطائفة السنية في لبنان الشهيد “رفيق الحريري”، ولعل هذا العام يحمل في طياته العديد من الأحداث والتساؤلات والتحديات التي لا تقل في تداعياتها عن حادث الإغتيال من حيث الحجم والتأثير لأنها سترسم مستقبل الطائفة السنية و”الحريرية السياسي”، ومستقبل الدولة ككل والتوازنات بين الطوائف اللبنانية الذي يحكمه “إتفاق الطائف” الموقع قبل ثلاثة عقود و تتعالى الدعوات بضرورة تغييره. ولعل أبرز هذه الأحداث هو إعلان نجله رئيس الوزراء الأسبق “سعد الحريري” العزوف عن الترشح للإنتخابات البرلمانية المقبلة وتعليق عمله السياسي، ورغم كونه قرار متوقع إلا أنه أحدث صدمة داخل وخارج لبنان، لأنه سيؤدي لفراغ في زعامة الطائفة السنية التي أعلن شقيه الأكبر “بهاء الحريري” السعي لشغله عبر إعلانه العودة لموطنه والعمل السياسي الذي تركه منذ 17 عام. كما تزامن مع إنهيار اقتصادي لبناني غير مسبوق، وعزلة عربية وخليجية لبيروت مرهونة بتغيير مواقف “حزب الله” اللبناني وسيطرته على القرار السياسي في البلاد. الأمر الذي طالب معه البعض بضرورة تأجيل الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في مايو 2022، بينما حذر آخرون من مخاطر تلك الخطوة. فيما اتهم طرف ثالث “سعد الحريري” بالمسؤولية الكاملة عن الوضع الحالي ببلاده. فهل هذا صحيح؟ وهل تعليق عمله السياسي سيستمر أم سيعلن عودته مرة أخرى، وما تأثير قراره على لبنان في ظل الأوضاع الحالية؟ سنحاول الإجابة على تلك التساؤلات فيما يلي..
أولا: قراءة بالمشهد السياسي اللبناني:
1-دوافع تعليق “الحريري” عمله السياسي:
عاد رئيس الوزراء اللبناني الأسبق زعيم تيار المستقبل السني “سعد الحريري” (51 عاما) في منتصف يناير 2022 لبيروت بعد سفره للإمارات منذ عدة أشهر حيث يقيم بعد تأسيس شركة أعمال جديدة بأسمه. وقد أطل في 24 يناير الماضي بمؤتمر صحفي مختصر من “بيت الوسط” مقره السياسي والانتخابي وحيث يقيم في بيروت أعلن فيه عن تعليق عمله السياسي وعدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وسرد فيه مشواره السياسي منذ 2005 بعد اغتيال والده والضغوط التي تعرض لها وحجم التنازلات الجمة التي قدمها حتى اليوم. تلك التنازلات التي كلفته خسارة ثروته الشخصية تتجاوز مليار دولار، كما خسر عددا كبيرا من أصدقائه عبر الاغتيال أو الخلافات السياسية. وقد بدا عليه مدى الحزن والألم والغصة لاتخاذ ذلك القرار ثم غادر بيروت للإمارات. وقد كان قرار “الحريري” متوقع وله عدد من الدوافع قد ذكرها بنفسه وهناك ما لم يذكره ومنها:
-إيقاف سلسلة التنازلات المستمرة: حدد “الحريري” في خطابه المختصر أهدافه من دخوله العمل السياسي عام 2005 بالحفاظ على مشروع والده الشهيد “رفيق الحريري” والتي لخصها في أمرين منع الحرب الأهلية بلبنان، والحفاظ على الوضع الاقتصادي بالبلاد وأكد أنه نجح في الأولى وفشل في الثانية. وهذا حقيقي فقد قدم “الحريري” تنازلا تلو الآخر على مدى 17 عام ولم يبق شيئا لم يتنازل عنه سوى حياته الشخصية. فقد رأس تيار المستقبل ممثل الطائفة السنية الأكبر بالبلاد ذو العلاقات المتميزة في الداخل والخارج والتي نسجها الوالد “رفيق” واستفاد منها “سعد”، وقد فاز “الحريري” في الانتخابات البرلمانية عام 2005 و2009 وشكل الحكومة في 2010 ثم استقال بشكل مفاجئ في 2011 بعد استقالة أعضاء “حزب الله” اللبناني من الحكومة خلال زيارته للبيت الأبيض بواشنطن مما مثل له إحراجا سياسيا كبيرا. ما دفعه لترك لبنان لثلاث سنوات كاملة. ثم عاد عام 2014 بعدما دخلت البلاد في حالة فراغ دستوري وسياسي هو الأكبر في التاريخ حيث فشلت كافة القوى السياسية في انتخاب رئيس جديد للبلاد لعامين ونصف. وفي نوفمبر 2016 طرحت “التسوية السياسية” التي رشحت خصمه السابق حليف “حزب الله” العماد “ميشال عون” لرئاسة الجمهورية مقابل عودة “سعد الحريري” لرئاسة الحكومة وقد أقرت تلك التسوية بالبرلمان ونالت حكومته ثقة 110 نائب.
وخلال الانتخابات النيابية 2018، لم ينجح “سعد” في تحقيق الأكثرية، لكن “حزب الله” وحليفه التيار الوطني الحر نجحا في تشكيل الأكثرية النيابية. ورغم ذلك فقد تم اختيار “الحريري” لتشكيل الحكومة الجديدة ووضع برنامج إصلاح اقتصادي متميز واستغل علاقاته مع باريس لعقد مؤتمر باريس 1 و2 لدعم الاقتصاد اللبناني الذي بدأ ينهار آنذاك. ولكن شركائه في الحكومة لم يمنحوه الفرصة المناسبة لإكمال خطته. وفي 29 أكتوبر 2019 أعلن “الحريري” استقالة حكومته إثر الاحتجاجات الشعبية الضخمة (ثورة تشرين)، ثم في نوفمبر 2020 تم تكليفه برئاسة الحكومة من جديد وتم عرقلة أي تشكيل حكومي يقدمه رغم أنه قدم كافة التنازلات للرئيس “ميشال عون” على مدى تسع أشهر حتى اعتذر عنها في منتصف يوليو 2021.
ولذا فقد تعرض “الحريري” لكافة أشكال الضغط الساسي والأغتيال المعنوي وكان المطلوب منه دوما تقديم المزيد من التناولات فقد تنازل عن ثروته الشخصية، وشعبيته بالتحالف مع التيار العوني، وحلفائه الخليجيين بالتقارب مع “حزب الله”، كما تنازل ضمنيا عن قضية اغتيال والده عندما قام بزيارة سوريا في 2009 وأعلن ندمه بعد ذلك، ثم قبل بحكم ضعيف في حادثة الاغتيال التي تم إدانة شخص واحد فيها عام 2020. ولم يبق سوى حياته الشخصية التي مستها العديد من التهديدات والتحذيرات من الاغتيال فضلا عن الشائعات وتشويه السمعة مما أدى لتراجع شعبيته بين أنصاره. واتهامه بأنه جزء من الطبقة الحاكمة الفاسدة وهو ما ترك بنفسه الشعور بالألم والغصة ودفعه لاتخاذ قراره بالانسحاب من الحياة السياسية.
-إستهداف شخصي: كان آخر عمل سياسي “للحريري” هو إعتذاره عن تشكيل الحكومة اللبنانية بعد حادثة “مرفأ بيروت” نظرا لحالة التعنت من قبل “التيار الوطني الحر” (مسيحي ماروني) و”حزب الله” (شيعي) حيث استمر الحريري 9 أشهر في محاولات لتشكيل الحكومة، بيد أنه كان يصطدم في كل مرة يقدم فيها التشكيل الوزاري بالرفض من قبل الرئيس “ميشال عون” حتى اعتذر عنها في يوليو 2021، وغادر بيروت وهو على يقين بأن الرفض المستمر هو رفض لشخصه من قبل شركاء الحكم في لبنان من كافة الطوائف، ومحاولة لتكبيله ودفعه للاعتذار عن التشكيل وهذا ما حدث، ثم دفعه لاعتزال العمل السياسي بشكل عام. هذا العداء تحديدا كان بينه وبين رئيس التيار الوطني الحر “جبران باسيل” (مسيحي ماروني) والأمين العام لحزب الله “حسن نصرالله”، وقد أعلن “الحريري” صراحة عن عداءه للأول خلال كلمته في ذكرى والده في 15 فبراير 2020، وذلك بعد استقالته من الحكومة في 29 أكتوبر 2019 إثر”ثورة تشرين”. حيث أعلن “الحريري” أنه تعامل مع رئيسين، وكان المطلوب مني دائماً، أن أؤمِّن العلاقة مع رئيس الظل (في إشارة لباسيل)، لأحمي الاستقرار مع الرئيس الأصلي (ميشيل عون)، وهذا لأن “باسيل” يطمح في الترشح للرئاسة عام 2022، ويرث منصبه حماه “عون”، كما أن “باسيل” كان يشترط بقاءه في الوزراة بمنصب سيادي طالما بقى “سعد” رئيسا للوزراء ولذا لم يترك أي فرصة لإثارة النزاعات والمشكلات “للحريري” إلا وافتعلها. وبالطبع العداء الشخصي بين “نصر الله” و”سعد” معروف وتاريخي فهو المتهم الأول باغتيال الشهيد “رفيق الحريري” ورغم ذلك تغاضي “سعد” عن دم والده وتفاوض مع “حزب الله” لتشكيل الحكومة ثلاث مرات وهذا لم يرض “نصر الله” الذي تعمد إحراجه سياسيا وشخصيا بشكل مستمر.
-رفع الغطاء السني عن “حزب الله”: أراد “الحريري” بقراره تعليق عمله السياسي، رفع الغطاء السني عن “حزب الله” اللبناني وحليفه “التيار الوطني الحر، لأنهما كانا يرغبان في مشاركة “الحريري” بالانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في مايو 2022، لإقناع المجتمع اللبناني والدولي بوجود مشاركة سنية فاعلة فيها والتغطية على نتائجها المشكوك فيها مسبقا نظرا لما يتردد عن التلاعب بتلك النتائج.
كما يخشى من مقاطعة سنية كبيرة للانتخابات وهو ما يتضح لان معظم القيادات السنية أعلنت عدم المشاركة ولذا رغب “عون” في الإبقاء على مشاركة “الحريري” وعدم خروج الطائفة السنية من العمل السياسي في لبنان”. كما يخشى “حزب الله” تكرار سيناريو الانتخابات العراقية. التي أجريت في أكتوبر 2021 وفاز فيها معارضين لإيران ومستقلين من السنة والشيعة. فنتائج الانتخابات المقبلة حال أجريت ستؤدي إلى خسارة “حزب الله”، أو سيطرتها التامة على البرلمان عبر مناصريه وحلفائه وبالتالي تشكيل حكومة موالية له، وهنا ستتعمق المقاطعة العربية والدولية لبيروت، لغياب حكومة متوازنة تعبر عن كافة مكونات المجتمع اللبناني.
-إنتهاء الدعم السعودي: كانت المملكة العربية السعودية تاريخيًا هي الداعم الأول والأكبر للسنة في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية وبعد توقيع اتفاق الطائف واستمرت كذلك لثلاث عقود وكان هناك تحالف قوى بين العائلة الحاكمة بالرياض و”رفيق الحريري” زعيم السنة ورمز الاعتدال والوسطية بلبنان واستمر ذلك التحالف حتى بعد اغتيال رفيق عام 2005. وفي 4 نوفمبر 2017 بدأت تلك العلاقة تتغير بل وتتحول لعداء خفي غير معلن، حيث أعلن “سعد الحريري” الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء وقتها استقالته اعتراضا على تصاعد نفوذ “حزب الله” وإرتباطه بإيران وتدخله في الأزمة السورية، وذلك خلال تواجده في الرياض بعد استدعاء ولى العهد السعودي “محمد بن سلمان” له، ثم بقي “سعد” في الرياض ورفض العودة لبيروت مما آثار الشكوك في أنه محتجز ويتعرض لضغوط من “بن سلمان” وتوحدت كافة القوى اللبنانية للمطالبة بالافراج عنه وعودته لبلاده. وقد تم ذلك بعد وساطة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” وترك “الحريري” الرياض متوجها لباريس ثم القاهرة ثم قبرص فبيروت.
ومنذ تلك الحادثة الغامضة التي يرفض “الحريري” توضيح ملابساتها، تراجع الدعم السعودي لزعيم السنة في بلبنان. بدأت الرياض في معاداته، ورفضت تولي “الحريري” تشكيل الحكومة في 2019 ثم في 2020. وانتقل هذا الدعم لزعيم حزب القوات اللبنانية “سمير جعجع” الذي قام بدوره بنقض تحالفه مع “الحريري” واتخاذ مواقف تعرقله ورفض عودته للحكومة. وقد تعمقت أزمته مع الرياض يوما بعد يوم وربما تعود لرفض “محمد بن سلمان” سياسات “الحريري” والاعتماد عليه كزعيم للسنة في لبنان واتهامه بأنه يقدم العديد من التنازلات لحزب الله “الشيعي”، كما انتقلت تلك الأزمة لتصبح أزمة رسمية بين الحكومة اللبنانية والسعودية بعد الانتقادات المتبادلة بين وزراء لبنانيين للرياض بسبب تدخلها العسكري في اليمن ومحاربة الحوثيين المدعومين من إيران، بدورها تنتقد المملكة الدعم العسكري الذي يقدمه “حزب الله” للحوثيين الذين يهددون أمن واستقرار المملكة عبر قصف المناطق الحدودية لها بالطائرات المسيرة بشكل مستمر. ورغم ذلك نرى أن دعم الرياض “لجعجع” كحليف رئيسي للمملكة في لبنان هو خطأ استراتيجي للرياض حيث إنها تتخلى عن دعم الطائفة السنية التي تمثلها بينما تحشد إيران كل وسائل الدعم الممكنة العلنية والسرية “لحزب الله” الشيعي.
-تغلغل إيران وتراجع الدعم العربي: برر “الحريري” قراراه بأنه اقتنع بأن “لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني” وهذا صحيح حيث إن وكلاء إيران قد سيطروا على مقاليد الحكم بلبنان في كل شيء، فمنذ عام 2018 تتحكم طهران في اختيار رئيس الوزراء اللبناني، كما يسيطر وكيلها في لبنان “حزب الله” وحلفائه على البرلمان الممثل للسلطة التشريعية. ثم سيطرت على مجلس القضاء وتحكمت في اختيار القضاة وحال وجود قاض وطني تشن عليه حملات العداء كما تم مع قاضي التحقيق في انفجار “مرفأ بيروت” “البيطار”. وقد تزامن ذلك مع رفض خليجي وعزوف عربي عن التدخل بالشأن اللبناني أو ضخ الاستثمارات للحفاظ على الاقتصاد المتهادي. وترك لبنان فريسة لطهران بشكل تام عززت فيه كافة أشكال الاقتصاد الأسود وأصبح ممرا للأسلحة والمخدرات والعناصر المسلحة من وإلى سوريا. كما أصبح لبنان قاعدة لتهريب المخدرات لدول الخليج والدول العربية.
2-أين أخطأ الحريري؟ ومتى أصاب؟:
كافة الطوائف اللبنانية والقوى السياسية والدول الإقليمية المعنية بالشأن اللبناني تحمل “سعد الحريري” المسؤولية عن ما وصلت إليه أوضاع لبنان من سيطرة “حزب الله” على القرار السياسي والانهيار الاقتصادي والخدمي، ولذا فإن “الحريري” أراد بقراره ألقاء المسؤولية عليهم وترك الخيارات لهم ليقدموا حلولا لمشكلات لبنان بعيدا عنه، وإذا كان هو السبب في تردي الوضع فقد تنحي فهل ستتحسن أوضاع الدولة؟ قرار “الحريري” أسفر عن أزمة كاشفة عن مدى الضغوط التي تحملها وعن مدى الصعوبة في إدارة دولة كلبنان بكافة تعقيداتها وملفاتها المتداخلة إقليميا ودوليا، حيث ان “الحريري” لم يكن بوسعه محاربة خصوم الداخل والحفاظ على ثروته الشخصية وحياته في ظل حياة منقسمة يعيشها حيث تقيم أسرته خارج لبنان منذ 2005، وكذلك لم يكن بوسعه التصدي “لحزب الله” والنفوذ الإيراني بلبنان في ظل احجام عربي عن دعمه وتهميش دولي للأزمة اللبنانية وتضامن أمريكي للتوسع الإيراني الإقليمي منذ عام 2015، ولذا نرى إن قرار “الحريري” بتعليق عمله السياسي كان صائبا وربما تأخر قليلا وكان يجب أن يتخذه منذ عامين بعد “ثورة تشرين” ويتحول للعمل الخدمي للمواطنين فقط. بيد أن هذا لا ينف وجود أخطاء سياسية ارتكبها “الحريري” ومنها ..
-تقديم تنازلات مستمرة “لحزب الله” و”عون” للحفاظ على الوضع القائم ومنع الحرب الأهلية، وفي النهاية أنهار لبنان إقتصاديا وتمزق سياسيا وتدمر “مرفأ بيروت” الذي كان المصدر الأول للدخل اللبناني ووسيلته للتجارة الخارجية.
-هناك أخطاء شخصية “للحريري” أثرت عليه سياسيا ومنها إهمال عمله الخاص وفقدان ثروته مما أدى لتراجع قدرته على تمويل تياره السياسي وحملاته الانتخابية، في مقابل وفرة مالية لخصومه مثل “حزب الله” الشيعي الذي يحصل على أموال إيرانية مستمرة. كما أضطر “الحريري” بعد إعلان إفلاس شركته “سعودي أوجيه” عام 2016 لإغلاق مؤسساته الإعلامية ومنها تليفزيون المستقبل الذي كان منبرًا يربطه بأنصاره وتياره والطائفة السنية، حيث فقد “الحريري” القدرة للرد على الحروب الإعلامية التي تشن ضده ولم يتمكن من الدفاع عن نفسه إعلاميًا أو صحفيًا.
– اعتمد “الحريري” على أصحاب الثقة وليس الكفاءة في إدارة تيار المستقبل مما أدى لفقدان دوائر سياسية هامة بانتخابات 2018، وقامت شخصيات سنية أخرى بتعزيز مكانتها وشعبيتها على حسابه مما أدى لتراجع شعبيته هو، كما أن سفره لفترات طويلة عن لبنان استغله خصومه للتقارب مع القواعد الشعبية. كما كان يختار شخصيات غير مناسبة للترشح في الدوائر الانتخابية وكذلك في التشكيل الحكومي.
– قام “الحريري” بعدة زيارات لتركيا عامي 2020 و2021 وعقد اجتماعات مع رئيسها “رجب طيب أردوغان” الذي أعلن بدوره عن دعمه المستمر للبنان، وذلك في وقت احتدام الخلاف بينه وبين الرياض، وبين الأخيرة وأنقرة. الأمر الذي أغضب السعودية وكذلك مصر لأنهما تتحفظان على مساع تركيا لمد نفوذها إلى لبنان عن طريق تقديم المساعدات وتطوير الأبنية العثمانية في طرابلس.
ثانيا: تداعيات على الداخل اللبناني:
انقسمت الآراء اللبنانية حول قرار “سعد الحريري” فعلى المستوى الشعبي الشارع السني في صدمة وبحث مستمر عن زعيم يوحد الطائفة التي تنزف دما منذ إغتيال زعيمها “رفيق الحريري”، وعلى مستوى قيادات الطائفة السنية المرشحين للزعامة بدلا من “الحريري” ومنهم رئيس الوزراء الحالي “نجيب ميقاتي” والأسبق “فؤاد السنيورة” والأسبق “تمام سلام”، فقد أبدوا جميعهم تضامنهم مع “الحريري” وأعلنوا رغبتهم في مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، مما ينذر بمقاطعة سنية للانتخابات لأول مرة منذ انتهاء الحرب الأهلية والعمل باتفاق “الطائف”. كما أعلن أصدقاء وخصوم “الحريري” احترامهم لقراره ومنهم الزعيم الدرزي “وليد جنبلاط” و”جعجع” وكعادته تهكم “نصر الله” على القرار الذي يسعى للاستفادة منه بقدر الإمكان. وسوف تتعدى تداعيات قرار “الحريري” الداخل اللبناني وستمتد تأثيراته لما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة حال أجريت، ومن بينها ..
-تشرذم الطائفة السنية: القرار أدى لحالة من الإحباط العام بالشارع السني وستسعى كل الطوائف اللبنانية للحصول على أكبر نسبة من الكتل الانتخابية السنية التي تمثل ثلث مقاعد البرلمان، لاسيما وأنها موزعة على كافة المناطق والمحافظات اللبنانية ولا تتركز في محافظة واحدة وهذه طبيعة التوزيع الجغرافي للسنة في لبنان طوال التاريخ. كما أن خصوم “الحريري”، ولا سيما حزب الله والتيار الوطني الحر، سيسعون للحصول على مقاعد إضافية. وقد أعلن “جعجع” صراحة عن رغبته في تمثيل السنة بلبنان، كما يسعى “جنبلاط” للحصول على ما يقدر عليه من أصواتهم. بينما تحشد قوى سنية جديدة قوتها لتمثيلهم بالانتخابات المقبلة. بينما الشارع السني مازال تحت صدمة انسحاب “الحريري” ولم يتخذ قرار نهائي حول من سينتخبه في مايو 2022.
-تعزيز الانقسام الداخلي: الانقسام الداخلي أصبح مزدوج بين الطوائف (المسيحية الارثوذكسية والكاثوليكية والمارونية، السنية، الشيعية، الدروز) وبين الأديان الإسلام والمسيحية، وداخل كل طائفة. حيث نجحت قوى الداخل “كحزب الله” والخارج كإيران وتركيا في استقطاب قيادات في كل طائفة لتنقسم كل طائفة على نفسها. كما أن النخبة السياسية اللبنانية منفصلة عن الواقع ولا تعبر عن مطالب الشعب اللبناني منذ خروجه للاحتجاج في 2019.
-“بهاء” كقيادة سنية بديلة: وعلى النقيض فقد رحبت عدد من الشخصيات السياسية السنية بقرار “سعد الحريري” وأبدت عزمها الترشح للانتخابات المقبلة وتزعم السنة في لبنان الذين يتنابهم شعور “باليتم” في ظل البيئة الإقليمية الحالية حيث فقدوا الزعيم الداخلي والدعم العربي الخارجي لهم. ومن بين تلك الشخصيات مدير الأمن العام السابق “أشرف ريفي” الذي انقلب على صديقه القديم “سعد”، و”بهاء الحريري” الشقيق الأكبر “لسعد” والذي لم يدخل الساحة السياسية طوال 17 عام ويعمل ويقيم في سويسرا، ولم يقدم أي دعم سياسي أو معنوي لأخيه في كافة الأزمات التي مر بها، وقد أعلن يوم 28 يناير 2022 عن دخول العمل السياسي بعد تنحي “سعد” وألقى بهاء (55 عاما) كلمة متلفزة أكد أنه لن يرشح نفسه في الانتخابات البرلمانية بل أنه سيساند قوائم انتخابية في أنحاء لبنان تحت شعار “سوا للبنان”، وهي حركة أسسها وموّلها منذ سنوات. وقد حمل كلامه انتقاد مبطن لأخيه. ولعل العامل لدعم “بهاء” هو “المال السياسي” الذي يمتلكه بوفره حيث يعد من أغنى رجال الأعمال اللبنانيين وهذا ربما يساهم في معالجة عدد من مشاكل الطائفة السنية بيد أنه ليس كاف لبناء زعامة سياسية سنية حقيقة تشعر بالمواطنين وتلبي مطالبهم، وربما يواجه “بهاء” مصير أخيه “سعد” الذي طالما انتقده ووصفه بأنه تخلى عن نهج أبيهم، وتجاهل أنه تخلى عن بلده وعائلته منذ 17 عام. ورغم أن اسم “الحريري” الذي يحمله بهاء ليس جديدا على الساحة اللبنانية، إلا أن تفضيلاته وخياراته السياسية ستكون جديدة على المشهد اللبناني.
-تصاعد التيارت المتطرفة بطرابلس: تتميز مدينة طرابلس بوضع دقيق حيث تعد مركز السنة بشمال لبنان ومن أكثر المدن التي ينتشر فيها الفقر والبطالة، وتيارات الإسلام السياسي مثل السلفية و”الأخوان المسلمين” الممثلة في “الجماعة الإسلامية” التي شاركت وفازت بالانتخابات البرلمانية في (1992 – 2000- 2009). كما شهدت تلك المدينة أحداث أمنية متعددة ومنها سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي علي عدد من قراها، واندلاع تظاهرات تحولت لأعمال عنف في يناير 2021. وخلال العامين الماضيين مع تفاقم الأزمة الاقتصادية بالبلاد لجأ عدد من شبابها للسفر لسوريا والعراق والإنضمام “لداعش”. كما تسعى “الجماعة الإسلامية لإعادة تقديم نفسها للمجتمع اللبناني بعد خسارتها في انتخابات 2018. بينما سعت قوى خارجية ومنها تركيا وقطر لتعزيز نفوذهم في طرابلس من خلال جمعيات تقدم مساعدات إنسانية للعائلات الفقيرة. وقام وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” بزيارة المدينة ودعوة العائلات التركمانية فيها للسفر لتركيا والحصول على الجنسية التركية، ليكونا بعد ذلك “حصان طروادة” للنفوذ التركي في لبنان.
-تكريس الطائفية: وصفت احتجاجات “تشرين 2019” خلال العامين الماضيين بأنها غير طائفية وجامعة للشعب اللبناني. بيد أنه منذ ذلك التاريخ شهدت البلاد تكريس للطائفية ستتعمق بعد قرار “الحريري”، حيث ستخشى كل طائفة على مكتسباتها وحقوقها في ظل ضعف الطائفة السنية، وستعتمد كل طائفة على السلاح وافتعال المشكلات لحشد المزيد من أنصارها، وقد برز ذلك في عدة حوادث سابقة منها أحداث (خلدة، عين الرمانة، كورنيش المزرعة) التي شهدت اشتباكات مسلحة بين عناصر “حزب الله” اللبناني ومثلهم من الدروز والمسيحيين والسنة مما أعاد مشاهد الحرب الأهلية للبلاد.
-إسقاط الطائف وتعويم العهد: يروج الكثيرين إلى أن “اتفاق الطائف” الذي تم برعاية سعودية وأنهى الحرب الأهلية اللبنانية أصبح غير مناسب للواقع الحالي، ويجب إسقاطه وتدشين اتفاق جديد يعبر عن قوة التوازنات للطائف. وكلمة “العهد” في الشارع اللبناني المقصود بها مضمون التسوية السياسية التي توصل لها القادة اللبنانيين بوساطة اقليمية ودولية في 2016، وتقضي بتولى العماد “ميشيل عون” حليف “حزب الله” رئاسة الجمهورية مقابل تولي “الحريري” رئاسة الوزراء. وبعد تنحي “الحريري”، تروج بعض القوى لضرورة تغيير التركيبة السياسية بلبنان ليتولى رأس السلطة التنفيذية مسلم شيعي وليس سني، لأن الشيعة أصبحوا في موقع أقوى داخليا وخارجيا. وهذا حال تم فإنه سيؤدي لإضطرابات غير محدودة أو محمودة بالبلاد.
-إرجاء الانتخابات والتمديد “لعون”: وهو أكثر السيناريوهات المرجحة حاليًا للإنتخابات المقبلة، ففي ظل الأزمة الاقتصادية المستمرة وانهيار الليرة التي فقدت 90% من قيمتها، وتراجع التمويل والدعم الخارجي للبنان. وفراغ الزعامة السنية من المتوقع إرجاء الانتخابات البرلمانية المقررة في مايو 2022 عدة أشهر وربما عام. حتى يتم ترتيب الأوضاع بالداخل والخارج. وهذا ما بدأت المنابر الإعلامية لكافة القوى السياسية اللبنانية التمهيد له.
-تكريس النفوذ الإيراني: تخوض إيران مفاوضات حرجة في فينا حول برنامجها النووي بعد إنسحاب طهران وواشنطن منه، ولو تم التوافق والعودة للاتفاق النووي فإن ذلك سينظر باستمرار التمدد والتوسع الإيراني الإقليمي في سوريا والعراق ولبنان واليمن، إلا إذا اشترط الاتفاق على تقليص ذلك. وحال فشلت المفاوضات فإن طهران ستعزز دعمها لوكلائها الإقليميين لتثبت قوتها ومكانتها. وفي الحالتين فإن الوضع في لبنان سيتجه للمزيد من تكريس النفوذ الإيراني. وحال أجريت الانتخابات البرلمانية المقبلة فإن “حزب الله” سيستغل كل الفرص للفوز بها والسيطرة على تشكيل الحكومة مما سيؤدي لتكريس النفوذ الإيراني بلبنان. وهذا سينعكس على العلاقات بين “حزب الله” وإسرائيل، و”حزب الله” والدول الخليجية التي يعلن معاداتها باستمرار.
-استمرار التوتر بالعلاقات الخليجية اللبنانية: فشل وساطة وزير الخارجية الكويتي الشيخ “أحمد ناصر الصباح” بين لبنان والدول الخليجية. حيث رفضت الرياض الرد اللبناني على “الورقة الكويتية”، التي كانت تنص على تطبيق القرارين الأميين (1559 – 1701) ونزع سلاح ميليشيات “حزب الله”، مقابل عودة الاستثمارات والدعم الخليجي لبيروت. الأمر الذي ينذر باستمرار التوتر في العلاقات اللبنانية الخليجية على المدى القصير، وسيرهن تحسنها بطبيعة العلاقات بين طهران والرياض تحديدًا.
-شرعنة النفوذ التركي في لبنان: لا يترك “أردوغان” أي فرصة إقليمية أو دولية دون استغلالها لتعزيز نفوذه، وقد فتحت الأزمة اللبنانية الباب لتركيا وغيرها من الدول للنفاذ إلى ساحة شديدة الاضطراب حيث تتقاطع وتتضارب مصالح جيوسياسية دولية وإقليمية. وسبق “لأردوغان” أن استضاف “سعد الحريري” أكثر من مرة، وتعهد بإعادة ترميم مبان حكومية بطرابلس الشمال تعرضت للتخريب في الفترة الأخيرة من قبل محتجين بينها بلدية المدينة التي يعود تاريخها للعهد العثماني. كما قام رئيس الوزراء الحالي “نجيب ميقاتي” بزيارة لأنقرة في 1 فبراير 2022، واجتمع “بأردوغان” الذي جدد دعمه لبيروت سياسيًا وإقتصاديًا، ومن المتوقع أن يشكل الدعم التركي اقتصاديا مفتاح التغلغل في الساحة اللبنانية ومنفذا مهما للشركات التركية. وسوف يسعى “أردوغان” حاليا لملء الفراغ الخليجي والعربي في لبنان عبر طرح تركيا كداعم وضامن للسنة في لبنان، وسوف يستغل ذلك للتنافس مع فرنسا التي تشهد علاقاته معها تذبذبا مستمرا. والتقارب مع دول الخليج العربي عبر العمل كوكيل لهم في لبنان لاسيما الإمارات التي تقارب معها مؤخرا ويقيم بها “الحريري”. فربما يتم التنسيق بين أبوظبي وأنقرة لملء الفراغ السني في لبنان. وهذا بالطبع سيؤدي لتعزيز النفوذ التركي في سوريا وشرق المتوسط تحديدا والمنطقة بشكل عام.
-تصاعد التنافس الدولي: سوف يتصاعد التنافس الدولي لتعزيز النفوذ بلبنان بين ثلاث قوى هي.. روسيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. فالأخيرة لها إهتمام أمني يتلخص في تقليص نفوذ “حزب الله” وإيران لصالح الأمن الاسرائيلي، وترسيم الحدود بين بيروت وتل أبيب ومنع الاشتباكات الحدودية المستمرة بين الحزب والجيش الإسرائيلي. وفرنسا هدفها سياسي اقتصادي ثقافي للحفاظ على نفوذها بالبلاد لاسيما بعد اهتمام رئيسها “إيمانويل ماكرون” بالوضع اللبناني بشكل بالغ خلال ولايته الأولى(2017-2022). وأيضا منافسة النفوذ التركي المتصاعد في الشرق الأوسط وشرق المتوسط حيث تسعى شركات فرنسية للتنقيب عن النفط والغاز بسواحل لبنان بعد ترسيم الحدود. ويأتي الاهتمام الروسي بلبنان بدافع أنها تمثل العمق الاستراتيجي لسوريا التي تموضعت فيها موسكو سياسيًا وعسكريًا خلال العقد الماضي فاستقرار لبنان هو شأن روسي بامتياز، ومن المعروف العلاقات الممتازة التي كانت تربط موسكو بآل “الحريري” ودعم روسيا للعائلة خلال فترات حكمها المختلفة.
*عودة “سعد الحريري”:
شكل تواجد “رفيق الحريري” وخلفه “سعد” كجزء من النخبة السياسية اللبنانية بعد إنتهاء الحرب الأهلية رادعًا لتكرار تلك الحرب. ورمانة الميزان بين الطوائف حيث إنه حافظ على التوازن المسيحي الإسلامي، والسنّي الشيعي”. وقد تحمل “سعد” الكثير للحفاظ على ذلك التوازن وربما يكون انسحابه الحالي من المشهد السياسي هو “استراحة محارب”، فقد مهد بنفسه لعودته مرة آخرى. غداة إعلانه الانسحاب عبر نشر فيديو قصير على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة به عن “عودة النسر” (حيث يمر النسر ذلك الطائر القوي بأزمة عند عمر الـ40 تستمر 150 يوم، حيث يصعد لقمة الجبل ويكسر منقاره ومخالبه، ثم تنمو مخالبه الجديدة أكثر قوة ويعيش بعد ذلك 30 عاما أخرى). وربما يحتاج “سعد” لتلك الفترة التي يعيد فيها ترتيب بيته الداخلي بتيار المستقبل ويرمم علاقاته الخارجية ليعود أقوى مما كان. في ظل معطيات جديدة في البيئة الإقليمية والدولية، وتوافق عربي دولي لمواجهة النفوذ الإيراني والحفاظ على التوازن الطائفي والاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي للبنان.