أنقرة (زمان التركية) – تناول الصحفي بوراك بكديل بالتحليل ما يقوم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تحركات للتصالح مع مختلف البلدان التي أعلن من قبل عداوته لها بالقول والفعل.
في مقال تحليلي كتبه الصحفي بوراك بكديل، نشرها معهد جات ستون للدراسات السياسية الدولية، يجيب الكاتب عن “لماذا اليوم يحاول أردوغان التقرب إلى تلك الدول” وجاء نص المقال كالتالي:
تعتبر مقاطعة قونية في وسط الأناضول تاريخيًا معقلًا للمحافظين والمساندين لتيارات الإسلام السياسي، وهذا يعني أنهم أنصار الرجل الإسلامي التركي القوي رجب طيب أردوغان، ففي الانتخابات الرئاسية لعام 2018، حصل أردوغان على 75٪ من أصوات الناخبين في تلك المقاطعة الصناعية، ولكن بعد إجراء مقابلات مع السكان المحليين في قونية بمن فيهم عمال صناعيون ومزارعون وطلاب.
فجميعهم يتأسفون اليوم على ارتفاع الأسعار وقلة الوظائف، وبحسب تقرير لوكالة رويترز في ديسمبر / كانون الأول “هذه النسبة التي حصل عليها أردوغان سابقا، مهددة الآن بمجموعة غير مسبوقة من التحديات”.
فقد انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للأتراك للعام السابع على التوالي من 12500 دولار في 2012 إلى أكثر بقليل من 7000 دولار هذا العام، كما فقدت الليرة التركية أكثر من نصف قيمتها مقابل العملات الغربية الرئيسية في الأشهر الثلاثة الماضية فقط.
وتزامنا مع هذا بدأ أردوغان يغازل إسرائيل -خصمه الأيديولوجي- عندما لعب في نوفمبر الماضي دور السجان في البداية ثم المنقذ للزوجين الإسرائيليين موردي وناتالي أوكنين، حيث كان تم اعتقالهما واحتجازهما في سجن تركي بتهمة التجسس بعد تصوير قصر أردوغان في اسطنبول حيث كانا يزورانه كسائحين، وفي خطوة مصممة بشكل جيد تم إطلاق سراح الزوجين بعد أسبوع واحد، كما أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت ووزير الخارجية يائير لابيد بيانًا في 18 نوفمبر قالا فيه: “نشكر رئيس تركيا وحكومته على تعاونهما ونتطلع إلى الترحيب بالزوجين في الوطن”.
وبالطبع أردوغان لم يفوت الفرصة ففي نفس اليوم أجرى محادثة هاتفية نادرة مع نظيره الإسرائيلي الرئيس إسحاق هرتسوغ، ووفقًا لبيان صادر عن مديرية الاتصالات التركية فقد سلط أردوغان الضوء على أهمية العلاقات بين البلدين من أجل “أمن واستقرار الشرق الأوسط” وأشار إلى أنه “يمكن التقليل من الخلافات في الرأي إذا تم التصرف بتفاهم متبادل على الصعيدين الثنائي والإقليمي”.
أردوغان بين البراغماتية وأيدلوجية الإسلام السياسي
وهذا هو نفسه أسلوب أردوغان البرغماتي الذي يحاول مغازلة الولايات المتحدة الأمريكية والكونجرس الأمريكي بعدما شعر بالضعف السياسي بسبب تزايد الفقر والعزلة المالية الدولية، ففي لفتة غير عادية تمنى سفير تركيا في واشنطن مراد ميركان للجالية اليهودية في أمريكا عيد حانوكا سعيد، وقد حضر ميركان أيضًا عشاءً يهوديًا في تشاباد لإشعال شموع حانوكا مينورا، وبالطبع التقطت صور له من بينها صورة واحدة مع ليفي شمتوف نائب رئيس المنظمة الأرثوذكسية الأمريكية أصدقاء لوبافيتش.
وفي الواقع وبعد أسابيع فقط من عملية غصن الزيتون، وبالتحديد في 8 كانون الأول /ديسمبر، اعتلى إردوغان ذو أيدلوجية الإسلام السياسي المنصة، وصرح بقوله إنه منفتح على تحسين العلاقات مع إسرائيل لكن على الدولة اليهودية أولاً أن تظهر سياسات “أكثر حساسية” تجاه الفلسطينيين:، ويجب على (إسرائيل) أن تكون حساسة تجاه القدس والمسجد الأقصى”.
وعلق الكاتبسيث ج.فرانتزمان في صحيفة جيروزاليم بوست على تصريح أردوغان بقوله: “هذه هي المشكلة، حيث إنه لا يوجد دليل على أن أنقرة تريد علاقات أفضل أو على استعداد لفعل أي شيء تستفيد منه إسرائيل … وبالتالي فإن (أنقرة) تريد مصالحة بدون فعل أي شيء في المقابل”.
وعلى الرغم من كون إسرائيل تعد ركيزة في خطاب أردوغان الهجومي الذي يستخدمه من أجل دغدغة مشاعر الناخبين الموالين، إلا أن إسرائيل ليست الخصم الوحيد الذي تحاول تركيا بصمت إصلاح العلاقات مع واشنطن من خلاله، وبالطبع فإن التحركات التركية تأتي من منطلق إصلاح العلاقات مع واشنطن ومن هنا جاءت الدعاية المفاجئة للمصالحة التركية الإماراتية، ففي عام 2020 هدد أردوغان بتقليص العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الخليجية بعد أن أبرمت سلامًا مع إسرائيل في وقت سابق ،واتهم أردوغان وآليته الدعائية الإمارات أيضًا برعاية الانقلاب الفاشل ضد حكومته في يوليو 2016.
ولكن مع استمرار تراجع الاقتصاد التركي استضاف أردوغان في 24 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي، ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في أنقرة، حيث وقعت تركيا والإمارات اتفاقيات بشأن استثمارات الطاقة والتكنولوجيا بينما وقع البنكان المركزيان لتركيا والإمارات العربية المتحدة اتفاقية تعاون. ونقلت صحيفة “أراب ويكلي” عن مسؤول تركي قوله “إن المشاكل مع الإمارات باتت وراءنا، نحن ندخل فترة تقوم بشكل كامل على التعاون والمنفعة المتبادلة ” مضيفًا أن استثمار الإمارات في نهاية المطاف ستكون بمليارات الدولارات، وبالفعل بعد أيام قليلة من زيارة ولي العهد لأنقرة وصل وفد إماراتي إلى تركيا لبحث التعاون في مجال صناعة الدفاع.
كسب القلوب في واشنطن
من الواضح أن أردوغان يحاول كسب القلوب والعقول في واشنطن بينما يطارد الأموال في الخليج، ففي أوائل ديسمبر كان أردوغان في قطر حليف تركيا الوحيد في الخليج، وحينها وقع أردوغان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني 12 مذكرة تفاهم في مختلف المجالات بما في ذلك مجالات الجيش والرعاية الصحية والسياحة والتعليم.
ولكن ما هي الرسالة التي حاول إيصالها لواشنطن؟ لقد أوضح وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حينها في تصريحه أن “قطر ستعمل مع حليفتها تركيا ومسؤولي طالبان لضمان استمرارعمل مطار كابول الدولي، والذي كان موقع لمشاهد الفوضوى العارمة بعد سيطرة طالبان عليه”.
حيث كان من الواضح أن الرئيس جو بايدن يفضل أن تدير قوة تابعة لحلف شمال الأطلسي مطار كابول بدلاً من تمهيد الطريق لمزيد من الهيمنة الروسية والصينية، ووفقًا لتقرير تشاتام هاوس “كان الدافع الرئيسي لحكومة أردوغان هو استخدام أفغانستان لإصلاح العلاقات مع إدارة بايدن، أما عن حقيقة عودة أردوغان من رحلة أمريكية أخيرة لحضور افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة دون تأمين لقاء مع بايدن فهذا يوضح مدى الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لتطلعات تركيا في أفغانستان.”
ومع ذلك فإن محاولة أردوغان لكسب القلوب والعقول في واشنطن لمتقتصر على تغيير مساره العدواني ضد إسرائيل أو دول الخليج فقط، فهناك تكهنات بأن هدفه التالي للمصالحة الخليجية قد يكون السعودية، ولكن ماذا عن أرمينيا فهي لم تكن قبل ذلك وسيلة مرتبطة بسعيه أردوغان للحصول على تدفقات نقد أجنبية، ولكن ما يجعل أرمينيا مهمة هي كونها ملف مهم بالنسبة لبايدن الذي أصبح أول رئيس أمريكي يعترف بالإبادة الجماعية للأرمن حيث أصدر بيانا بذلك في أبريل 2021، الأمر الذي أثار حفيظة تركيا، ولقد شجع بايدن تركيا باستمرار على تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع أرمينيا، بل وشجع أردوغان، بصورة شخصية على ذلك خلال اجتماع الزعيمين في وقت سابق في روما، حيث دعى إلى فتح حدود تركيا مع أرمينيا، لكل ذا فإن أرمينيا هي الأخرى تستحق أن تتسلم خدعة غصن زيتون الزائفة بالطبع .
نهاية اللعبة
إذا ما هي الخدعة هنا؟ إن تحرك أردوغان للتظاهر بأن تركيا تتخذ الآن خطوات للتطبيع مزيف، فهو سيبدأ عملية لا يعتزم إكمالها أبدًا.
وقد صرح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في 13 ديسمبر / كانون الأول أن تركيا وأرمينيا ستعينان مبعوثين خاصين بشكل متبادل لمناقشة خطوات تطبيع العلاقات، وأضاف أنهما سيستأنفان أيضًا رحلات الطيران العارض بين اسطنبول ويريفان. وبعد ثلاثة أيام عينت أنقرة سيردار كيليش سفيرها السابق لدى واشنطن مبعوثًا خاصًا لها إلى أرمينيا، ويعد تعيين المبعوثين الخاصين هو البداية الرسمية لعملية التطبيع، وقد أدت هذه الخطوة رسميًا إلى رفع مستوى العلاقات من “عدم وجود علاقات دبلوماسية” إلى “علاقات تتطور نحو التطبيع”.
وأخيرًا سمع أحدهم صوت أردوغان في واشنطن، حيث صرح وزير الخارجية أنتوني بلينكين” أنهم يرحبون ويدعمون بشدة هذه الخطوة”.
ولكن من ناحية أخرى فإن الأموال الإماراتية (وربما السعودية) التي تتدفق إلى الاقتصاد التركي المتعثر ستكون أنباء سيئة لحماس والإخوان المسلمين، إن الاقتصاد التركي التعثر أرغم أردوغان على المصالحة مع الخصوم والمصالحة تعني أن هؤلاء الخصوم سيطالبون أردوغان بالتوقف عن دعم حماس والإخوان المسلمين، وسيكون هذا هو الحال “على المدى القصير” لكن عند أول فرصة سيتخلى أردوغان عن المصالحة ويستأنف دعمه لهذه الجماعات الإرهابية، فلا ننسى أن براغماتية أردوغان لم تظهر إلا بعد 12 عامًا أو نحو ذلك، وحيث أنه اليوم يستعد للقتال من أجل بقائه السياسي في انتخابات عام 2023، فإذا شعر بأن أموال الخليج ورضا الولايات المتحدة قد عززا الدعم السياسي الاقتصاد التركي بما يكفي للفوز في عام 2023،فسوف يخلع قناعه التصالحي ويعيد ارتداءعباءة الإسلام السياسي المعتادة.