*د. منى سليمان
القاهرة (زمان التركية)ــ كان الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021 بلا منازع فقد سيطر على المشهد السياسي كليًا لاسيما بعد السيطرة السريعة لحركة “طالبان” بشكل غير شرعي على الحكم بالبلاد. وخلال عام 2022 ستظهر المزيد من تداعيات ذلك الانسحاب حيث يتصاعد التنافس الإقليمي والدولي لملء الفراغ السياسي والأمني الأمريكي بأفغانستان وآسيا الوسطى. ومن بين تلك الدول تركيا التي تسعى بشتى السبل لتعزيز مكانتها الإقليمية من خلال زعامة دول “العالم التركي” الناطقة باللغة التركية والمتواجد معظمها بآسيا الوسطى. وقد طرح الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” نفسه كوكيل لواشنطن يمكنه إدارة الأوضاع بأفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي من خلال قيام أنقرة بتأمين مطار كابول وبقاء قواتها بالبلاد وهو ما رفضته حركة “طالبان”، فعاد وطرح مؤخرا تشغيل وإدارة خمس مطارات رئيسية بأفغانستان بالتعاون مع قطر حليفة الحركة. كما أنه فتح قنوات تواصل مباشرة مع “طالبان” رغم تصنيفها حركة إرهابية بالأمم المتحدة واستقبلت أنقرة وفود الحركة للترويج لها دوليًا، ورغم هذه الجهود التركية لإرساء نفوذها في أفغانستان إلا أن عام 2021 قد انقضى دون توقيع اتفاق رسمي مباشر بين أنقرة والحركة يحدد شكل التعاون المستقبلي بينهم، ولذا سيسعى “أردوغان” خلال عام 2022 للتوصل لذلك الاتفاق مما يعزز نفوذه بآسيا الوسطى ويشعل التنافس مع القوى الإقليمية بالمنطقة كروسيا والصين والهند.
أولا: صور إعادة التموضع التركي بأفغانستان:
لم تترك القيادة السياسية التركية أى فرصة أو محفل دولي دون طرح قدرتها على إدارة الملف الأفغاني أمنيًا وسياسيًا، وقد بدأ ذلك قبل إتمام الانسحاب الأمريكي في منتصف أغسطس 2021، لاسيما عرض قدرة أنقرة على تأمين وإدارة مطار “حميد كرزاي” الرئيسي بالعاصمة كابول لأنه يعد الرابط الجوي الأهم بالبلاد والذي تتم من خلاله عمليات الإجلاء والتواصل مع العالم الخارجي في ظل ضعف البنية التحتية للمطارات الأفغانية الأخرى. وقد بدأ ذلك في يونيو 2021 خلال قمة حلف “الناتو” بعدما عرض “أردوغان” تأمين وإدارة وتشغيل مطار كابول عقب الانسحاب الأمريكي. بغية إعادة توزيع مهام القوات التركية المتواجدة بأفغانستان ضمن قوات حلف “الناتو”. فقد شاركت أنقرة ضمن قوات “إيساف” التابعة للحلف منذ إسقاط حكم “طالبان” عام 2001، وتولى جنرال تركي لمرتين قيادة تلك القوات. وتسلمت تركيا بيناير 2021، رئاستها، كما أن أنقرة كانت تشارك بنحو 500 جندي بتلك القوات انسحبوا في أغسطس 2021. وقد تعدد بعد ذلك محاولات أنقرة للتدخل في الشأن الأفغاني كما يلي ..
1-إصرار أنقرة على إدارة مطار “كابول”:
-طرح الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” أول مرة فكرة إدارة بلاده لمطار كابول خلال لقائه مع نظيره الأمريكي “جون بايدن” في يونيو 2021 بالعاصمة البلجيكية بروكسل خلال قمة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث طلب تأمين وتشغيل مطار كابول بالعاصمة الأفغانية بعد إنسحاب القوات الأمريكية، وبدء بالفعل في 8 يوليو 2021 سحب القوات الأمريكية في أفغانستان. وعقب ذلك تمت مفاوضات بين واشنطن وأنقرة حول أفغانستان، حيث قام وفد أمريكي بزيارة أنقرة لترتيب الوضع الأمني لمطار كابول. كما اقترح “أردوغان” تولي شركات أمن تركية خاصة حماية المطار وكان يقصد بها شركة “سادات” الأمنية التركية الخاصة التي ينتشر عناصرها في عدة دول منها أذربيجان وليبيا.
-غداة سيطرة حركة “طالبان” على الحكم بالبلاد في 15 أغسطس الماضي، أعلنت تركيا استعدادها لتقديم الدعم الفني والأمني لها للسيطرة على المطار الذي شهد أحداثا فوضوية ودموية. بيد أن الحركة أعلنت رفضها القاطع لوجود أي قوات تركية بمحيط مطار كابول او في أي مكان بأفغانستان وبأي صفة، حيث أكد في 24 أغسطس 2021 المتحدث باسم الحركة “ذبيح الله مجاهد” “نريد علاقات جيدة مع تركيا لكننا لا نريد وجود عسكريين لها في أفغانستان”. وعقب ذلك أعلن وزير الدفاع التركي “خلوصي آكار” في 26 أغسطس الماضي انسحاب كافة القوات التركية من أفغانستان المشاركة ضمن قوات “إيساف” وكانت تقدر بنحو 500 جندي.
-ثم جدد “أردوغان” اقتراحاته للتدخل في أفغانستان وكان يسعى لإضفاء الشرعية الدولية عليها من خلال مشاركة المؤسسات والهياكل الدولية التي تضم أنقرة في إدارة الملف الأفغاني. وفي 13 أكتوبر 2021، تشكيل مجموعة عمل من أجل أفغانستان ضمن بنية “مجموعة دول العشرين”، وطرح أن تتولى تركيا رئاستها. وذلك خلال مشاركته عن طريق “الفيديو كونفرنس” في “قمة قادة مجموعة العشرين الاستثنائية” حول التطورات في أفغانستان وتداعياتها الاقتصادية والمالية والإنسانية. وأكد أن هناك واقع سياسي وجيوسياسي جديد في أفغانستان يجب على المجموعة مواجهته. ودعا حركة “طالبان” لتشكيل حكومة شاملة، وإبقاء قنوات الحوار مفتوحة، مع إتباع نهج تدريجي وصبر استراتيجي تجاه أفغانستان. وألمح أن بلاده تستضيف 5 ملايين لاجئ بينهم 3.6 سوري، ولا يمكنها تحمل عبء هجرة جديدة مصدرها أفغانستان.
-وفي نهاية ديسمبر 2021 أعلن وزير الخارجية التركية “مولود جاويش أوغلو” إن شركتين تركية وقطرية، وقّعتا مذكرة تفاهم بشأن إدارة 5 مطارات في أفغانستان بينهم مطار “حامد كرزاي” ولم تذكر المطارات الأربعة الأخرى. وقام وفد تركي بزيارة الدوحة لبحث الترتيبات اللوجيستية تمهيدًا لتوقيع اتفاق ثلاثي بين أنقرة والدوحة وحركة “طالبان” لإدارة المطارات الخمس، ورغم عدم تأكيد الأخبار من قبل الحركة، أو تحديد موعد لتوقيع تلك الاتفاقية إلا أن الإعلان التركي نفسه يؤكد إصرار أنقرة على إدارة مطار كابول ليصبح مدخلا لإعادة تموضعها في أفغانستان وتكييف تواجدها سياسيا واقتصاديا وعسكريا بناء على المتغيرات الجديدة بعد سيطرة حركة “طالبان” على الحكم. وجدير بالذكر أن حركة “طالبان” لا تملك أي قدرات لوجستية لإدارة المطار وتوفير الخدمات به مما أدى لإغلاق المطار لأكثر من أسبوع بعد سيطرتها عليه في منتصف أغسطس 2021، وقامت قطر بإرسال وفد تقني لكابول في مطلع سبتمبر الماضي لإدارة المطار وتدريب العناصر الأفغانية على تشغيله. وقد كشف وزير الخارجية القطري الشيخ “محمد بن عبدالرحمن آل ثاني” يوم 5 أكتوبر 2021 عن وجود دعم تقني تركي لإعادة تشغيل مطار “كابول”. وهذا الاقتراح يحظى بترحيب دولي حيث سبق أن وافق “الناتو” على مقترح إشراف تركيا وقطر على مطار كابول. وجدير بالذكر أن دولة الإمارات العربية المتحدة أيضاً طرحت على حركة “طالبان” إدارة مطار كابول، وربما يتم إدارة المطار عبر اتفاق ثلاثي بين تركيا وقطر والإمارات بعد المصالحة والتقارب بينهم الذي حدث خلال عام 2021.
2-تواصل أنقرة مع “طالبان”:
رغم عدم اعتراف تركيا رسميا بحركة “طالبان” وبشرعية حكمها لأفغانستان، إلا أنها فتحت قنوات تواصل مستمر مع الحركة، فقد كانت تركيا هي الدولة الوحيدة بحلف “الناتو” التي لم تغلق سفارتها بكابول بعد الإنسحاب الأمريكي، وكشف “أردوغان” عن عقد أول لقاء بين مسؤولين أتراك وعناصر من حركة “طالبان”، استمر لمدة 3.5 ساعة في 28 أغسطس 2021. ثم عقد السفير التركي “جهاد أرجيناي” بأفغانستان لقاءات متعددة مع نائب وزير خارجية “طالبان” “أمير متقي” وأكد على دعم تركيا المستمر لبلاده، واستعدادها للمساهمة في مشروعات “إعادة الإعمار”. وقد قدمت تركيا العديد من المساعدات الإنسانية لأفغانستان منذ سيطرة حركة “طالبان” على الحكم، حيث قدم الهلال الأحمر التركي قدم 33 طنا من المساعدات الإنسانية أوصلها إلى أفغانستان عن طريق باكستان.
-وأعلن “أردوغان” عن أمله في توقيع اتفاقية تعاون أمني مع “طالبان” مثل الموقعة سابقا بين أنقرة وحكومة الوفاق الوطني الليبية في 27 نوفمبر 2019 ، وهي الاتفاقية التي حددت ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا وشرعنت التواجد العسكري والاقتصادي التركي بليبيا من خلال مذكرات تفاهم وتعاون مشترك، وقد اعترضت عليها آنذاك دول شرق المتوسط (اليونان، قبرص، مصر) لأنها تمثل تعدي على سواحلهم الإقليمية. وحال نجح “أردوغان” في توقيع اتفاق مماثل مع “طالبان” وبالطبع لن يشمل ترسيم الحدود لعدم وجود اتصال جغرافي بري أو بحري بين تركيا وأفغانستان إلا أن الاتفاق سيشمل كافة أشكال التعاون المستقبلي بين الحركة وأنقرة وستعمل الأخرى لتصبح الممر البري للتجارة من والي أفغانستان لأنها دولة حبيسة. مما سيؤدي لتعزيز النفوذ التركي في آسيا الوسطى.
-كما استقبلت تركيا يوم 15 أكتوبر 2021 وفد من حركة “طالبان” لتصبح أول دولة بحلف “الناتو” تستقبل وفود من الحركة المصنفة من قبل الحلف ودوله الـ (28) “منظمة إرهابية”، وقد ضم وفد “طالبان” الذي استقبلته أنقرة 31 عضو بينهم 18 مصنفين بقائمة الأمم المتحدة للإرهاب. وقد ترأس الوفد نائب وزير الخارجية بالحركة وخصصت طائرة تركية لنقل الوفد ذهابًا وإيابًا. وأجرى مباحثات مع وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”. ودعا الأخير الحركة لتشكيل حكومة شاملة، وأكد “أوغلو” أن أنقرة أبلغت المجتمع الدولي بأهمية الانخراط مع إدارة “طالبان” الحالية دون الاعتراف بها.
ورغم رفض حركة “طالبان” لأى تواجد عسكري تركي في أفغانستان، إلا أنها رحبت بالتواصل مع أنقرة بل وسعت له لكسر العزلة الدولية المفروضة عليها حيث ترفض أي دولة الاعتراف بشرعية حكمها لأفغانستان لأنها لم تأتي بأي انتخابات أو إطار سياسي قانوني. وقد أوضح المتحدث باسم الحركة “تركيا دولة مهمة في العالم، والشعب التركي مسلم وشقيق وعلاقتنا علاقات تاريخية واجتماعية وثقافية، وهناك أصلان في علاقتنا، الأصل الأول هو أصول الدين الإسلامي، والثاني هو المنافع العليا للبلد وللشعب، فلأجل هذين الأصلين نريد علاقات طيبة وبناءة وإيجابية وبالأخص مع تركيا فليس لدينا مشكلة معها”. ويبدو أن “طالبان” توافق على قيام تركيا بدور اقتصادي تنموي في مستقبل أفغانستان، ويرجع ذلك لرغبتها في الحفاظ على العلاقات مع جهات دولية، كما أن الموقف التركي منها كان “مرن” للغاية ولم يسعى للإصطدام بها في أي مرحلة.
3-تقارب إيديولوجي بين “أردوغان” و”طالبان”:
يوظف “أردوغان” البعد الإيديولوجي للتقارب مع حركة “طالبان” حيث يذكر دوما أن الإمبراطورية العثمانية حكمت أفغانستان لعدة قرون مما يجعل هناك تاريخ مشترك بينهم، كما يروج إلى أن تركيا هي الدولة الأقرب للحركة لاعتناقها الدين الإسلامي، وفي خطاب ألقاه في يوليو الماضي أشار “أردوغان” إلى “عدم وجود أي مشكلة أيديولوجية” مع الحركة. متجاهلا تصنيفها منظمة إرهابية وسياساتها العدائية ضد مكونات المجتمع الأفغاني منذ توليها الحكم قبل 4 أشهر. كما أشاد “أردوغان” بمنظمة التعاون الإسلامي التي عقدت يوم 19 ديسمبر 2021 اجتماع استثنائي لبحث دعم “أفغانستان، وقررت إنشاء صندوق ائتماني لأفغانستان، من أجل معالجة أزمتها الاقتصادية المتفاقمة، وتسعى أنقرة لإدارة هذا الصندوق والاستفادة من المشروعات الإعمارية التي سيتم إنشاؤها بالبلاد.
وقد نشر عدد كبير من الكتاب والصحفيين الأتراك المقربين من “أردوغان” رسائل تدافع عن حركة “طالبان” في كتاباتهم ومقالاتهم اليومية بوسائل الإعلام التركية المسموعة والمقروءة ومنهم الصحفي “مصطفى أوزجان” حيث وصف مناهضة “طالبان” بأنها “عداء للدين الإسلامي” – ووصف البروفيسور “خيرالدين كرمان” “دخول “طالبان” إلى كابول بـ”دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة”، وأعلن مستشاري الرئيس التركي “ياسين أقطاي” “أن اتهام طالبان بالإرهاب افتراء”.
وهو ما توافق مع رؤية الحركة لدور تركيا الإسلامي، حيث ترى أن النموذج التركي في الحكم من خلال “الإسلام المعتدل” قابل للتطبيق في أفغانستان. وأكد المتحدث باسمها أكثر من مرة “إن طالبان تتوقع علاقات جيدة مع تركيا لأنها تسعى إلى التكيف مع النظام العالمي، وأن تركيا دولة شقيقة إسلامية عظيمة”. كما قال عضو لجنة طالبان الثقافية(موازية لوزراة الثقافة) “عبد القهار بلكي” “إن الأتراك والأفغان مسلمون، علاوة على وجود تاريخ وثقافة مشتركة بين الطرفين، لذلك ترغب الحركة في التعاون مع تركيا”.
ثانيا: الدوافع التركية:
يسعى “أردوغان” لإستغلال الأزمة بأفغانستان لتحقيق طموحه في تعزيز تمدده ونفوذه الإقليمي بوسط آسيا ومستغلا في ذلك علاقاته التحالفية مع قطر وباكستان والدولتين لهما علاقات وثيقة مع حركة “طالبان”، كما أن تلك الأزمة تمثل فرصة “لأردوغان” لتحقيق رغبته في أن يصبح “زعيم العالم الإسلامي” عبر قيادة منظمة الدول التركية المسلمة، وتعزيز تحالفه مع دول جنوب شرق آسيا المسلمة مثل باكستان وماليزيا، كما أن تواجده سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا في أفغانستان سيحقق له العديد من المصالح والأهداف منها:
-التقارب مع إدارة “بايدن”: مضى عام على تولى الرئيس الأمريكي “جون بايدن” منصبه، ولم تحل أيا من الملفات الخلافات بين واشنطن وأنقرة، والتي تمثلت في .. سعى تركيا لإمتلاك منظومة الدفاع الصاروخي الروسي “إس – 400″، وتعليق واشنطن مشاركة أنقرة في برنامج تصنيع المقاتلة “إف – 35″، والدعم الأمريكي لأكراد سوريا ورفض واشنطن تسليم الداعية الإسلامي “فتح الله جولن” لأنقرة التي تتهمه بالتورط في الانقلاب العسكري عام 2016 بتركيا. فضلا عن انتقادات واشنطن للانتهاكات التركية بحقوق كل من اليونان وقبرص في غاز شرق المتوسط والتي أدت لفرض عقوبات أمريكية وأوروبية على أنقرة. ولذا يرغب “أردوغان” في إيجاد ملفات تعاونية مع واشنطن لموازنة القضايا الخلافية بين الجانبين، فهو يسعى للعمل كوكيل لواشنطن لإدارة الملف الأفغاني بكل تحدياته السياسية والأمنية وتعقيداته الإقليمية، وهذا أيضا سيعزز مكانة تركيا داخل حلف “الناتو” الذي يرفض امتلاكها أسلحة روسية حديثة.
-التنافس الإقليمي: لاجدال أن هناك تنسيق مستمر بين موسكو وأنقرة فيما يتعلق بالملفات السورية والليبية والوضع بأذربيجان، وقد اهتمت موسكو كثيرا بالملف الأفغاني منذ انسحاب العسكري الأمريكي، ويسعى “أردوغان” ونظيره الروسي “فلاديمير بوتين”، لاستنساخ ذلك التنسيق في الملف الأفغاني نظر لأنه يتشابه الى حد كبير مع الملفات السابقة، فحالة “اللادولة” التي تمر بها كابول يمكن أن تستمر طويلا مما سيؤثر على الأمن الإقليمي بوسط آسيا. ولذا تخطط تركيا وروسيا للتواجد على خريطة النفوذ الأفغانية، وإدارة الوضع داخلها وخارجها وهناك عدد من القضايا التي تحتاج للتنسيق بينهم ومنها .. منع تحول أفغانستان لبؤرة للجماعات الإرهابية لأن ذلك سيهدد دول المنطقة والشرق الأوسط الذي سينتقل إليه تلك الجماعات كما حدث سابقا مع تنظيم “القاعدة”. مكافحة تهريب المخدرات، الحفاظ على وضع الأقليات وحقوق الانسان والمرأة. وبالطبع لن تترك الصين روسيا وتركيا على حدودها دون تقاسم النفوذ معهم وهو ما بدأت إرهاصاته الأولى بعد استقبال بكين وفد من حركة “طالبان” لبحث سبل دعم الحركة. وكذلك الهند التي عقدت مؤتمر إقليمي للوضع في أفغانستان.
-توظيف الأقليات الأفغانية: تسعى أنقرة لتوظيف الأقليات الأفغانية القريبة منها مثل (الأوزبك، التركمان)، وكذلك نسجت علاقات مع الداخل الأفغاني ببعض الشخصيات السياسية النافذة التي يطلق عليها “أمراء الحرب” خاصة من أقلية الأوزبك ومنهم زعيم الحزب الإسلامي (ممثل للإخوان المسلمين) “قلب الدين حكمتيار”، ونائب الرئيس الأفغاني السابق “عبدالرشيد دستم” والذي تلقى العلاج وبقى بتركيا لمدة عامين ثم غادرها لأفغانستان في 6 أغسطس 2021. وستقوم أنقرة باستخدام تلك العلاقات فيما بعد كسلاح ذو حدين، حيث حال اختلفت أنقرة مع حركة “طالبان” سيتم استخدام تلك الأقليات لإثارة المشكلات مع الحركة والضغط عليها لتحقيق مصالح أنقرة في أفغانستان، وحال اتفقت أنقرة مع الحركة ستقوم الأخيرة بحث تلك الأقليات على التقارب مع “طالبان” وإنهاء أي مشكلات بينهم. وجدير بالذكر، أن أنقرة اعترضت على التشكيلة الحكومية التي أعلنتها الحركة في 7 سبتمبر الماضي، لأنها لم تشمل أي عضو من عرقيات (التركمان، الطاجيك، والأوزبك) التي تمثل العرقيات القريبة للعرق التتاري التركي. وقد أحيت أنقرة علاقاتها مع تلك الأقليات بهدف تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى. وطالبت تركيا بضم حركة “طالبان” بضم شخصيات تركية من الأقلية الأوزبكية أو التركمانية إلى الحكومة الجديدة.
-توسيع منظمة “الدول التركية”: تسعى أنقرة لضم أفغانستان لدول “العالم التركي” لاسيما وأن هناك بعض الأقليات الأفغانية القريبة أثنيًا ولغويًا من العرق التتاري الذي يندرج منه الأتراك، وسبق “لأغلو” أن أشار “لوجود الملايين من العرق التركي في أفغانستان”. ودول “العالم التركي” منضوية في “منظمة الدول التركية” التي أعلن عنها في 14 نوفمبر 2021 وتضم دول الجوار الأفغاني بآسيا الوسطى (أذربيجان، كازاخستان، قرغيزستان، أوزبكستان)، وتحتذى تركمنستان والمجر بصفة مراقب. وهذا سيعزز مكانة المنظمة إقليميًا ودوليًا ومكانة تركيا باعتبارها قائدة تلك الدول.
-معالجة ملف الهجرة: منذ بدء الأزمة الأفغانية يفر ألف أفغاني إلى تركيا يوميًا في شكل هجرة غير شرعية، وهو ما انتقدته المعارضة التركية وأكدت أن أنقرة تتهاون في منع اللاجئين الأفغان من دخول البلاد، كما تتخوف منه دول الاتحاد الأوروبي التي تخشى تصاعد موجات الهجرة إليها، وهذا ما يستخدمه “أردوغان” للضغط على الاتحاد لإبرام اتفاق جديد للهجرة كاتفاق عام 2016 الذي تقوم أنقرة بموجبه بمنع المهاجرين من عبور الحدود الأوروبية. وفي مسعى منه لاتخاذ خطوات لمنع الهجرة أعلن “أردوغان” عن بناء جدار ضخم محاطًا بأسلاك شائكة، على طول الحدود التركية الإيرانية البالغة 295 كم، لمنع تسلل اللاجئين وتشديد الرقابة الأمنية عليه. جدير بالذكر أن هذا الجدار يضم عدة خنادق بعرض وعمق 4 أمتار. فضلا عن إضافة 58 برج مراقبة و45 برج اتصالات لمراقبة الحدود.
-فتح أسواق للاقتصاد التركي المتأزم: يبلغ عدد سكان أفغانستان نحو 38 مليون نسمة في حاجة لكافة متطلبات الحياة بعد توقف اقتصاد البلاد وفقدان “طالبان” الكوادر الاقتصادية التي تديرها، وهذا يؤدي لفتح أسواق جديدة للخدمات والسلع والمنتجات التركية، فضلا عن أن الوضع الجديد سيوفر فرصة لترويج المنتجات الدفاعية التركية، وخاصة الطائرات بدون طيار التركية من طراز “بيرقدار”. كما أن أنقرة تخطط للاستفادة في أفغانستان كممر بينها وبين شرق وجنوب شرق آسيا، حيث ستشارك تركيا في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، كما سيمكنها وجودها القوي في أفغانستان من فتح ممرات استراتيجية جديدة للوصول إلى دول العالم التركي في آسيا الوسطى بعيدا عن الطرق التي تتحكم فيها روسيا وإيران.
-تخفيف التوتر بسوريا وليبيا: شهد عام 2021 تراجعًا بالاهتمام بالملف السوري لصالح الوضع بأفغانستان، بيد أن ذلك لم ينهي الأزمة فخلال العام قامت تركيا بإعادة تموضع قواتها بشمال سوريا ونقلت الآلاف من المرتزقة إلى ليبيا، وسحبت بعضهم لأذربيجان. وتتفاوض سرا مع واشنطن لوقف الدعم المقدم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”. كما تتفاوض مع موسكو حول الوضع بإدلب شمال سوريا التي تضم الآلاف من العناصر الإرهابية تحت حماية تركيا بينما تسعى دمشق لاستعادة السيطرة العسكرية على المدينة مما ينذر بمواجهة عسكرية مؤجلة بين الجماعات الإرهابية وقوات “الجيش السوري الحر” المدعومين من قبل تركيا والجيش السوري. وقد كشفت أحد التقارير الغربية أن “أردوغان” سيقوم بنقل 15 ألف من المرتزقة السوريين من ليبيا لأفغانستان، للتخلص منهم فهم عناصر غير مرغوب بها في الدولتين. مما سيعيد أفغانستان مرة اخرى بؤرة للجماعات والتنظيمات الإرهابية. وحال عززت أنقرة تواجدها في أفغانستان وآسيا الوسطى فإنها ستقلص نفوذها بسوريا وليبيا، كما يمكن الضغط عليها ومساومتها من قبل موسكو وواشنطن، لان تركيا لن تتمكن من الحفاظ على الانتشار العسكري والنفوذ السياسي بذات القوة في منطقتين استراتيجيتين هما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
مما سبق نستخلص، أن “أردوغان” يرغب في تطبيق التجربة التركية في الصومال على أفغانستان من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية والتنموية وإدارة المطار ثم استقطاب قوى محلية داخلية للحفاظ على المصالح التركية، وحركة “طالبان” ربما تمنح له هذه الفرصة لتخفيف من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وإهمال المجتمع الدولي لها. مما سيدفع الحركة للتجاوب معها ويعزز النفوذ التركي بآسيا الوسطى ويشعل التنافس مع القوى الإقليمية بالمنطقة كروسيا تحديدا والصين والهند.
—–
*باحثة في العلاقات الدولية والشأن التركي