بقلم: عثمان أقجا
القاهرة (زمان التركية) – في اليوم الأول لزواج والدي صنعت والدتي شوربة الأرز بالزبادي والمحشي والأرز للغداء، وكانت وقتها صغيرةً، قليلةَ الخبرة. فهم والدي ذلك ولم يبد شيئاً فأكل الطعام وشكر صنيعها ولم يخبرها أن كل ما صنعت كان مكونه الرئيس هو الأرز حتى لا يكسر بخاطرها. لقد كان ينوي القيام لولا أنها قالت له: “مهلاً مهلاً، لا تقم! سأحضر الحلوى لقد وضعتها بالثلاجة.” فقفزت من مكانها مسرعة لتحضر الحلوى، وعندما أتت كانت المفاجأة، إنه أرز باللبن!
لم يتمالك والدي نفسه وأخذ يضحك، طبعاً تعجبت فهي لا تعرف سبب تلك الضحكات المستمرة. ثم سألته لماذا تضحك؟ ولكن ما استطاع أبي أن يجيبها من نوبة الضحك التي ألمت به، فأخذت تضحك لضحك أبي ولم يقطع هذا المشهد إلا دخول جدتي عليهم، وتساءلت: “علام تضحكون؟” فأجابها والدي: “لا شيء أماه إننا نمزح فقط.” ولم يكن جواب جدتي سوى أنها قالت: “لا يصح للعروس أن تضحك هكذا فاغرة فاها، هذا عيب.” ثم انصرفت. وكانت العادات والتقاليد في القرى حينئذ شديدة جداً.
شعرت والدتي بصدمة وتسلل الحزن إلى قلبها فانطلقت مهرولة إلى غرفتها وبدأت تبكي. انطلق والدي وراءها ودخل الغرفة وجلس بجوارها وقال لها مسلياً: “لا تحزني، اضحكي كما تشائين. فعندما تبتسمين تتفتح الورود على خديك وأنا أعشق غمازتك التي تظهر جلية عندما تضحكين.” فتح أبي يده فإذا بحفنة من حبات الأرز التي طبختها أمي، ملتصقة بعضها ببعض. وقال لها: “حبات الأرز تلك قدرنا، فسنكون نحن مثلها إلى الأبد. وأمضى أبي هذه الليلة كئيباً يعتصره الحزن مما حدث، وقرر أن ينتقل بوالدتي إلى بيت جديد. إنه البيت الذي ولدنا فيه.
ترعرعنا في هذا العش السعيد، وتزوجنا واحداً تلو الأخر، وطرنا منه منطلقين في الحياة. ومرت السنون وصار والدي شيخاً. وفي يوم من الأيام مرض أبي مرضاً شديداً وانتقل على إثره إلى المستشفى وبعدها علمنا أنه أصيب بسرطان الرئة. فإذا هو طريح الفراش في غرفة العناية المركزة، وبعد فترة أخذوه إلى إحدى الغرف فتح عينيه فوجد أمي جالسة بجواره ممسكة بيده، وعلى ثغرها ابتسامة وعينها تذرف الدموع.
طالت أيام أبي بالمشفى فمن غرفة عمليات إلى أخرى إلى جانب العلاج الكيميائي، ذاك الرجل الذي كان ضخم الجثة، قوي البنية، جليل الطلعة، فقد نحل جسمه وخف وزنه، وسقط شعره، استنزف العلاج الكيميائي قوته، وذاب كما يذوب الجليد، فقد تمكن منه السرطان. كان يعاني آلاماً عدة ووالدتي تلازمه في تلك المحنة العظيمة ولكنه ما إن ينظر إليها إلا وتلقاه بوجه مبتسم وتخفي حزنها العميق داخل قلبها قائلة له: هل من شيء تشتهيه أصنعه لك؟
فأجابها بحنين الماضي وكأنه طفل يلتمس السلوان من والدته بخجل: بلى، أريد أن أحتسي الشربة.. هلا صنعتِ لي شربة الأرز بالزبادي؟
وينادي الطبيب علينا خارج الغرفة ليعلمنا بلامبالاة أنباءًا تمزّق أرواحَنا وقلوبنا، قائلاً: هذه أيامه الأخيرة.. أعتقد أنه من الأفضل أن يقضي أيامه تلك في البيت مع أسرته.
أمي عاشت الذهول خلال فترة، وبعدها أفاقت، تتمالك نفسها بصعوبة، دخلت إلى والدي واقتربت منه قائلة: “لا تقلق! سنأخذك إلى البيت، اليوم. وستتحسن وستكون بخير.. يجيبها وقد أرهقه الألم: لا أريد أن أثقل عليكِ أكثر من ذلك، الموت أحسن لي من أن أبقى هكذا.
من بين التجاعيد تظهر آلام أمي بكل وضوح فتجيبه: “ماذا تقول يا رجل؟ هل تعي ما تقول؟! إن رجلاً قوياً مثلك لا يليق به أن يستسلم بكل هذه السهولة، سنذهب الآن إلى البيت وسأصنع لك الشربة التي طلبت.”
بعدما عدنا إلى البيت قضى أبي بضعة أيام وصنعت والدتي شربة الأرز بالزبادي، بعدما احتسى منها ملعقة أو ملعقتين أغمي عليه فسارعنا لنقله إلى المشفى ولكن دون جدوى فقد قضى نحبه في الطريق.
وفي المستشفى سلمونا ملابسه ومحفظته التي كان يحملها دائماً في جيبه، جلستُ في فناء المشفى فتحت المحفظة طالعتني صورته وهو شاب فذكرتني بأيام طفولتي وقتما كان والدي يأخذنا للنزهة فيلعب معنا.. فبكيت، ثم وجدت في المحفظة كيساً صغيراً فتحته فإذا فيه حبات أرز، ثم تساءلت قائلاً: “لماذا كان يحمل أبي كيساً صغيراً مثل هذا بمحفظته يا ترى؟”
بعد أن أتممنا مراسم الدفن جلسنا في المطبخ مع أمي، تحلقنا حول مائدة الطعام. بدأت أمي تقص علينا قصة أول يوم بعد زواجها، انطلقت تستعيد ذكريات ذلك اليوم. وكيف وهي العروس الجديدة طبخت شوربة الأرز بالزبادي والمحشي والأرز باللبن …
فقط حينها فهمت لماذا كان أبي يحمل هذا الكيس في محفظته، أسرعت إلى غرفتي لأحضر المحفظة فأخرجت منها الكيس وضعته أمامهم فنظر بعضهم إلى بعض كأن الحزن ملأ المكان كله فبكى الجميع..
عثمان أقجا