برلين (زمان التركية) – كان الجميع في تركيا يشعر بالفخر بما حققته حكومة أردوغان على مدار سنوات عديدة، فقد شهد الاقتصاد نموا كبيرا شعر به المواطن التركي. بينما كان هذا هو المشهد داخليا، كانت على الصعيد الخارجي تنظر دول الشرق الأوسط إلى تركيا باعتبارها نموذجا يحتذى به.
لكن كل هذه التصورات بدأت تسقط واحدة تلو أخرى خارجيا بداية من عام 2011، مع اندلاع ثورات الربيع العربي وتدخلات الرئيس أردوغان الفجة في الشؤون العربية، وداخليا بداية من ديسمبر 2013، حيث استيقظ الأتراك على خبر أكبر عملية فساد في تاريخ الجمهورية، وكان المشتبه بهم 50 شخصا، بينهم أربعة وزراء من حزب العدالة والتنمية الحاكم وأبنائهم، ورجال ِأعمال مقربين من الحزب الحاكم، بينهم الإيراني رضا ضراب، الذي اتضح لاحقا أنه كان شخصية مركزية في الفساد وغسيل الأموال وتوزيع الرشاوى داخل تركيا، بالتعاون مع كبار رجال الدولة والقصر.
كانت هناك أدلة خطيرة تشير إلى أن الفساد تغلغل داخل الحكومة، وكانت التحقيقات تتم بصورة جدية للكشف عن تلك العصابة التي تقود شبكات الفساد المالي.
في 17 ديسمبر 2013 ألقت الشرطة القبض على بعض من المشتبه بهم متلبسين وبحوزتهم مئات الآلاف من الدولارات مكدسة داخل علب الأحذية وخزائنِ وآلات عد النقود. وجهت النيابة العامة اتهامًا مباشرًا لثلاثة من وزراء حكومة أردوغان بتلقي رشاوى مالية تقدر بـ250 مليون ليرة تركية. وكانت الأدلة لا يمكن إنكارها أو التستر عليها، ما ترك المواطن التركي في حالة من الذهول، وانتظار انتهاء التحقيقات للاطلاع على كامل ملابسات الفساد وأبعاده ومبالغه.
لكن الأمور لم تسر على النحو الطبيعي، فقد خرج رئيس الوزراء آنذاك، الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان واصفا تلك التحقيقات التي قامت بها الشرطة بالتنسيق مع الادعاء العام بأنها “انقلاب قضائي”، ووجه الاتهام إلى المدعي العام والشرطة وكلِّ من شارك في هذه التحقيقات، وتوعدهم بالفصل والاعتقال وإحباط “الانقلاب القضائي” المزعوم.
كل هذه التحقيقات التي أجريت بالتنسيق بين الشرطة والادعاء العام كانت تشير إلى أن شبكة الفساد تلك يقودها رضا ضراب وتتم عبر بنك خلق الحكومي، حيث تشير التقارير إلى أن أموالا تقدر بـ15 مليار دولار تم تحويلها إلى كل من الصين وإيران بشكل غير قانوني.
المسؤولون في حكومة أردوغان الذين تورطوا في فضائح الفساد آنذاك، هم: وزير الاقتصاد آنذاك ظفر جاغليان، ووزير الداخلية السابق معمر جولر، ووزير الاتحاد الأوروبي السابق أجامان باغيش، ووزير البئية السابق أردوغان بايراقدار، والمدير العام لبنك خلق التركي سليمان أصلان، إضافة إلى بعض أبناء الوزراء مثل نجلِ وزير الاقتصاد جان جاغلايان، ونجل وزير الداخلية السابق باريش جولر. لقد كانت هذه هي أهم الأسماء الموجودة داخل شبكة الفساد تلك، إلا أنه بالتأكيد لو لم يتدخل أردوغان في التحقيقات مع المتهمين لانكشفت أسماء أخرى.
تحقيقات 2013 انطلقت بعد 6 سنوات من البحث والتدقيق من قبل الشرطة. وترجع بداية التحقيقيات إلى عام 2008 حيث ظهر اسم رضا ضراب لأول مرة في تحقيقات الفساد المالي، حيث رصدت الشرطة شبهات تدور حول الرجل، إلى أن تحول هذا التحقيق إلى قضية في عام 2012، ورغم أن عددا من عناصر الشرطة كانوا يقومون بعملهم في سرية إلا أن وزير الداخلية الأسبق معمر جولر وصله علم بالتحقيقات الجارية، ما دفع الادعاء العام إلى تقديم تاريخ العملية والقيام بعملية استباقية للقبض على بعض المشتبه بهم قبل هروبهم.
ورغم أن أردوغان أمر بإيقاف التحقيقات والقبضِ على المشاركين بها ومحاكمتهم، إلا أن القدر شاء أن يعترف رضا ضراب بعد القبض عليه في الولايات المتحدة بالكيفية التي كانت تتبعها شبكة الفساد المالي في تركيا، وذلك بعد عدة سنوات من إغلاق التحقيقات في تركيا، حيث كشف عن رشاوى بقيمة 10 مليارات دولار تلقاها من مسؤولين أتراك، وأعلن أن تلك الشبكة اعتمدت طريقتين في تهريب الأموال الأولى من خلال وضع النقود في حقائب، وذلك حتى عام 2011 حيث تم القبض على سعاةٍ يحاولون تهريب مبلغ قدره 150 مليون دولار بشكل غير قانوني إلى روسيا، وعندما تم القبض على هؤلاء السعاة غيرت تلك الشبكة أساليبها، وانتقلت إلى استخدام بنك خلق التركي الذي قام بتحويل مبالغ مالية ضخمة إلى إيران بصورة غير قانونية، وذلك بأوامر ظافر جاغلايان وزير الاقتصاد الأسبق. وقد اعترف رضا ضراب في محاكمته بأن وزير الاقتصاد كان يتلقى رشوة عبارة عن عمولة مقدارها 3-4% لكل ألف، وكان يتم خصم الرشاوى المقدمة للمدير العام السابق لبنك خلق من حساب وزير الاقتصاد السابق.
بالنسبة لهذه الشبكة الإجرامية كان بنك خلق التركي يتميز بأمر في غاية الأهمية، وهو أنه لا توجد له أية فروع في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لم يخضع للمراقبة ولم يتم وضعه في القائمة السوداء من قبل السلطات الأمريكية، هذا بالطبع قبل أن يعترف رضا ضراب بكل شيء أمام المحكمة الأمريكية مقابل الحصول على الحماية، وقد حاول أردوغان التدخل لوقف هذه المحاكمة في الولايات المتحدة إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
وبينما كانت إيران توزع الرشاوى على المسؤولين الأتراك لتحويل ملايين الدولارات إلى طهران، من خلال مواطنها الحاصل على الجنسية التركية رضا ضراب، كانت الحكومة التركية تخسر في المقابل ضرائب هائلة بسبب كون تلك العمليات غير قانونية.
وتشير الأدلة التي قدمها رضا ضراب أن وزير الاقتصاد السابق ظافر جاغلايان قد تلقى منه رشاوى مالية تقدر بـ36 مليون يورو، و3.5 ملايين دولار، و4 ملايين ليرة تركية، بالإضافة إلى المجوهرات والساعات الفاخرة التي كانت تقدَّم كرشاوى لأشخاص مختلفين بقيمة 5 ملايين دولار.
أما حصة وزير الداخلية السابق من الرشاوى فكانت تقدر 12 مليون ليرة، بينما وزير شؤون الاتحاد الأوروبي السابق فقد اتهم بأنه تلقى رشوة قدرها 3 ملايين ليرة تركية، لكن كافأه حزب العدالة والتنمية بترقيته ليصبح سفيرا. وكانت معلومات ذكرت أن زوجة الوزير هددت أردوغان بالكشف عن كل شيء، لذلك قام بتعيينه سفيرا لتركيا لدى براغ.
أما أحد أهم التروس التي كانت تدور عليها عملية الفساد تلك فهو الرئيس السابق لبنك خلق التركي، وقد تمت مكافأته برشوة قدرها 16 مليون ليرة سلمها له رضا ضراب بنفسه، وهو من الذين خضعوا للمحاكمة في الولايات المتحدة في إطار قضية خرق العقوبات المالية على إيران. بالطبع من المفترض أن التحقيقات كانت ستكشف عن أرقام أكبر من المعلنة لو استكملت الشرطة تحقيقاتها بشكل طبيعي.
وقد اعترف الإيراني ضراب أن أردوغان هو الشخصية الرئيسية في شبكتهم، وبأن كل شيء تم بأوامر صادرة عنه، وأن ابنه بلال هو الآخر متورط في ذلك الفساد.
في صبيحة يوم 17 ديسمبر 2013 اتصل رجب طيب أردوغان بابنه وأجرى معه مكالمته الشهيرة التي أمره فيها قائلا: “صفّر كل شيء”.
حديث أردوغان في المكالمة المسربة، كان إشارة واضحة على تورطه وابنه في الفساد، وأكثر ما يدل على ذلك هو سعي أردوغان بنفسه، ومن خلال زوج ابنته، إلى التدخل لوقف المحاكمة الأمريكية لرضا ضراب.
الاعترافات التي أدلى بها مؤخرا الوزير التركي الأسبق أردوغان بايراقدار بعد ثماني سنوات من فضيحة ملفات الفساد والرشوة بأنه أساء استخدام منصبه، وأن أدلة الاتهامات الموجهة له صحيحة، هزت الشارع السياسي في تركيا، وتطالب المعارضة حاليا بإعادة التحقيق في القضايا نظرا لظهور اعترافات تعد بمثابة أدلة جديدة.
بعد ثمانية أعوام من الصمت، عاد وزير البيئة والتخطيط العمراني السابق، أردوغان بايراقدار (2011 – 2013)، إلى الحديث عن فضائح الفساد الكبرى في عام 2013، والتي تلقى فيها أردوغان وأسرتُه، وعددٌ من الوزراء وقياداتُ حزب العدالة والتنمية وأسرُهم، رشاوى بملايين الدولارات والليرات من رجل الأعمال الإيراني المقيم في تركيا، رضا ، لتسهيل استخدامه النظام المالي التركي في خرق العقوبات الأمريكية على إيران.
بايراقدار الذي تحدّى أردوغان حين أطاح له ككبش فداء، مع ثلاثة وزراء آخرين، وطالبه بالاستقالة، لأنّ كلّ شيء حدث كان بعلمه، قبل أن يعتذر عن تصريحاته تحت ضغط أردوغان، عاد مؤخرا ليعلن أنّ “كلّ الأدلة التي سجلها الأمن ضدّه صحيحة”، وهو ما يعني أنّ أردوغان وكلَّ من وردت أسماؤهم في ملفات التحقيقات مذنبون مجرمون، في حين أنّ الآلاف من رجال الأمن والنيابة العامة، الذين انتقم أردوغان منهم بفصلهم واعتقالهم لكشفهم تلك الجرائم، أبرياء. وهو أمر معروف، لكن جاءت تصريحات وزير أردوغان السابق كضربة قاصمة للأخير، نظرًا لأن الأمر من قبيل: “وشهد شاهد من أهله”.
ونقلاً عن الحوار المسجل الذي نشره الصحفي ألطان سانجار في موقع “Diken” الإخباري، بعد موافقة بايراقدار، قال الوزير السابق، بخصوص اتهامات الفساد التي طالته في إطار قضية رضا عام 2013، وطالت كذلك نجله عبد الله أوغوز بايراقدار: “لم أعرف رضا زراب، ولم أرتكب سرقة في حياتي، لكن هناك إساءة استغلالٍ للسلطة حين كنت وزيراً، وجميع أدلة الاتّهام في ملفي من تسجيلات وأدلة تقنية صحيحةٌ، وجميعُ تسجيلات هاتفي صحيحة.. ولكن ليس لأحد الحق في اتهامي بالفساد أو تلقي الرشوة..”، على حد قوله.
وحول إقالته من قبل أردوغان، قال: “إنهم تخلصوا مني، بينما كنت أمارس وظيفتي بشكل طبيعي.. لقد جعلوني لصاً، وتخلصوا مني.. إنهم وضعوني في كيس اللصوص مع الوزراء الآخرين.. ولهذا أنا غاضب بشدة”.
وأضاف الوزير: “أردوغان جعلني الشخص الشرير، بل الشرير جداً أمام الجميع.. وأنا لا أقبل هذا. وقد أصبح أردوغان اليوم محاطاً بغير الأكفّاء، الذين لا يجرؤ أحد منهم على انتقاده”.
وفي معرض دفاعه عن نفسه، قال بياراقدار: “رغم أنّ نائب رئيس الوزراء السابق، جميل شيشك، لم يكن على وفاق معي، فقد طالب أردوغانَ بعدم وضع ملفي ضمن ملفات الوزراء الفاسدين، لأنّ ملفي مختلف عن ملفاتهم”.
وكان أردوغان بياراقدار خرج على شاشة قناة “NTV”في 2013 وقال موجهاً حديثه لرئيس وزراء تلك الفترة أردوغان: “من غير الممكن أن أقبل ممارسته الضغوط عليّ، وأرفض مطالبته لنا بالاستقالة وإصدار بيانات تبرّؤه، ذلك أنّ مخططات الإعمار الموجودة في ملف التحقيقات الجارية في إطار قضية الفساد، معظمها تم تنفيذها بتعليمات صادرة منه”.
ثم أعلن بايراقدار استقالته على الهواء من الوزارة والبرلمان وحزب العدالة والتنمية، وطالب أردوغان بالمثل، لكنه تراجع عن هذه الخطوة واعتذر بعد تلقيه تهديدات من رجال أردوغان، وفق ما كشفه في حديثه الأخير مع موقع “ديكان”.
ويقول المحلل السياسي التركي ياوز أجار: “أردوغان لا يفرض حالة القمع والخوف على المعارضة فقط، وإنما يوسع مجالها لتشمل القادة الحاليين والسابقين لحزبه، حتى لا يخرجوا عن الإطار المرسوم لهم، ويدلون بتصريحات “محرمة”؛ لذلك نرى أنّ كثيرين من قادة العدالة والتنمية يؤيدون خطوات أردوغان وإن أبت قلوبهم، خوفاً من عصاه أو طمعاً في جزره، ونادراً ما يخرج أشخاص عن هذا الإطار، كما في حالة الوزير بايراقدار.
وأردف أجار في حديثه لموقع “حفريات”: “وبالنسبة إلى الوزير بايراقدار، تقول مصادر مطلعة إنّه الوزير الأقل فساداً بين وزراء أردوغان، ونظراً لكونه من أهالي المنطقة الساحلية الشمالية في تركيا، فإنّ له أنفة وكرامة، ولا يرضى بأن يسيء إليه أحد؛ لذلك لما مارس أردوغان ضغوطاً عليه كي يستقيل ويدلي بتصريحات من شأنها أن تقوي يد أردوغان في مواجهة اتهامات الفساد، عام 2013، لم يرضخ إلا بعد تلقيه تهديدات، وبعد ثمانية أعوام، لمس بايراقدار تراجع مكانة أردوغان وشعبيته، حتى داخل قاعدته التقليدية، ولهذا وجد الشجاعة ليخرج بتصريحاته، التي تعدّ قنبلة في وجه أردوغان.
وتابع أجار حديثه: “هناك دوافع عديدة وراء ذلك، منها؛ أنّ قادة العدالة والتنمية من العقلاء والطبقة الراقية يرون أفول عهد أردوغان، ويريدون غلق صفحة ماضيهم الملطخ بالجرائم وبدء صفحة جديدة، وتسريع سقوط أردوغان، والثاني أنّهم يرون تردي مؤسسات الدولة ويريدون إنقاذها. إضافة إلى أن هناك قيادات في حزب أردوغان تشعر بالذنب للظلم الكبير الذي وقع على مئات الآلاف من أبناء الشعب بسبب استبداد أردوغان، ولهذا أعتقد أنّه برحيل أردوغان سيقدمون اعتذارات للضحايا.. خاصة ضحايا الانقلاب المدبر في 2016.
–