القاهرة (زمان التركية) – سلط تقرير أعده موقع (حفريات) الضوء على اعترافات الوزير التركي الأسبق أردوغان بياراقدار التي هزت الشارع السياسي مؤخرا في تركيا، وأعادت فضائح الفساد والرشوة عام 2013 المحرجة للرئيس رجب أردوغان إلى الواجهة مجددا.
فيما يلي نص تقرير “حفريات” من إعداد الكاتب الصحفي المصري حامد فتحي:
بعد ثمانية أعوام من الصمت، عاد وزير البيئة والتخطيط العمراني السابق، أردوغان بايراقدار (2011 – 2013)، إلى الحديث عن فضائح الفساد الكبرى في عام 2013، والتي تلقى فيها أردوغان وأسرته، وعدد من الوزراء وقيادات حزب العدالة والتنمية وأسرهم، رشاوى بملايين الدولارات والليرات من رجل الأعمال الإيراني المقيم في تركيا، رضا زراب، لتسهيل استخدامه النظام المالي التركي في خرق العقوبات الأمريكية على إيران.
بايراقدار الذي تحدّى أردوغان حين أطاحه ككبش فداء، مع ثلاثة وزراء آخرين، وطالبه بالاستقالة لأنّ كلّ شيء حدث كان بعلمه، قبل أن يعتذر عن تصريحاته تحت ضغط أردوغان، عاد من يومين ليعلن أنّ “كلّ الأدلة التي سجلها الأمن ضدّه صحيحة”، وهو ما يعني أنّ أردوغان وكلّ من وردت أسماؤهم مذنبون، وأنّ المئات من رجال الأمن والنيابة العامة، الذين انتقم منهم أردوغان بفصلهم واعتقالهم لكشفهم الجرائم، أبرياء، وهو أمر معروف، لكن جاءت تصريحات وزير أردوغان السابق كضربة قاصمة للأخير، عملاً بمقولة “وشهد شاهد من أهله”.
اعترافات وزير أردوغان
بدأت القصة بكتابة الوزير السابق، أردوغان بايراقدار، تدوينتين عبر حسابه الشخصي على تويتر، ينتقد فيهما أداء الحكومة التركية في قضايا تخصّ العمران والبيئة والتوظيف، بعد سنوات من الابتعاد عن السياسة، ما دفع الصحفي التركي، ألتان سانكار، إلى تذكير الوزير بموقف غير إنساني أقدم عليه عام 2013، حين اشتكت إليه امرأة مصابة بالسرطان من عدم قدرتها على شراء العلاج بسبب ارتفاع الأسعار، فوضع بياراقدار مبلغاً مالياً في جيبها وانصرف، دون الاستماع لشكواها التي تتعلق بمصير جميع المرضى، فغضبت السيدة من التعامل غير الإنساني معها، وتوفيت لاحقاً العام التالي.
وردّ الوزير على تعليق سانكار عنده، طالباً منه تزويده برقم هاتفه، وبعد ساعات اتصل به وأجرى معه حواراً، تطرق فيه الصحفي إلى موقفه من حكم أردوغان، وعرج إلى تحقيقات قضايا الفساد لعام 2013، والتي أُجبر الوزير على إثرها على الاستقالة من عضوية البرلمان، وأُقيل من الحكومة.
ونقلاً عن الحوار المسجل، والذي نشره الصحفي سانكار في موقع “Diken” الإخباري، بعد موافقة بايراقدار، قال الوزير السابق، بخصوص اتهامات الفساد التي طالته في إطار قضية “رضا زراب”، عام 2013، وطالت كذلك نجله عبد الله أوغوز بايراقدار: “لم أعرف رضا زراب، ولم أرتكب سرقة في حياتي، لكن هناك إساءة استغلال للسلطة حين كنت وزيراً، ولا يمكن لأحد أن يدعوني فاسداً أو مرتشياً”.
وتابع الوزير في حديثه نغمة اتّهام أردوغان بانتماء المدعي العام والمحققين لجماعة فتح الله غولن، وقال: “حتى المدعي العام التابع لمنظمة فتح الله غولن لم يستطع وضع تهمة الفساد والرشوة في ملفي، وإنما وضعني في قضية جامعة عن الفساد والرشوة”.
وأشار بياراقدار إلى أنّه حاول تخليص نفسه من التهم غير الصحيحة بحقه، لكنّه لم يكن قوياً لفعل ذلك، خوفاً من التعرض للقتل. وقال: “لا أعرف زراب، ولم أتلقَّ منه أموالاً، وجميع أدلة الاتّهام في ملفي؛ من تسجيلات وأدلة تقنية صحيحة، وجميع تسجيلات هاتفي صحيحة”.
وحول إقالة أردوغان له، قال: “تخلصوا مني، وكان هناك تعديل وزاري، لكن لم أغادر الوزارة، وبينما كنت أمارس وظيفتي بشكل طبيعي، جعلوني لصاً، وتخلصوا مني، ولهذا أنا غاضب بشدة”.
وأضاف: “أردوغان جعلني الشخص الشرير، بل الشرير جداً أمام الجميع، وأنا لا أقبل هذا، وأردوغان أصبح محاطاً بغير الأكفّاء، الذين لا يجرؤ أحد منهم على انتقاده”.
وفي معرض دفاعه عن نفسه، قال بياراقدار: “رغم أنّ نائب رئيس الوزراء السابق، جميل شيشك، لم يكن على وفاق معه، فقد طالب بعدم وضع ملفه ضمن ملفات الوزراء الفاسدين، لأنّه مختلف عنهم”.
تفاصيل جرائم الفساد
وتعود القضية إلى 17 كانون الأول (ديسمبر) 2013، حين داهمت قوات الأمن المكلفة بالتحقيق في عمليات الرشوة والفساد منزل كاغان جاغلايان، نجل وزير الاقتصاد ظافر جاغلايان، وبيت باريش جولز، نجل وزير الداخلية معمر جولز، ومقر بنك خلق، واعتقلت مديره وزوجته، وداهمت منزل رضار زراب، ورئيس بلدية فاتح في إسطنبول، مصطفى دمير، ومكتب عبد الله بايراقدار، نجل وزير البيئة والتخطيط العمراني أردوغان بايراقدار.
وعثرت الشرطة حينها على ملايين الدولارات والليرات مخبأة في صناديق أحذية في منازل المتهمين، وطالت التحقيقات 71 فرداً من عائلات ومسؤولين قياديين بحزب العدالة والتنمية، من بينهم أردوغان، ونجله بلال، وابنتيه سمية وإسراء، وصهره بيرات البراق، لكنّ أردوغان وأسرته لم يمثلوا للتحقيق.
وأمر المدعي العام بالقبض على 89 شخصاً، من بينهم أبناء وزراء ورجال أعمال، ومنهم رضا زراب، بتهمة إساءة استخدام السلطة والرشوة والاختلاس في المناقصات العامة والتهريب وتبييض الأموال.
ويقول الصحفي التركي، ياوز أجار، في كتابه “قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني”، والذي خصص فيه فصلاً تناول فيه وقائع التحقيقات وتفريغ المكالمات المسجلة بين أردوغان وأبنائه لإخفاء الأموال: “عدّ أردوغان قضية الفساد والرشوة عملية سياسة، تستهدف الإضرار بحكومته والاقتصاد التركي، بل وصفها بأنّها محاولة انقلاب يقف وراءها ما أسماه “الكيان الموازي”، قاصداً به حركة الخدمة؛ لذلك لم يتردد في اتخاذ تدابير استثنائية لتبرئة المتهمين وتخليصهم من قبضة السلطات الأمنية والقضائية”.
أردوغان ينتقم من الأمن
وعزل أردوغان ستة من مديري الأمن، بمن فيهم المشرفون على التحقيقات، وأجرى حركة تغييرات في صفوف القادة والموظفين الأمنيين، بدعوى أنّهم لم يعلموا قادتهم بهذه العمليات، ولم يعلِم المشرفون على التحقيق قادتهم بالعملية خشية تسرّب الخبر إلى الحكومة، التي من المؤكد كانت لتتدخل لحماية أردوغان ووزرائه.
وواجه أردوغان التحقيقات بعدة طرق، منها؛ التغييرات الكبرى في جهاز الأمن، وعزل أربعة وزراء بتهم الفساد، واتّهام حركة الخدمة بعد أن أطلق عليها “الكيان الموازي” بتدبير التحقيقات كانقلاب على حكومته، وشرع من هذه اللحظة في الحرب ضدّ حركة الخدمة، واستغلال ذلك في تصفية الكوادر في مؤسسات الدولة، واستبدالهم بموالين له.
وبعد إقالة الوزير أردوغان بياراقدار، خرج على شاشة قناة “NTV”، وقال موجهاً حديثه لرئيس الوزراء أردوغان: “من غير الممكن أن أقبل ممارسته الضغوط عليّ، ومطالبته لنا بالاستقالة وإصدار بيانات تبرّؤه، ذلك أنّ مخططات الإعمار الموجودة في ملف التحقيقات الجارية في إطار قضية الفساد، معظمها تم تنفيذها بتعليمات صادرة منه”.
وأعلن بياراقدار استقالته على الهواء من الوزارة والبرلمان وحزب العدالة والتنمية، وطالب أردوغان بالمثل، ثم تراجع واعتذر بعد تلقيه تهديدات من رجال أردوغان، وفق ما كشفه في حديثه الأخير مع موقع “ديكان”.
وفي 25 من الشهر نفسه، فتح المدعي العام، معمر أكاش، تحقيقات جديدة في قضايا فساد أكبر، واستدعى فيها بلال أردوغان، لكنّ التغييرات الجديدة التي أقرها أردوغان في جهاز الأمن آتت ثمارها، ولم ينفذ الأمن وقوات الدرك قرارات النيابة، وسُحب الملف من المدعي العام أكاش، وطرد أردوغان أعضاء من حزبه طالبوا بالتحقيق في جرائم الفساد، وبلغت حصيلة عزل ونقل أفراد الشرطة ألفي فرد، إضافة إلى تعيين ألف فرد من الموالين، ولم يكد ينتهي الشهر إلا بتفجير قضية فساد ثالثة، ومثلما حدث من قبل، لم تستجب قوات الأمن لأوامر القضاة، الذين عاقبهم أردوغان بفصل عدد منهم، حتى أحكم سيطرته على القضاء.
ورغم الانتقادات الأوروبية وحالة الجدل السياسي والإعلامي، والاحتجاجات الشعبية، إلا أنّ أردوغان استطاع إيقاف التحقيقات، وروج خطاباً عن الكيان الموازي داخل الدولة، وبدعم من جمهوره وإعلامه نجح في تجاوز فضائح الفساد، لكن جاءت تصريحات الوزير بياراقدار الأخيرة لتعيد اهتمام الرأي العام التركي بها.
بياراقدار .. لماذا الآن؟
وأثارت تصريحات الوزير السابق، أردوغان بياراقدار، تساؤلات عديدة، فالرجل الذي اعترف بعدم شجاعته من قبل، خرج بصراحة ليكشف أسراراً تتعلق بقضايا تهدد أردوغان وأسرته دون وجَل، ولا تفسير لذلك سوى أنّ الرجل لمس ضعفاً في سيطرة أردوغان على البلاد، وتنامي المعارضة لحكمه.
ويقول المحلل السياسي التركي، ياوز أجار؛ أردوغان لا يفرض حالة القمع والخوف على المعارضة فقط، وإنما يوسع مجالها لتشمل القادة الحاليين والسابقين لحزبه، حتى لا يخرجوا عن الإطار المرسوم لهم، ويدلون بتصريحات “محرمة”؛ لذلك نرى أنّ كثيرين من قادة العدالة والتنمية يؤيدون خطوات أردوغان، وإن أبت قلوبهم، خوفاً من عصاه، أو طمعاً في جزره، ونادراً ما يخرج أشخاص عن هذا الإطار، كما في حالة الوزير بايراقدار.
وأردف أجار في حديثه لـ”حفريات”: “وبالنسبة إلى الوزير بايراقدار، تقول مصادر مطلعة إنّه الوزير الأقل فساداً بين وزراء أردوغان، ونظراً لكونه من أهالي المنطقة الساحلية الشمالية في تركيا، فإنّ له أنفة وكرامة، ولا يرضى بأن يسيء إليه أحد؛ لذلك لما مارس أردوغان ضغوطاً عليه كي يستقيل ويدلي بتصريحات من شأنها أن تقوي يد أردوغان في مواجهة اتهامات الفساد، عام 2013، لم يرضخ إلا بعد تلقيه تهديدات، وبعد ثمانية أعوام، لمس بياراقدار تراجع مكانة أردوغان وشعبيته، حتى داخل قاعدته التقليدية، ولهذا وجد الشجاعة ليخرج بتصريحاته، التي تعدّ قنبلة في وجه أردوغان.
وتابع أجار حديثه؛ هناك دوافع عديدة وراء ذلك، منها؛ أنّ قادة العدالة والتنمية من العقلاء والطبقة الراقية يرون أفول عهد أردوغان، ويريدون غلق صفحة ماضيهم الملطخ بالدماء، وبدء صفحة جديدة، وتسريع سقوط أردوغان، والثاني أنّهم يرون تردي مؤسسات الدولة ويريدون إنقاذها.
إضافة إلى ذلك، والحديث لأجار؛ هناك قيادات في حزب أردوغان تشعر بالذنب للظلم الكبير الذي وقع على مئات الآلاف من أبناء الشعب بسبب استبداد أردوغان، ولهذا أعتقد أنّه برحيل أردوغان سيقدمون اعتذارات للضحايا، خصوصاً حركة الخدمة.