بغداد (زمان التركية)ــ دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط خلال كلمته السبت في المؤتمر الإقليمي لدعم العراق للعمل على ترسيخ علاقات سياسية في الإقليم العربي تديرها دولٌ تتمتع بالسيادة الكاملة.
وأثني أبو الغيط على مساعي العراق لبناء علاقة جديدة مع الإقليم على أساس من المنفعة المتبادلة والاحترام والتعاون، مما أسهم في فتح مجالات للتعاون الاقتصادي بينهم.
وفيما يلي نص كلمة أبو الغيط في قمة بغداد:
معالي السيد مصطفى الكاظمي
رئيس وزراء جمهورية العراق
فخامة الرئيس مانويل ماكرون
رئيس جمهورية فرنسا
أصحاب الجلالة والفخامة السمو
الملوك والرؤساء والأمراء..
أصحاب السمو والمعالي الوزراء،
السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي سروري أن نجتمع اليوم.. هنا في بغداد في مؤتمر إقليمي هو الأول من نوعه منذ سنوات.. لدعم العراق الذي نتقدم إليه بكل الشكر على هذه المبادرة الطيبة التي تعكس مكانة هذا البلد وثقله ودوره المهم في الإقليم.
إن العراق، الذي يحتفل هذه الأيام بمرور مائة عام على تأسيس دولته الحديثة، عانى كثيراً عبر العقود الماضية… ودفع أثماناً باهظة لمغامرات وصراعات عطلت انطلاقته وأبطأت مسيرته.. فالإمكانية العراقية، في المورد البشري والمادي على حد سواء، ضخمة.. والتاريخ والحاضر شاهدان على ما يُمكن أن يُحققه الشعب العراقي إن توافرت له ظروف مواتية.. واليوم، نحن نرى العراق وهو يسعى إلى صناعة هذه الظروف.. بإرادة جديدة وعزم لا تخطئه عين.
لقد خاض العراقُ حرباً شريفة ضد الإرهاب الأسود منذ 2014.. كابد خلالها تضحياتٍ هائلة، وتكبد كُلفة تفوق الوصف، في الأنفس والأموال.. ولكنه صمد رافعاً راية المدنية في مواجهة البربرية.. وخاض المعركة دفاعاً عن قيم الحضارة والإنسانية في كل مكان، وليس في العراق وحده.. ونحن اليوم جميعاً نجتمع هنا في “مدينة السلام” لنقول للعراق أنه لا يقف في هذه المعركة وحيداً.. وأن الدماء التي نزفها هي دماء غالية علينا جميعاً.. وأن شعبه يستحق أن ينعم بالسلام والاستقرار والأمن.. وأن يجني ثمار التنمية والرخاء بعد طول معاناة.. إن مساندة العراق ودعمه في هذا النضال هو واجبٌ علينا، وحق لشعبه.
ولا أظن أن ثمة خلافاً على أن حالة التوتر الإقليمي والاستقطاب قد أضرت بالعراق، وحرمته من الاستفادة من إمكانياته، وأدخلته -لسنوات طويلة- في دوامة من المُعضلات الأمنية والسياسية، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية.
إن العراق الحالي يسعى إلى بناء علاقة جديدة مع الإقليم على أساس من المنفعة المتبادلة والاحترام والتعاون … وهو توجه محمود انعكس إيجابياً على مجمل العلاقات في الإقليم.. وأسهم في طرق أبواب للحوار بين الأطراف، وفتح مجالات للتعاون الاقتصادي بينهم … ولا شك أن اجتماعنا اليوم يُمثل خطوة مهمة على هذا الطريق.
إن ما نريده جميعاً -ولا أظن أن أحداً يختلف في ذلك- هو عراق لا يكون ساحة للصراع بقدر ما يمثل جسراً للتواصل… عراق لا يغدو حلبة للتناطح وإنما فضاء للتصالح.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو..
لدي اقتناعٌ راسخ بأن دول هذا الإقليم، بما لها من رصيد حضاري وخبرات تاريخية ممتدة، ووشائج وطيدة بين شعوبها.. بإمكانها إدارة علاقات مُثمرة بمنطق المنفعة للجميع وليس المعادلة الصفرية.. إن تحقيق دولة ما لأمنها ومصالحها لا ينبغي أن يكون على حساب الآخرين.. فالاضطراب والتوتر يخصم من الجميع، ولا يضيف لأي طرف.
إن أحداً لا يتوقع أن تتفق كافة الدول في هذا الإقليم على كل شيء وفي كل شيء.. فلكل دولة مصالح، ومنطلقات لتحقيق هذه المصالح.. غير أن المطلوب والمرغوب هو الاتفاق على الأسس والمبادئ.. فالأسس السليمة هي التي تصنع جيرة جيدة.. والعلاقات بين الدول إن لم تتأسس على مفاهيم مشتركة أساسية.. تصير عرضة لسوء الفهم وسوء التقدير.. وصولاً إلى الخلاف والنزاع.
وأقول بكل صراحة إن الدول العربية موقفها واضح من الأسس المطلوبة لعلاقات صحية ومُثمرة في هذا الإقليم.. وهو موقف عبرت عنه هذه الدول مراراً بصورٍ شتى.. كما تبنته المنظمة الإقليمية التي أشرف بتولي أمانتها العامة، والتي تُعبر عن الموقف العربي في شموله.
وأتحدث هنا عن ثلاثة أسس جوهرية..
أولها احترام السيادة والامتناع -قولاً وفعلاً، شعاراً وممارسةً- عن التدخل في الشئون الداخلية للدول، باعتبار ذلك واحداً من المبادئ المؤسسة للعلاقات الدولية الحديثة.
وثانيها.. مركزية الدولة الوطنية في العلاقات الإقليمية.. فالدول، العربية وغير العربية، في الشرق الأوسط تضم داخلها مكوناتٍ سكانية مختلفة.. في الدين والمذهب والعرق.. وطالما كان هذا التنوع الخلّاق مصدراً لثراء هذه المنطقة.. غير أن هذا التنوع ذاته قد يتحول -وكما دلت التجربة- إلى مصدر للفتن وإثارة النعرات وتمزيق النسيج الوطني الجامع.
لقد آن الأوان أن تُمحى كلمة الطائفية من قاموس هذا الإقليم.. وأن يبقى الدين لله وحده.. بينما العلاقات السياسية تديرها دولٌ وطنية.. تتمتع بالسيادة الكاملة.. وتتعامل مع بعضها البعض على أساس من الاحترام المتبادل والتعاون وحسن الجوار.
أما الأساس الثالث الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقات الإقليمية فهو مكافحة الإرهاب.. وأتحدث هنا بوضوح ليس فقط عن الجماعات التي تُمارس الإرهاب.. وإنما أيضاً عمن يقدمون الغطاء السياسي والتبرير الأخلاقي لمن يمارسون هذا الإرهاب.. إن انتصارنا على الإرهاب رهن بألا يجد ملجأ في أي مكان بين ظهرانينا.. وأن تحاربه دولنا، بشتى صوره وأشكاله، وأياً كان لونه السياسي أو الراية التي يتخفى وراءها.
وأخيراً أقول إن هذا الإقليم يواجه تحدياتٍ مشتركة.. ويُمكن أن تُحقق دوله الكثير إن هي توافقت على هذه الأسس التي تُشكل -في واقع الأمر- أساساً للعلاقات المستقرة بين الدول في أي منظومة إقليمية في أي مكان في العالم.
إن العالم العربي طالما تطلع، بحسن نية، إلى علاقات جوار طيبة مع كافة الأطراف الإقليمية.. وللجامعة العربية في ذلك مبادراتٌ ومحاولات في السابق.. واليوم، فقد جمعتنا محبة العراق … ولا أحد منا يختلف على العراق.. فجميعنا يريد أن يرى عراقاً مزدهراً ومستقراً… سيادته مصونة ورايته مرفوعة.