بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – أُورْكُوزْ (Orkoz).. كلمة تركية تطلق على التيار القوي المعاكس الذي يحدث خصّيصًا في مضيق البوسفور؛ حيث تكدس الريح التي تهبّ من الجنوب مياه البحر في اتجاه الشمال، مما يؤثر سلبًا على الكائنات البحرية ويدفع السفن إلى اليابسة.
وقد فضل المخرج التركي بدر الدين أوغور هذا الاسم ليطلقه على الفيلم الوثائقي الذي يرصد أحداث التيار المضاد الذي حدث في 15 يوليو 2016 في تركيا، ذلك الموصوف بالانقلاب الفاشل، ولم يتوقف منذ 5 سنوات.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منع الجهودَ التي بذلها كلٌّ من المحاكم والبرلمان والصحفيين الاستقصائيين من أجل التحقيق في أحداث الانقلاب الفاشل والكشف عن ملابساتها، وكذلك قام بسجن وإسكات كل من رآه معارضًا، وخاصة الصحفيين، لكي يستطيع بناء نظامه الخاص مع شركائه السياسيين الجدد دون اعتراض أحد.
قبل يومين مرت الذكرى الخامسة على محاولة الانقلاب العسكري التي شهدتها تركيا في 15 يوليو 2016. ولا تزال تبعات ذلك اليوم المشؤوم تؤثر على المناخ السياسي والوضع الحقوقي وسيادة القانون وحرية الإعلام في تركيا، الأمر الذي يدفع للتفكر في المستفيد الوحيد من وراء هذا الوضع الاستثنائي.
بل إن السلطة الحاكمة تستعد لتمديد حالة الطوارئ لكي تستمر هذه الممارسات من جانب؛ وتجرى الانتخابات القادمة تحت قمع شديد يمكِّنها من التلاعب في النتائج كما فعلت في الانتخبات العامة 24 يونيو 2018 حيث انتقلت البلاد إلى النظام الرئاسي.
كثير من الأحداث المشبوهة وقعت في تلك الليلة تشير إلى حجم المؤامرة المحاكة ضد مؤسسات الدولة وأفراد المجتمع المدني، حيث تم الزج بمئات الآلاف من المدنيين في السجون وتجريدهم من مناصبهم، ووصمهم بعار يلاحقهم طوال حياتهم وبعد مماتهم.
هذا التقرير قراءة في الفيلم الوثائقي الذي نشرته قناة “بولد” قبل يوم من ذكرى الانقلاب الخامسة بعنوان: ” أُورْكُوزْ.. التيار المعاكس” الذي يزيح الستار عن خلفيات وأسرار يوم 15 يوليو 2016 وما سبقه من أحداث مرتبطة تخفيها السلطة السياسية الحاكمة لكي تبقى الرواية الرسمية متماسكة ومتداولة بين الناس.. تلك الرواية التي ترفض الحكومة في سبيل الحفاظ عليها كشف الغطاء عن التقرير الذي أعدته لجنة تقصي الحقائق للبرلمان رغم أن أعضاء الحزب الحاكم يشكلون أغلبية هذه اللجنة.
رفْض الحكومة نشر التقرير البرلماني عن أحداث الانقلاب يدل على أن رواية أردوغان للانقلاب لا تتوافق حتى مع تقرير البرلمان، وهذا ما اعترف به نائب رئيس لجنة تقصي الحقائق من صفوف الحزب الحاكم في ذلك الوقت سلجوق أوزداغ خلال برنامج على قناة خلق تي في (Halk TV).
قال الكاتب الصحفي باريش بهليفان من صحيفة “جمهوريت” في ذلك البرنامج: “هناك كواليس تقول بأن لجنة تقصي الحقائق للبرلمان كانت تستعد لنشر تقريرها عن أحداث الانقلاب، إلا أن مجموعة من الحقوقيين أجروا زيارات متعددة لأعضاء حزب العدالة والتنمية وأصروا عليهم أن لا ينشروا هذا التقرير، موضحين أن الحقائق والادعاءات التي ترد في التقرير من الممكن أن تؤدي إلى مشاكل خطيرة في المستقبل، وتسهل مبادرات أعضاء منظمة فتح الله كولن في الساحة الدولية وتضع تركيا في موقف محرج في المسرح الدولي وتضطر لدفع تعويضات كبيرة.. لذا لا تطبعوا هذا التقرير باسم البرلمان”. ثم سأل سلجوق أوزداغ، نائب رئيس تلك اللجنة في ذلك الوقت سلجوق أوزداغ ما إذا كانت هذه الكواليس صحيحة أم لا، فرد عليه قائلاً: “نعم، هذا صحيح”.
من أجل إعداد الفيلم الوثائقي أُورْكُوزْ أو التيار المعاكس، قرأ الصحفيون والخبراء والشهود عشرات الآلاف من صفحات مذكرات الاتهام وأقوال المتهمين ودفاعاتهم، كما قاموا بتفكيك وتحليل عشرات الساعات من المشاهد المرئية والتسجيلات المصورة ثانية بثانية، ورصد آلاف الصفحات الإخبارية، فظهرت في النهاية نتائج ووثائق مهمة للغاية سوف يطلع عليها الرأي العام لأوّل مرّة.
يبدأ الوثائقي بسرد الأحداث الأولى التي شهدها جسر البوسفور في مدينة إسطنبول: “كان أورهان بوياجي من شرطة مكافحة الشغب يتقدّم نحو مركز الشرطة ممسكًا بيد جندي انضم إلى الجيش قبل 3 أشهر فقط داعيا إياه بأخي. لم يكن الجنود الذين جاؤوا إذعانًا للأمر الصادر إليهم على دراية بما سيحدث بعد ذلك. لكن المواطنين قاموا بتهدئة الجنود والسيطرة عليهم رافعين شعار: جندنا أعظم جندي!”.
على بعد كيلومتر واحد من جسر البوسفور، شوهد على البث المباشر أكثر اللحظات إيلامًا في تاريخ تركيا، حيث استشهد 34 شخصًا، بينهم ضابطان شرطيان. أمَّا في الصباح الباكر فقدْ لقي جندي و7 طلاب عسكريين في العشرينات من عمرهم مصرعهم إما جراء سحقهم أو قطع رؤوسهم على الطريقة الداعشية.
يثور الرقيب فوزي قطران، شقيق الطالب العسكري رجب أنيس قطران الذي قتل أثناء تلك الأحداث، على تهمة الانقلاب الملصقة بالطلاب العسكريين الذين لم يستخدموا بندقياتهم حتى من أجل الحفاظ على حياتهم، حيث يقول: “يقولون عن هؤلاء الطلاب العسكريين بأنهم انقلابيون.. إذا كان ذلك صحيحًا فلماذا لم يطلقوا النار على الناس؟ لم يقتلوا أي شخص رغم أن ذلك كلف حياتهم.. لم يصوّبوا مسدسًا لأي أحد هناك”.
في تلك الليلة وقفت السيدة صفية بايات في وجه القائد الذي أحضر 35 جنديًّا إلى جسر البوسفور ليسقطوا شهداء ويكونوا ضحايا أحد أكبر مؤامرات العالم، غير أنها تعرّضَت للاعتداء وأُصيبت بساقها، ولم تلق دعواتها بالهدوء والحيطة صدى إيجابيا لدى ذلك القائد..
هذه السيدة كانت من بين شهود تلك الليلة وصباحها.. وبعدما فكرت بضميرها فيما عايشته في تلك الليلة لخّصت الرعب الذي ساورها وما تلاه من أحداث أخرى قائلة: “أنا متأكدة من أن بين المتهمين بالانقلاب أبرياء وأن معظمَهم اعتقلوا تعسفيًّا وظلمًا.. هل بمقدوري كمواطنة مدنية أن أميز المجرمين من غيرهم؟ لكن كان ينبغي على السلطات القضائية المعنية القيام بهذا التمييز”، الكلمات التي تلخص وتجسد ما وقع في ليلة 15 يوليو 2016 وما أعقبها من أحداث بعد إفشال محاولة الانقلاب.
ما الذي حدث حقيقة في تلك الليلة؟ ما دلالة الأحداث التي وقعت بعد تلك الليلة وما هي الأهداف التي أرادوا تحقيقها؟
الكاتب والمحلل المعروف جوهري جوفين الذي تم اعتقاله أكثر من مرة قبل محاولة الانقلاب المزعومة وبعدها لنشرها الحقائق في مجلة “نقطة” التي كان يرأسها، يكشف عن ثلاثة أسماء خطيرة لعبوا أهم الدور في حياكة وتسويق “قصة الانقلاب الفاشل”.. وهم الاستخباراتي صادق أوستون الذي تولى في 2011 مهمة تنظيم الإرهابيين في ليبيا.. وقد عينه أردوغان ملحقًا دبلوماسيًّا في أستراليا في عام 2019 مكافئة للخدمة التي قدمها له وحصانة له من أي محاكمة قد تواجهها مستقبلا عندما تنكشف الأدوار التي لعبها في مؤامرة الانقلاب.. والاسم الآخر هو نوح يلماز الذي عينه أردوغان في عام 2013 رئيسًا لوحدة الصحافة والإذاعة في جهاز الاستخبارات وهو الذي تواصل مع الصحفيين لتوجيههم، وكذلك دبر مكالمة أردوغان الشهيرة على الهواء مباشرة عبر برناج فيس تايم.. والاسم الثالث هو كمال أسكينتان المسؤول عن وحدة العمليات الخاصة في جهاز المخارات والملقب بـ”أبو فرقان”، ويعتبر نفسه “قاسم سليماني تركيا”، على حد تعبير الكاتب والمحلل سعيد صفاء.
من المثير أن قناة أي خبر (A Haber) الموالية للحكومة سبقت جميع القنوات الأخرى، بما فيها الرسمية، في بثّ “بيان الانقلاب” المزعوم بأنه صدر من القوات المسلحة، وفي اللحظات نفسها ظهر المستشار الإعلامي لجهاز المخابرات نوح يلماز على الهواء مباشرة على إحدى القنوات التلفزيونية وطمأن الشعب التركي في بداية اندلاع الأحداث قائلا: “الإنترنت ما زال يعمل.. لا يمكن أن ينجح أي انقلاب دون الاستيلاء على وسائل الاتصال الرئيسية.. رئيس الأركان وقائد القوات البرية على رأس عملهما.. كل شيء تحت السيطرة”.
نعم ..”كل شيء تحت السيطرة” كلمة السر التي تفتح وتفسر لغز ما سمي بالانقلاب الفاشل! فقد جرى كل شيء تحت السيطرة ووفق ما خطط له من قبل!
فعلى الرغم من أن جميع المسؤولين، بمن فيهم رئيس الوزراء، تجنبوا استخدام عبارات واضحة حول ما يحدث في تلك الليلة، إلا أن نوح يلماز تحدث عن أحداث الانقلاب المحتملة قبل ساعات من وقوعها بالفعل! حيث قال على الهواء مباشرة: “إن هذا التحرك (الانقلابي) سيقتصر على بعض العناصر في قوات الدرك والقوات الجوية فقط.. وإننا سنستقبل صباح الغد ونحن قد وصفنا بعبارات دقيقة أن ما حدث هو محاولة انقلابية وبدأنا بالحديث عن الكيان الموازي الذي يقف وراءها”.
يقول جوهري جوفين في دور هذه الأسماء الثلاثة ليلة مؤامرة الانقلاب: “هناك قصة حاكها الاستخباراتيون صادق أوستون ونوح يلماز وكمال أسكينتان.. ورواية جميعهم لم تخرج عن إطار هذه القصة. نلاحظ تقسيمًا للأعمال وتوزيعًا للمهام بشكل دقيق للغاية بحيث لا يمكن تخطيطه وسط حالة الذعر في تلك الليلة.. حددوا كل التفاصيل.. بدءًا من الصحفيين الذين ينبغي التواصل معهم مرورًا بالضباط العسكريين وانتهاءًا بالوحدات العسكرية.. لقد تم الاتصال بجميع هذه المجموعات والتنسيق بينهم قبل انطلاق الأحداث.. هؤلاء المجموعات الثلاث رووا علينا الحكاية نفسها.. بدءًا من الشخصية الرئيسية في التحرك وانتهاء بالجنود المشاركين فيه، غير أن ما أفسد وأسقط هذه الحكاية هو أنهم أجروا هذه المكالمات والاتصالات قبل بدء الأحداث بالفعل”.
يواصل جوهري جوفين الحديث عن الاستخباراتي الآخر قائلا: “صادق أوستون – وهو أيضًا عسكري سابق – يتصل ببعض الوحدات العسكرية الأخرى في تلك الليلة ويقول بأنه سيحدث انقلاب عسكري بتدبير من فتح الله كولن وأن قائد القوات الجوية الجنرال أكين أوزتورك هو رقم واحد في هذا التحرك. لكن المشكلة أنه عندما ساق هذه المزاعم لم يكن قد اتصل بعدُ بقائد القوات الجوية أكين أوزتورك، بل كان الأخير يجلس في منزله بملابس النوم، ولم يكن في الساحة يوجه الجنود!”
ومن اللافت أن صادق أوستون هو الاسم الذي اتهمه الجنرال أكين أوزتورك بتدبير مؤامرة لإيقاع الجيش من خلال أحداث 15 يوليو 2016، وفسر سبب هذه المؤامرة لزملائه قبيل الانقلاب قائلاً: “لن أسمح بدخول جنودي في مغامرة سوريا، ولن أسمح بتقسيم تركيا.. وإذا ما أعلنوني يومًا خائنًا للوطن فاعلموا أنهم سيقحمون جيشنا في سوريا”.