أنقرة (زمان التركية) – في تصريحات متناقضة مع الواقع، زعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن حكومته من بدأت مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني، ولكنها ليست من أنهاها، رغم أنه منع رئيس وزراء تلك الفترة أحمد داود أوغلو من الاستمرار في تلك المفاوضات وأمر بإنهائها أمام الشاشات التلفزيونية في 2015.
تصريحات أردوغان جاءت خلال افتتاح عدد من المشاريع التنموية في ولاية ديار بكر، ذات الغالبية الكردية جنوب شرقي تركيا.
الرئيس التركي قال إن حزب العدالة والتنمية الحاكم هو من “أطلق عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، لسد الجرح الذي كانت الإمبريالية العالمية تخدشه في تركيا منذ حوالي قرن ونصف”، مشيرا إلى أن انتهاء عملية السلام لم يكن من جانبهم.
أردوغان قال إن “حزب العمال الكردستاني أنهى عملية السلام، بسبب نواياه الخبيثة وأجندتهم الخفية”.
الرئيس التركي هاجم الأحزاب الكردية، قائلا “إن أحزاب الشعب الكردستاني وحزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي وحزب الشعوب الديمقراطي، التي تستغل الأكراد، تعتبر أكبر مصيبة جاءت على هذه المنطقة وهذا الشعب في آخر ألف عام”، وفق وصفه.
تأتي تلك التصريحات في الوقت الذي يعيش فيه خلافات مع حليفه الحالي حزب الحركة القومية بسبب اختلاف وجهات النظر بين الطرفين حول الموقف الصحيح من وزير الداخلية سليمان صويلو الذي يواجه اتهامات خطيرة كالسيطرة على تجارة المخدرات وحماية المجرمين من المحاكمة، خاصة رجال الأعمال الذين دخل في علاقات مشبوهة معهم.
يذكر أن رئيس الوزراء التركي الأسبق، أحمد داود أوغلو، أدلى بتصريحات مثيرة للغاية في عام 2019 هدد فيها أردوغان بكشف ما سماه “دفاتر الإرهاب”، مشيرًا بذلك إلى تورطه في دعم الإرهاب من أجل استعادة الحكومة المنفردة في الأول من نوفمبر 2015 بعدما فقدها في انتخابات 7 يويو من العام ذاته.
وقال داود أوغلو في تصريحات صحفية موجهة إلى رفيقه السابق أردوغان: “لو تم إعادة فتح دفاتر الإرهاب لن يستطيع أصحابها النظر في وجوه الناس”، وذلك بعدما واجه اتهامات بـ”الخيانة” والعمل مع قوى غربية من أجل الإطاحة بأردوغان.
ونورد هذا الجزء نقلا عن كتاب “قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني” الذي تناول فيه مؤلفه أخطر وأصعب الفترات السياسية في تاريخ تركيا، كما قال داود أوغلو:
كان حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان فقد أغلبيته البرلمانية لأول مرة منذ وصوله إلى الحكم في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 7 حزيران 2015، بحصوله على 40% من أصوات الناخبين فقط، الأمر الذي منع حزبه من تأسيس حكومة منفردة.
وهذا الأمر كان يشكل خطرًا كبيرًا على مستقبل أردوغان والنظام الذي يتطلع إليه حتى ولو كان حزبه الشريك الأقوى في أي حكومة ائتلافية محتملة؛ فقد كان بحاجة إلى حكومة منفردة قوية لحزبه حتى ينقذ نفسه من احتمالية المحاكمة على جرائمه في الفساد والإرهاب من جهة؛ ويضمن نقل تركيا إلى النظام الرئاسي من جهة أخرى.
كان صلاح الدين دميرتاش، زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، من تسبب في حصول هذه النتيجة الكارثية لأردوغان، حيث تحدى أردوغان قائلا: “لن نسمح لك بإقرار النظام الرئاسي في تركيا”، فتخطى حزبه العتبة الانتخابية، وحقق نجاحًا كبيرا بحصوله على 80 مقعدًا ودخوله إلى البرلمان كحزب مستقل، بعد أن كان الأكراد يدخلون البرلمان فرادى كمرشحين مستقلين، الأمر الذي دفع أردوغان إلى الانتقام منه باعتقاله بذريعة دعمه لتنظيم حزب العمال الكردستاني الذي تفاوض هو نفسه معه لإقامة السلام الكردي.
ولما خسر أردوغان دعم الأكراد زال “السبب” الذي كان يجري مفاوضات السلام الكردي مع العمال الكردستاني من أجله، فزعم في 17 يوليو/ تموز 2015 أنه لم يكن على علم بمحادثات “دولما باهتشه” التي أجرتها حكومة أحمد داود أوغلو مع النواب الأكراد لإضفاء الصفة الرسمية على تلك المفاوضات، وأكد أنه لا يوافق عليها، رغم أنه من أطلق تلك المفاوضات وأعلن دعمه لها طيلة السنوات الماضية. لكن أردوغان كان بحاجة إلى ذريعة لإنهاء المفاوضات بشكل رسمي.
توظيف الإرهاب لإعادة الحكومة المنفردة
في 22 يوليو/ تموز 2015 وقع هجوم انتحاري نسب إلى تنظيم “داعش” الإرهابي، استهدف شبابًا مناصرين للقضية الكردية بمركز ثقافي في بلدة سوروتش الحدودية مع سوريا، وأودى بحياة 32 شخصًا على الأقل. كما عثرت القوات الأمنية في صبيحة هذه الواقعة على شرطيين قتلا في فراشهما ببلدة “جيلان بينار”. ومع نسبة هذا الهجوم إلى العمال الكردستاني بادعاء الانتقام من شرطيين كانا على اتصال بداعش الذي قتل 32 كرديًّا أمس، إلا أن “ديمهات آجيت” المتحدث باسم اتحاد المجتمعات الكردستاني نفى صحة هذا الادعاء، ونوّه الكاتب الكردي المعروف “أميد فرات” بأن الأسلوب المستخدم في قتل الشرطيين ليس من أساليب العمال الكردستاني المعهودة، مؤكدًا أن “الجهة” التي أمرت بتنفيذ الهجوم جعلت بعض المجموعات المرتبطة بالعمال الكردستاني تتبنى هذا الهجوم.
بعد أسبوع من هذين الهجومين المنسوب أحدهما لداعش والآخر للعمال الكردستاني، وعلى وجه التحديد في 28 يوليو/تموز 2015، أعلن أردوغان بشكل رسمي انتهاء مفاوضات السلام الكردية، مما يدل على أنه نجح في اختلاق الذريعة اللازمة للنكوص عن سياسته القديمة ليبدأ بعدها فترة جديدة مليئة بالاشتباكات الدموية. ومن اللافت أيضا في هذا الصدد ما قاله يالتشين أكدوغان، كبير مستشاري أردوغان لصلاح الدين دميرتاش عقب تحديه أردوغان ودخوله البرلمان وعرقلته تشكيل حكومة منفردة: “إذا قلتم إننا لن نسمح لك بفرض النظام الرئاسي، فإنه لا يمكن أن يحدث غير ما حدث اليوم! فليس بمقدور حزب الشعوب الديمقراطي بعد اليوم إلا أن يصوّر فيلمًا سينيمائيًّا بعنوان مسيرة السلام الكردية فقط”.
ولما فقد أردوغان دعم الأكراد احتاج إلى موجة قومية ليعوِّض خسارته هذه بالحصول على أصوات القوميين الأتراك. وبعد الإطاحة بطاولة مفاوضات السلام الكردية اتخذ أردوغان قرارًا بالعودة إلى العمليات المسلحة ضد العمال الكردستاني، لكن الفارق هذه المرة أن العمليات الأمنية الجديدة لم تقتصر على المناطق الجبلية فقط وإنما وسع أردوغان نطاقها لتشمل المناطق والبلدات المأهولة بالسكان “المدنيين” من المواطنين الأكراد. وبعد عودة النزاع المسلح بين الطرفين مرة أخرى تحولت كل أنحاء تركيا إلى ساحة دماء بسبب الهجمات المنسوبة للعمال الكردستاني والتي حصدت أرواح أكثر من ألف فرد من عناصر الأمن وحوالي 10 آلاف من عناصر العمال الكردستاني، بالإضافة إلى مئات المواطنين المدنيين.
ولا شك أن استئناف أردوغان للعمليات الأمنية وتحويل شرق تركيا إلى ساحة حرب فيما يشبه العقاب الجماعي للأكراد جميعًا بسبب عدم تصويتهم له في انتخابات 7 يونيو/ حزيران السابقة أسهم في ترسيخ الانفصال الذهني والعاطفي لدى الأكراد؛ كما ساعدت هذه العمليات في الوقت نفسه على توجه القوميين بقيادة حزب الحركة القومية إلى دعم حزب العدالة والتنمية.
وفي 10 أكتوبر / تشرين الأول 2015 شهدت العاصمة أنقرة أكبر مجزرة إرهابية دموية على مدى تاريخ تركيا نسبت إلى داعش أيضًا، استهدفت عشرات الآلاف من المشاركين في تظاهرة بعنوان “العمل والسلام والديمقراطية”، مما أدى إلى مقتل أكثر من 110 أشخاص وإصابة المئات، أغلبهم من الأكراد. وكشفت التحقيقات أن منفذ العملية هو المدعو “يونس أمره آلاجوز” شقيق “الشيخ عبد الرحمن آلاجوز” الذي نفذ هجوم سروتش قبل 3 أشهر من هذا الحادث وقتل 32 شابًا كرديًّا أيضًا. لكن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش اتهم “الدولة” حينها بالوقوف وراء هذا الهجوم.
كما كشفت وثيقة “سرية للغاية” أعدها مركز الاستخبارات التابع للاتحاد الأوروبي (إي.يو إنتسن) ونشرها موقع “أحوال تركية” في 2018، أن الهجوم الإرهابي الذي وقع بالعاصمة أنقرة عام 2015 وحصد أرواح أكثر من 100 مواطن مدني تم بـ”تكليف خاص” من حكومة حزب العدالة والتنمية نفسها لعناصر داعش.
ومن العجيب جدًّا ما صرح به رئيس الوزراء آنذاك أحمد داود أوغلو بعد بضعة أيام من هذا الهجوم الدموي، حيث قال: “لقد أجرينا استطلاعًا للرأي بعد مجزرة أنقرة الإرهابية لجسّ نبض الرأي العام، ولاحظنا ارتفاعًا ملموسًا في نسبة الدعم لحزبنا”، وقد دفعت هذه التصريحات المعارضة للتقدم باستفسار برلماني دعت فيه داود أوغلو إلى الكشف عن دلالة هذه التصريحات.
أردوغان يستعيد الحكومة منفردًا بأصوات القوميين
آتت “لعبة الإرهاب” بين داعش والعمال الكردستاني أكلها وحققت “المطلوب” منها لحزب العدالة والتنمية وهو توجه أصوات القوميين إلى حزب العدالة والتنمية، فأعلن أردوغان عن انتخابات برلمانية مبكرة في الأول من نوفمبر / تشرين الثاني 2015 واستعاد حزبه تشكيل الحكومة منفردًا على طبق من ذهب بعد أن حصد دعم نصف الناخبين، بفضل أصوات القوميين الأتراك، وهو ما فعله مجددًا قبل الاستفتاء الشعبي حول النظام الرئاسي حيث عقد تحالفًا مع حزب الحركة القومية، وأطلق أولاً عملية درع الفرات في الأراضي السورية لإثارة موجة قومية جديدة في الداخل، ثم حصل على موافقة الشعب على هذه التعديلات الدستورية بشكل أو بآخر عام 2017، ثم نفذ عملية “غصن الزيتون” العسكرية في شمال سوريا ضد مقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري، وأعلن في 18 أبريل/ نيسان 2018 عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 يونيو/ حزيران 2018 استطاع من خلال تحالفه مع القوميين أيضا أن يصبح “رئيس الدولة” في ظل النظام الرئاسي الذي يوسع من صلاحيات الرئيس، ليضمن مستقبله ومستقبل حلفائه في ظل هذه الصلاحيات شبه المطلقة.