بقلم/ محمود محمد كحيلة
(زمان التركية)-المسرح أبو الفنون، لأنه من أقدمها ولأنه منبر غير تقليدي للتوجيه والإرشاد والتربية والتعليم والدعوة إلى قيم الحق والخير والجمال. وما النقوش والزخارف الرائعة الدقة والتشكيل التي لا يخلو منها بيت من بيوت الله -المساجد- إلا لون من أقدم ألوان الفنون. وهذه الفنون التشكيلية لا يخلو منها أيضا أي أثر من الآثار الإسلامية قصرا كان أو درعا، سيفا كان أو ثيابا أو إناءً.. وهي بمثابة بصم خاص يميز الآثار الإسلامية عما سواها من آثار العصور الأخرى، لأن الفن له وظيفة أساسية في الحفاظ على الهوية.
والمسرح الإسلامي بكل ما يشمل من الفنون يمكن ببعض الجهد توظيفه ليصبح درعا للإسلام في مواجهة الغزو الدرامي المدمر الذي يخترق البيوت والرؤوس. وإذا لم نفعل ذلك ستنتهي الألفية الثالثة التي نشهد بدايتها، كما انتهت السنوات الطويلة السابقة من عمر أمة الإسلام والمسلمين، دون استخدام لواحد من أهم المنابر الإنسانية.
لا شك أنه آن الأوان ليجد مصطلح المسرح الإسلامي موقعه وسط المعاجم والسجلات المسرحية والدرامية، بما لذلك من أهمية في الرد على المدعيين بتشدد الإسلام وتعصب المسلمين. وهو الادعاء الذي لا أجد منطقا أبسط في الرد عليه من ذكر حقيقة؛ أن القرآن الكريم الذي لم يترك كبيرة ولا صغيرة تهمّ المسلمين إلا أحصاها نزل في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، أي بعد معرفة الإنسانية للمسرح الذي كان على أقل تقدير في القرن الرابع قبل الميلاد بألف عام على الأقل. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للفنون المسرحية وتعدد فوائدها، إلا أنها لم تجد من يدافع عنها أو يصبغ فاعليتها بالشرعية.
العرب القدماء لم يعرفوا المسرح، لأنه اعتمد في بداياته على الشعر وكانوا أشعر الناس، لذلك لم يهتموا بترجمة المسرحيات الشعرية. ولما احترف العرب فنون الكتابة بما تحتاجه من قدرة على الإلقاء والخطابة، ابتكروا النقائض وهي أشعار مرتجلة يبدأ فيها آخر الشعراء من حيث انتهى أولهم الذي يتفنن بالطبع في حبك قافية تعيق تقدم قرينه. وتعرف هذه الفترة من نهضة العرب بمرحلة موت المسرح، لأنه انعكاس للواقع. والواقع أن الغرب كان يمر بمرحلة من أكثر مراحل التخلف والظلام حيث كان مسرح الدنيا يستعد لاستقبال نور الإسلام.
تفوق العرب في فنون الكلام حتى إذا حسبوا ألا نظير لهم في استخدام اللغة العربية “صياغة وتلقيا” أدركتهم معجزة القرآن الكريم، وكان الخالق قد أسبغهم من بلاغة التلقي ما أهلهم لاستيعاب الإعجاز اللغوي لآيات القرآن، وتمتع من آمن منهم بترتيله ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾(المزمل:4). ويقول المصطفى عليه السلام: “ليس منا من لم يتغنى بالقرآن” (رواه البخاري)، مما يدل على “أن الإسلام لا يناصب الفن أي نوع من العداء إذا كان ينبع من معنى طاهر حسبما يقره الإسلام عقيدة ومنهجا، بل إن الدين والفن يلتقيان التقاء كاملاً في حس المسلم حتى يكون الفن قائما على التصور الإيماني للوجود والمشاعر والأفكار والسلوك والوجدان، ويحقق مقاصد هذا التصور في الواقع الإنساني”.(1) وعلى من يدعي تحريم الفن أن يقدم أدلة من المصادر التالية:
1- القرآن الكريم
المصدر الأول للتشريع ولم يأت به تحريم للفنون كلها أو بعضها، ولما كان الأصل في الأشياء الإباحة، لذا فالأصح والواجب ألا ترسل أقوال تقضي بالتحريم لتكون في ذاتها خروجا عما جاء بكتاب الله عز وجل القائل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾(البقرة:29).
2- السنن والأحاديث النبوية
اشتهرت بعض الأحاديث بتحريم الفنون، ولكن جاء بالبحث القيم والمفصل الذي تفضل بنشره العالم الجليل “يوسف القرضاوي”، بعد عرضه على أهل العلم والفكر “الخلاصة أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم، إما صحيح غير صريح أو صريح غير صحيح، ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح دليلا للتحريم. وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية”.(2) ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا وتلا: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾(مريم:64)” (رواه الحاكم). وهنا يتفق قول نبي الله صلى الله عليه وسلم مع ما جاء بكتاب الله عز وجل.
3- إجماع آراء العلماء والفقهاء
جاء بكتاب الأحكام للقاضي أبي بكر بن العربي: لم يصح التحريم في شيء، وقال ابن الطاهر في كتابه “السماع”: لم يصح منها حرف واحد، وقال أبو الطالب المفضل بن سلمه اللغوي في كتابه “الملاهي والفنون”: من عرفت له آفة في حاسة الشم كره رائحة الطيب ومن غلظ حسه كره الفن فتشاغل عنه وعابه وذمه”.(3)
الأديب الإسلامي حجة الأدب العربي “مصطفى صادق الرافعي” الذي اشتهر بخصومته الشديدة وتصديه العنيد لأي تجاوزات دينية أو أدبية عبّر عن إعجابه وترحيبه بالتجربة المسرحية بما كتبه عن مسرحية “محمد” لتوفيق الحكيم “وحسب المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الأدب العربي أن ابن هشام كان أول من هذب السيرة تهذيبا تاريخيا على نظم التاريخ، وأن توفيق الحكيم أول من هذبها تهذيبا فنيا على نسق الفن”.(4) وقد ثبت بعد ذلك أنه قام بتأليف نص مسرحي بعنوان “حسام الدين الأندلسي”.
بهذه الأدلة والبراهين نصبح على يقين أن “الإسلام يعانق الحضارة النافعة ويؤاخي المدنية الراشدة ويواكب التطور المفيد.. ولا شك أن المسرح من ثمرات الحضارة، أبدعها عقل الإنسان وأنتجها عباقرة البشر، فيقف الإسلام منه موقف الموجه الراشد والمصلح المتبصر الواعي، فيأمر القائمين عليه بنشر العلم وتثبيت العقيدة وتدعيم الأخلاق وتوجيه الأمة لما يصلحها في دنياها عن طريق هذه الوسيلة التي سخرها الله لتكون أداة نافعة للإنسان”.(5)
والنفس البشرية تحتاج إلى تهذيبٍ وترويحٍ كما يحتاج الجسد إلى الطعام والشراب. وما كان الدين الإسلامي ليبقى وينتشر ويستمر لو لم يف بكافة احتياجات الإنسان النفسية والجسدية قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(الأعراف:32). والزينة بتعدد دلالاتها هي من أعمال الفن التي لم يحرمها الله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾(البقرة:29).
تطور الدراما المسرحية الإسلامية
في زمن الخليفة المهدي كان “عبد الرحمن بن بشر” أحد الدعاة، يقوم بتجميع الناس على مشارف بغداد فوق ربوة وينادي: ما فعل النبيون؟ أليسوا في أعلى عليين؟ فيقول من حوله: نعم، ثم ينصب محاكمة للخلفاء ومن تلاهم من حكام الدولة الأموية ثم خلفاء الدولة العباسية، حيث يعترف كل منهم بما فعل من سيئات تسوقه إلى جهنم أو حسنات وطيبات ترفعه إلى مقام الجنة مع الخلفاء الراشدين. وقد ظهرت بالأمة الإسلامية عدد من الحالات الدرامية ثم اختفت تماما كل الأنشطة الدرامية أو شبه المسرحية من خارطة النشاط الثقافي للأمة الإسلامية التي شرعت في التفتت والانهيار، حتى نشطت المسرحية الإسلامية من جديد في إطار حديث تأثر بالتجربة العالمية في الشكل لا المضمون. وكانت العودة في مصر وتحديدا في الفترة من عام (1940-1961م). وقدم في هذه المدة القصيرة (34) مسرحية وفقا للإحصائية الدقيقة التي ضمنها كتاب “المسرح الإسلامي”. وهي تعتبر أول التجارب الحديثة في المسرح الإسلامي بريادة مصر، لأنها كانت من أول الدول العربية حصولاً على الحرية. ومن الطريف أن يخرج أول نص مسرحي من عباءة المسرح المدرسي كإشارة للتماس الواضح بين الكيانين. وكان هذا النص بعنوان “المروءة المقنعة” تأليف الشاعر “محمود غنيم”، ونشر للمرة الأولى بصحيفة “دار العلوم” عام (1940م)، ومنها انتقل إلى مختلف الهيئات، ثم إلى مختلف الأقطار العربية، فمثل في اليمن وفي الكويت وفي سوريا وفي العراق وفي الأردن وفي غير تلك البلاد.(6)
ويعالج النص قصة مأثورة عن الإيثار وإنكار الذات والدعوة إلى فعل الخيرات، وأبطالها “عكرمة الفياض” و”خزيمة بن بشر”. كما أنها تعكس سمو الخلق والمروءة والنبل وغيرها من القيم الجميلة التي أكتسبها العرب من الإسلام.
رواد المسرح الإسلامي المعاصر
سنتعرف على أهم رواد المسرح الإسلامي المعاصر وأهم كتاباتهم المسرحية، لما لذلك من أهمية كبيرة في تحقيق عملية التأهيل والتواصل الفني والثقافي الهام، والواجب بين مختلف الأجيال الساعية إلى التقدم.
أ-محمود غنيم: بالمسرحية المذكورة يقف حاملاً لواء الريادة للمسرحية الإسلامية المعاصرة التي كما لاحظنا أن بدايتها الأولى جاءت من خلال رجال تعليم للتأكيد على التماس الشديد بين المسرح الإسلامي وبين التعليم، لأن كلاهما وسيلة للتربية والتقويم والثقافة والتهذيب والتعليم.
بـ-محمد محمود رضوان: كان وقتها نقيبا للمعلمين في مصر، وكتب للمسرح الإسلامي تسعة نصوص هي: نور على الصحراء، طفولة محمد، شباب محمد، في سبيل الله، إسلام عمر، إلى يثرب، على ضفاف اليرموك، مروءة ووفاء، دموع الخنساء”.
جـ-على أحمد باكثير: يمنيّ الجنسية مصريّ الهوية الثقافية. بدأ حياته الوظيفية في سلك التربية والتعليم مدرسا للغة العربية. وقد أثرى المسرح الإسلامي بالعديد من النصوص منها: هلك المتنطعون، الخاتم، حارس البستان، من فوق سبع سماوات، زوجتان صالحتان، الإمام الشجاع، الأسير الكريم، الملحمة العمرية.
د-محمد يوسف محجوب: شاعر رقيق، كتب الكثير من النصوص المسرحية للمكتبة المدرسية أهمها: بلال، عمرو العجوز، غزوة بدر.
آراء المفكرين والعلماء
يرى أصحاب الرأي أن المسرح الإسلامي يشكل جانبا له خطره في تنبيه المشاهدين إلى كثير مما يحاك ضد المسلمين. ولذلك تزيحه القوى السياسية من الساحة الثقافية والفنية، لأنه كان في الماضي يؤدي دورا، وله تأثير قوي في حث الأمة على مقاومة الاستعمار ومطاردة كل من يحاول أن ينال من دين الأمة وإسلامها. ولذلك يحرضون جميعا على ممارسته بتحفظات هي:
1- البعد عن تشخيص وتجسيد رسل الله وأنبيائه.
2- تضمينه ما يبرز عظمة الإسلام وسيرة الفتوحات.
3- يهتم بسرد حياة الفاتحين والتعريف بفضل الجهاد وأجر المجاهدين.
4- تخلو أحداثه من الحض على الذنوب صغيرها وكبيرها.
5- يهدف إلى إظهار حسن نتائج فعل الخير وفضل الاستقامة.
6- لا تصاحب فاعليته مفسدة كالزنا وشرب الخمر أو إضاعة الصلاة.
عرفت تجربة المسرح الإسلامي العديد والعديد من الأسماء طوال فترة النشاط المذكورة، حتى حدثت الكبوة وحل الكساد وخبت جذوة المسرح وضمرت نشاطاته واختفت فاعليته لعدة عقود كما عرفنا، ثم عادت من جديد أكثر نضجا ولكن بتجارب قليلة ومتناثرة هنا وهناك في أنحاء العالم العربي، مثل النصوص الإسلامية القصيرة التي نشهد ببراعتها والتي يتضمنها كتاب “تربية الأولاد في الإسلام” لعبد الله ناصح علوان.
وشرف المسرح الملتزم المنضبط أخيرا باستضافة شخصيات هامة من رجال الفكر والعلماء والأطباء والفقهاء والشعراء والساسة والمفكرين الإسلاميين ممن اجتذبتهم أضواء المسرح فكتبوا لها أعمالا محدودة، ولكنها مؤثرة على مستوى القيمة الفنية والثقافية والأدبية، لأنها فرضت نفسها على فكر ووجدان أصحابها، وبالتالي مساندتهم المعنوية وموافقتهم الضمنية وتأكيد إيمانهم بأهمية الفنون المسرحية. ومن هؤلاء: الفقيه الجليل دكتور “يوسف القرضاوي”، حيث كتب للمسرح عملين أحدهم مسرحية شعرية عن “يوسف الصديق” عليه السلام، والثاني مسرحية تاريخية عن “سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف الثقفي” اسمها “عالم وطاغية”.(7)
وكتب الطبيب والمفكر الإسلامي والعالم الجليل “مصطفى محمود” عددا من النصوص المسرحية الإسلامية منها: الزلزال، الإسكندر الأكبر، الشيطان يسكن بيتنا، الإنسان والظل، الجنة والنار.
وشارك الإمام الصوفي “محمد ماضي أبو العزايم” بنص مسرحي واحد هو “محكمة الصلح الكبرى”.
ومن المشاركات مسرحيات الشيخ “سلطان بن محمد القاسمي” حاكم إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة. لأنه أول قيادي عربي يساهم بفكره وإبداعه في إثراء المسرح بكل ما لذلك من دلالات إيجابية، وتم هذا بخمسة نصوص هي “عودة هولاكو”، ويتعلق بالهجمة التاريخية المغولية على العرب والمسلمين، ومسرحية “الواقع صورة طبق الأصل” عن المخطط الرامي لانتزاع القدس من المسلمين، و”القضية” التي تجري أحداثها في القرن الحادي عشر، وأفول شمس المسلمين عن الأندلس وخروجهم منها ثم كتب مؤخرا مسرحية “الإسكندر الأكبر” عرضت عام (2007م)، ومسرحية النمرود التي تعرض في عام (2008م)، وكلا العرضان يعكسان برغم الأطر التاريخية قضايا عصرية.(8)
والعروض العربية أغلبها شبه إسلامية. لذلك يسهل أن تتحول إلى قاعدة أساسية لإحياء المسرحية الإسلامية؛ فتتحول الاجتهادات الآتية من حركات ثقافية إنسانية إلى أفعال دينية إسلامية يثاب المرء بفعلها لتكون دافعا لتقدم وانطلاق الأجيال الحالية والتالية، نحو ما يرجى لهذا الكيان الهام من قيمة وما ينشد له من مكانة.