بقلم/ عصمت محمود أحمد
وهذا الأمر كان حاضرا في فكر الإمام أبي حامد الغزالي؛ فهو إذ يحلل في مؤلَّفه القيم: “جواهر القرآن”، نجده يرد جواهر القرآن إلى عنصرين أساسيتين، يتصل أحدهما بالمعرفة ويتصل الأخر بالسلوك. وبذلك فإنه يجدر بنا إعمال النظر في القرآن الكريم بحسبانه رسالة أخلاقية، أنزلت على من وصفه الله عز وجل بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(القلم:4)، وهو الموصوف بالخلق العظيم أَبَان عن الهدف المحوري للرسالة المحمدية بقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (رواه مالك).
بيد أن المتأمل في آيات القرآن الكريم يلحظ أن نصوص الوحي القرآني قد خلت من مفردة “السعادة”؛ إذ لم ترد تلك المفردة في آية قرآنية قط؛ بل وردت كلمتا سعيد وسعدوا في موضعين متقاربين من سورة هود في قوله تعالي: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾(هود:105-108). ولعل النص القرآني في سياق هذه الآيات لم يكن معنيا في المقام الأول بإبراز رؤية وتصور قرآني حول السعادة؛ بل كانت الإشارة هنا مصوبة نحو بيان مآل العباد في اليوم الآخر ما بين شقي وسعيد.
ومن هنا وعلى خلفية عدم ورود مفردة السعادة في أيّة آية في القرآن الكريم برز سؤال ظل يطرحه عدد ممن تناولوا قضايا فلسفة الأخلاق في الإسلام فتساءلوا حول اشتمالِ وتضمن القرآن الكريم لرؤية أخلاقية حول السعادة، وتمدد هذا التساؤل حول مساهمة المفكرين المسلمين في الفكر الأخلاقي بصفة عامة.
ويجدر أن نشير هنا إلى أن التعامل مع مثل هذه الأسئلة التي تمس قضايا ذات أبعاد جوهرية في الخطاب القرآني يجب التعامل معها بمزيد من الإقبال على القرآن الكريم تدبرا وتأملا، وبَذْلِ مزيد من الدرس لتلمس المفاهيم والتصورات القرآنية، كما أنه ينبغي ألا نبحث عن رؤية أخلاقية قرآنية وفق مرجعية معيارية تنتمي لنسق أخلاقي آخر، خاصة إذا كان هذا الآخر مباينا في منطلقاته ومرتكزاته للرؤية القرآنية حول الكون والوجود الإنساني، مثلما فعل رواد الفلسفة الإسلامية في انسياقهم خلف النموذج الأفلاطوني والأرسطي، وهما يصدرون في تصوراتهم الأخلاقية عن رؤية كلية تجاه الوجود والإنسان مفارِقة لما عليه الرؤية القرآنية، وهذا ما حال بين أولئك الفلاسفة وبين الانتهاء إلى نسق قرآني متكامل صادر عن الآيات القرآنية ومتوافق معها.
وفق هذا السياق فإن الأوفق عند تناول قضايا الأخلاق القرآنية التنبه إلى أن الرؤية القرآنية تنطوي على نسق أخلاقي متكامل؛ يتسم بالثبات ويرتكز على ركائز وكليات نابعة من تصور كلي للوجود والإنسان يتسم بالصفاء والنقاء.
كليات التصور القرآني للوجود والإنسان
كما سبق الإشارة إليه فإن فلسفة الأخلاق عبر مدارسها وتياراتها المختلفة تبحث في مبادئ السلوك الإنساني وغاياته، فإن ذلك يعني بالضرورة أن تغدو قضية السعادة محورا هاما في التفكير الأخلاقي باعتبارها تلج في نطاق غايات السلوك؛ ومن هنا فلا مجال لاستبعاد تصور قرآني أخلاقي حول السعادة الإنسانية؛ بيد أن المفهوم القرآني للسعادة يستند كما أشرنا في المقام الأول على نقاء وصفاء كليات الرؤية الإسلامية للوجود والإنسان. ويمكن الإشارة إلى هذه الكليات على النحو التالي:
أ-التوحيد حقيقة الوجود
أولى تلك الكليات التي تجيء كركائز للتصور القرآني ماثلة في إثبات وجود الله جل شأنه، الخالقِ المتفرد بالخلق والإنشاء والتقدير، المتصرف في مقادير السموات والأرض بسطا وقبضا، وإثباتِ ما يليق بجلاله من صفات الكمال والجلال.
بـ-الخلافة غاية الوجود الإنساني
من ركائز التصور الإسلامي التي يقررها القرآن الكريم بجلاء تام عبر طائفة من الآيات نفيُ عبثية الوجود الإنساني، وهذا ما يتواتر في أكثر من موضعٍ في القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون:115). ونفيُ العبثية عن الوجود الإنساني يستلزم الإبانة عن غايةِ ودورِ ووظيفة الوجود الإنساني؛ وهذا ما تجيء الإشارة إليه في ثنايا الحوار العُلوي في ثنايا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30)، ومن ثم فإن هذا المبدأ القرآني -مبدأ الخلافة- يجعل للإنسان وظيفةً ودوراً وتكليفا، وللوجود الإنساني غاية ومطلبا، وهذا الدور يمثل الهدف الأساس للوجود الإنساني، وهو الذي أعطى ذلك الوجود صفة مائزة عن سائر المخلوقات، وبمقتضى هذا التكليف يتنسم الإنسان وظيفةً ومسؤولية كونية ذات أهمية وجودية هائلة.
جـ-البعث والجزاء الأخروي
بطبيعة الحال فإن التكليف والمسؤولية يقتضيان الحساب والجزاء، ومن هنا فإن حقيقة البعث والحساب الأخروي تمثل ركيزة هامة من ركائز التصور القرآني. وحقيقةُ البعث والجزاء ذات أثر مباشر في تشكيل منظومة الفكر الأخلاقي الإسلامي، فالإيمان بالبعث والنشور والجزاء كلية هامة وأساسية، “وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية (أي الحساب والجزاء) في تصور البشر، وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير، وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى يستحق أن يجاهد لها”.
د-المسؤولية الفردية تجاه الحساب والجزاء
يتصل بمبدأ البعث والجزاء الأخروي حقيقةُ فرديةِ ذلك الحساب والجزاء ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى﴾(النجم: 38-41).
وهذه الحقيقة ذات صلة وثيقة وانعكاسٍ مباشر على صعيد الشعور الأخلاقي لدي الفرد، عندما يوقن أنه مجزيّ بعمله ولا يستطيع الفكاك مِن كسبِ نفسه، فيعمل على محاسبتها والتخلي عن كل أمل يخادع في أن يناله آخر -مهما كان- بنفع أو يحمل عنه تبعة. إن الله عز وجل لا يحاسب الناس جملة بالقائمة، إنما يحاسبهم فردا فردا؛ كلٌ في حدود واجباته ومسؤولياته.
وعند إعمال النظر في تلك الركائز التي يقوم عليها التصور القرآني في مجالي الدنيا والآخرة نجد أن الفكرة القرآنية تخلص بنا إلى نتيجة هامة وهي أن الإنسان يمثل الكائن الوجودي الأوحد الذي جُعِلَ في مركز الحياتين: الدنيا المحدودة الفانية، والآخرة الممتدة الباقية.
بين مفهومي الفلاح والطمأنينة
لقد انشغل المفكرون منذ القدم بالبحث في ماهية السعادة؛ فقدموا أطروحات متباينة، ونريد أن نشير إلى أن الرؤية القرآنية للسعادة تتمحور حول مفهومي الطمأنينة والفلاح، مع نظرة خاصة لمفهوم الطمأنينة باعتبار أن الوصول إلى طمأنينة القلب تمثل جوهر السعادة القرآنية ومنتهى السير الإنساني في سبيله المتسامي نحو الله عز وجل.
هكذا فإن هذين المفهومين -أعني الطمأنينة والفلاح- يُراد لهما أن يحلا محل سائر المفاهيم التي طرحها الفلاسفة من لذة ومنفعة وواجب وغير ذلك. وقبل أن نجيء على تناول هذين المفهومين فثمة أهمية تدعونا للإشارة إلى قضية أساسية في البناء الأخلاقي القرآني وهي مسألة وحدة السعادة الإنسانية:
وحدة السعادة الإنسانية
تتواتر آيات القرآن الكريم نحو تأكيد الطبيعة الغائية للوجود؛ فهي تنفي في غير ما موضع أن يكون هذا الوجود جاء حدوثه صدفة عارضة، أو عبثاً بغير قصد ولغير غاية، بل على النقيض من ذلك تشير إلى أن الله تعالى أوجد الوجود في أحسنِ وأكمل هيئة وصورة ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾(السجدة:7)، وهو عز وجل من بعد إحسان الخلق لم يترك الوجود هملاً، إنما يتعهده بالرعاية والتربية وبهذا يلهج المسلم بالمناجاة في كل وقت: ﴿اَلْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الفاتحة:2). فالرب مشتق من التربية، وهو المالك المتصرف للإصلاح، ومن هنا كانت ربوبيته مطلقة شاملة كاملة لا تغيب عن الوجود لحظة. فالصلة بين الخالق والخلائق دائمة وممتدة في كل وقت وحال، فالوجود جميعه يتجه إلى رب واحد، له السيادة المطلقة عليه، وهو يتعهده بالرعاية الدائمة غير المنقطعة.
ونسير في رحاب هذا المعنى الشفيف لنجد أن التصور القرآني يؤكد أن ثمة هداية ربانية عامة وشاملة لكل الخلائق تقودها وتسوقها سوقا رفيقا نحو كمالاتها وغاياتها وسعادتها. وهو ما نقرأه في طائفة من الآيات نحو قوله تعالي: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:50)، وقوله تعالى : ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(الأعلى:1-3)، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(القمر:49)، فهذه الآيات تشير إلى أن المولى عز وجل قد أوجد الخلائق على مقادير مخصوصة وحدود معينة في ذواتها وصفاتها وأفعالها وغاياتها، وأوفاها حقها بما يناسب ما قدر لها، فهي محاطة في مسيرها نحو ما قدره الله لها بهداية ربانية تكوينية، وهكذا فإن الإنسان هو كائن قد وهبه الله بَعد استواءِ وتمام خلقه هدايةً ربانية يهتدي بها صوب مقاصدِ وجوده وكمالات ذاته أي سعادته.
ولما كانت هذه الهداية الربانية على المستوى الإنساني تُرسِّخ لمفهوم “وحدة السعادة الإنسانية”؛ فإننا نجد مظاهر تلك الهداية ماثلة ومشاهَدة في طائفة من السنن العامة المركوزة في مسيرة الجنس الإنساني. ولهذا نجد أن آيات القرآن الكريم تتخذ من هذه السنن أدلةً تقود إلى الإيمان بوحدانية الله عز وجل، وهذا الاستدلال يضفي على هذه السنن صفة الاستمرارية والرسوخ، وإلا لبطل وجه الاستدلال ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾(الروم:20-23).
فهذه الآيات تشير إلى أن هناك هداية فطرية ظاهرة في خلق الإنسان وتكوينه، وفي خلق قواه الفعالة التي تقوده إلى السعي والانتشار في طلب الرزق، وفي إيجاده على زوجين بحيث جهز كلا منهما ليتمم الآخر، وفي أن أودع الرحمة والمودة والحب بين هذين الزوجين ليسكن كل منهما إلى الآخر؛ فتنتقل هذه الرحمة والمودة إلى من يليهما من أطفال وضعفاء ومساكين. وكل ما ذكر هنا يدل على أن ثمة هداية تكوينية فطرية عامة تهدي الإنسان إلى ما يحقق غايةَ ومقصد وجوده أي سعادته.
مفهوم الفلاح
يذهب فلاسفة المسلمين ومتكلموهم إلى أن النفس الإنسانية لها قوتان: أولاها: القوة النظرية، وكمالها في المعرفة، وأعز تلك المعرفة وأشرفها معرفة المولى عز وجل. والثانية: هي القوة العملية، وكمالها في فعل الخيرات والطاعات وخدمة المولى عز وجل.
ترد كلمة الفلاح بمشتقاتها المتباينة في عدد من نصوص القرآن الكريم موصولة ومتعلقة، أي في سياق سلوك إنساني يقع في دائرة الأخلاق العملية، وبما يتضمن الأفعال الإرادية المحمودة كقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾(المؤمنون:1-3). وهكذا إذا تتبعنا الآيات نجدها قد خصت الفلاح والفوز لمن اتصفت أخلاقه العملية بهذه الطائفة من الآداب القرآنية، وكذلك في قوله تعالى ﴿لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:130)،
﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ﴾(البقرة:189). وبصفة عامة فإن صفة الفلاح تجيء في القرآن موصولة بهذه الأخلاق العملية سعيا للسمو بالسلوك الإنساني.
مفهوم الطمأنينة
الطمأنينة تعنى السكون والاستقرار؛ فقوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً﴾(الإسراء:95) أي مستقرين. وتستعمل في سكون القلب، فالقلب المطمئن ساكن بإيمانه بالله عز وجل، يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر. ولقد أخبر القرآن الكريم عن مقام النفس المطمئنة، وهي التي أشار إلى كونها تمثل غاية سمو النفس الشريفة في مسيرها وقصدها نحو الله عز وجل ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(الفجر:27-30)، وهذا التسامي والترقي يجيء في منحى كمالات قوى النفس النظرية التي هي غاية كمالها ورقيها على صعيد المعرفة. وأعزُّ تلك المعارف -كما أشرنا- وأشرفها معرفة الحق عز وجل، وهي المعرفة الربانية أو اللدنية كما يسميها الإمام أبو حامد الغزالي، التي تبدأ من حيث ملاحظة عجائب آثار الحق عز وجل لتقود إلى نقاءِ وصفاء تصورات النفس الكلية تجاه الوجود والحياة، ومن ثم الترقي في مدارج المعرفة سموا لبلوغ كمالات قوى النفس النظرية. ونلمح هذا المعنى في سياق قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(البقرة:260). فالإيمان الصادق يحرك أشواق الروح وتطلعاته لمعاينة أسرار القدرة الإلهية؛ مما يحيل الإيمان لتجربة شخصية ذاتية مباشرة يحياها الوجدان ويفيض الحس ويطمئن بها القلب، فلا تتم للنفس الإنسانية سكون أو اطمئنان إلا في ظل الإيمان الراسخ بالله والرقي إلى مقام المعرفة الربانية الحقة، ويؤدي هذا المقام بالمؤمن إلى تقوية الإحساس بالله والأنس بجواره، وهذا هو غايةُ ومقصد المعرفة الربانية، وذلك قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28).