بقلم/إبراهيم البيومي غانم
هناك رؤى تختزل العمل الخيري الإسلامي في صيغة مساعدات إغاثية وقتية، وتقصره على فئة من الناس دون غيرها. ولكن هذه الرؤى غير صحيحة، والصحيح هو ما توضحه مقاصد العمل الخيري في إطار النظرية العامة للمقاصد الشرعية. هنا نقدم محاولة لبيان مقاصد العمل الخيري التي تنقله إلى حيز التطبيق العملي، بعد أن أوضحنا في المقال السابق بمجلتنا الغراء “حراء” كيف أن العمل الخيري مقصد عام وثابت من المقاصد العامة للشريعة.
مقاصد الخير الإسلامي
للعمل الخيري الإسلامي أربعة مقاصد هي: الحرية، والتمدين، والسلم الأهلي، ومحاربة الفقر. وإليك فيما يلي بعض التفصيل لكل مقصد من المقاصد الخمسة للعمل الخيري التي اجتهدنا في استنباطها، وبيان صلة كل منها بالعمل الخيري ذاته باعتباره مقصدا عاما، وبيان صلة العمل الخيري بمقاصده هو ذاته.
1- مقصد الحرية
هو أول مقاصد العمل الخيري الإسلامي وأعلاها منـزلة. ففي مقدمة الأهداف التي يتوجه إليها العمل الخيري أن يسهم في “تحرير” النفس الإنسانية من الأغلال التي قد تكبلها لسبب أو لآخر، وتعوق حركتها، وتهدر طاقاتها. بعض هذه القيود معنوي ينتج عن ارتكاب الذنوب والآثام، وبعضها مادي ينتج عن حب المال وتمكن شهوة التملك من الإنسان، وبعضها سياسي ينتج عن الحروب وصراعات القوة . ونتيجة لتلك الأسباب فإن بعض بني آدم تقضي عليهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشونها أن تكون حريتهم مقيدة معنويا ومنهم العصاة والمذنبون، أو مقيدة ماديا، ومن هؤلاء: الرقيق والفقراء واليتامى والمساكين والأسرى والجهلة والمرضى والمدينون؛ وفي جميع هذه الحالات يجب شرعا المساعدة في تحريرهم ورفع الإصر عنهم وتحطيم الأغلال التي وضعت عليهم؛ كي يكونوا محلا صحيحا للإيمان، وكي يكونوا قادرين على استقبال التكاليف الشرعية وأداءها كما يريد الله سبحانه وتعالى؛ لأن غير الحر يكون غير قادر قدرة الحر على إقامة التكاليف الشرعية -أو هو ليس مثله علي الأقل- ولهذا يريد الإسلام أن يكون الإنسان حرا أولاً، ثم يخاطبه بالأحكام الشرعية ويكلفه بها.
ولسائل أن يسأل: كيف يكون مقصد الحرية من مقاصد العمل الخيري؟ وكيف يسهم العمل الخيري في تحقيق هذا المقصد؟ ونجيب فنقول: دلت آيات القرآن الكريم على أن من أعظم القربات تحرير الأرقاء، ومن ذلك ما جاء النص عليه في سورة البلد وعبرت عنه بـ”فك رقبة”. ولسنا مع قصر معنى فك الرقبة على ” تحرير الرقيق” أو “عتق العبيد والإماء” كما ذهب أغلب المفسرين. فسورة البلد مكية، ومن الأهداف العامة للسور المكية أنها تمهد لاستقبال العقيدة الجديدة، وتهيئ النفوس كي تثبت فيها هذه العقيدة على صفحة نقية. وضمن هذه الغاية نعت آيات السورة على بعض كفار مكة الذين أنفقوا أموالهم الكثيرة للمباهاة والمفاخرة ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا﴾(البلد:6)، ظنا منهم أن مجرد إنفاق المال الوفير يضمن لهم الفوز والنجاة. ولكن لما لم يكن هذا الإنفاق متضمنا “فك الرقاب” خاب سعيهم. وعبر القرآن عن هكذا إنفاق بـ”الإهلاك” إظهارا لعدم الاكتراث. والنتيجة هي أن من أنفق ماله دون أن يخصص جزءا منه للمشاركة في فك الرقاب؛ أي تحريرها، فلن يكون من الناجين. يقول الإمام محمد عبده في تفسيره: “ورد في فضل العتق ما بلغ معناه حد التواتر، فضلا عما ورد في الكتاب، وهو يرشد إلى ميل الإسلام إلى الحرية، وجفوته للأسر والعبودية”.
فكّ الرقبة بالمعنى الشامل
ونضيف إلى ما سبق أن عموم دلالة “فك الرقبة” لا يقتصر على تحريرها من أسر العبودية والرق بالمعنى الاصطلاحي الذي قصده أغلب المفسرين والفقهاء -وكان أكثر الرق قديما بسبب الحروب- وإنما يشمل أيضا فك الرقبة من كل ما يقيدها؛ فكها من قيد الجهل؛ فالجهل يقيد حرية الإنسان، كما يقيد الرق حريته. وفك الرقبة يكون أيضا من قيد المرض؛ فالمرض قيد على حرية الإنسان وحركته، وقد يقعده أو يمنعه من الاستمتاع بكثير من الحريات التي لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بها. ويكون فك الرقبة من قيد الديون؛ فالديون تقيد الحرية أيضا وتستذل المدين. وأخيرا وليس آخرا: يكون فك الرقبة من قيود الاستبداد التي تمارسها السلطات الطاغية؛ سواء كانت سلطة التقاليد والآباء الأولين أو الحكام المتجبرين أو الخرافات والأوهام والأساطير؛ التي تستذل الكبير وتسترذل الصغير. وتلك هي أهم الحالات الاجتماعية التي يكون بعض بني الإنسان عرضة لها في كل زمان ومكان.
وقد صنفت آيات سورة البلد الأعمال التي تستهدف فك الرقاب ضمن “أعمال الخير” الطوعية التي يقوم بها الإنسان باختياره وفطرته، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(البلد:10)؛ أي طريق الخير الذي يشمل مثل الأعمال المذكورة، وطريق الشر المقابل لذلك. ولما كان الإسلام متشوفا إلى الحرية، فقد جعل المسارعة في “فك الرقبة” بالمعنى الواسع الذي ذكرناه من أفضل الأعمال الخيرية الطوعية؛ ولهذا أكثر المسلمون على مر التاريخ من بذل الصدقات، وتخصيص قسم معتبر من ريوع الأوقاف للإنفاق على التعليم والعلاج وعتق الرقيق وافتداء الأسرى من يد الأعداء حتى لا يصيروا رقيقا، ومساعدة أصحاب المغارم والديون.
ونجد في آراء واجتهادات علماء السلف الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة ما يدل على إدراكهم العميق للحرية باعتبارها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلها؛ فمن غير الجائز عند أبي حنيفة –مثلاً- الحجر على السفيه، والحجر نوع من أنواع تقييد حرية الإنسان في التصرف. ويعلل أبو حنيفة ذلك بأن الحجر إهدار لآدمية هذا السفيه! ويقول: إن الحجر عليه “إلحاق له بالبهائم”، والضرر الإنساني الذي يترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله، ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه.
2- مقصد التمدين وعمارة الأرض
يسهم العمل الخيري في تحقيق درجة أرقى من التمدن الإنساني ورفع كفاءة المجتمعات في إعمار الأرض. ويأخذ إسهام العمل الخيري في تمدين المجتمعات صورا متعددة: منها ما هو مادي في شكل تبرعات ومساعدات تعين غير القادرين على تحسين مستوى معيشتهم، ولا تتركهم نهبا للمرض أو للجهل أو للفاقة والعجز، ومنها ما هو غير مادي في شكل مساهمات معرفية وعلمية تهدف إلى تنوير المجتمع ورفع قدرات أبنائه بصفة عامة، وغالبا ما كان تمويل إنتاج العلم والمعرفة على حساب العمل الخيري تحديداً في الاجتماع السياسي الإسلامي إلى ما قبل نشوء الدولة الوطنية الحديثة.
ويمكننا القول باطمئنان: إن أغلبية صور الأعمال الخيرية التي أسهمت في “تمدين” المجتمعات الإسلامية، وفي بناء حضارتها الشامخة، قد تجلت في “نظام الوقف” في معظم مراحل تاريخ هذه المجتمعات. فمن خلال الأوقاف وبتمويل منها نشأت أغلبية مؤسسات العلم والثقافة؛ داخل المساجد وخارجها في صورة مدارس ومعاهد، وكليات جامعية للمتخصصين، ودروس ومكتبات عامة. ومن بين أولئك الذين تلقوا تعليمهم في تلك المؤسسات الخيرية تخرج رواد كثيرون في مجالات علمية وتطبيقية متنوعة، شملت الطب والهندسة والكيمياء والزراعة والصناعة والفلك والصيدلة، إلى جانب مختلف الفنون والآداب والمعارف النظرية الأخرى.
العمل الخيري الإسلامي ليس “مرحلة أولية” من مراحل تطور العمل الاجتماعي الطوعي المعني بالشأن العام، وإنما هو ركن أصيل في بناء المجتمع وفي تمدينه وبناء تقدمه العلمي والمعرفي، كما أنه يتسع معناه لمختلف المراحل التي يشيرون إليها. وقد أثبتت التجربة التاريخية أن تطبيقاته تشمل مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الأعمال الإغاثية -ولها أهميتها التي لا يجادل فيها أحد- والأعمال التنموية، وأنشطة التأهيل والتمكين، والدفاع عن الحقوق، وتحصيل الحقوق الأساسية، والدفاع عنها. وثمة العديد من الأدلة والبراهين التي تثبت صحة ما نذهب إليه. فالمدارس والمستشفيات والمشاغل ومراكز التدريب المهني، ودور الإيواء، وكثير من الأشغال العامة (الطرق والقناطر وقنوات المياه والإضاءة…إلخ) كل ذلك أسهمت الأعمال الخيرية الإسلامية في تشييده وتحول العمل الخيري في هذه المجالات وفي غيرها إلى نظام مؤسسي متكامل الأركان إداريا واقتصاديا وقانونيا، وتجسد في “نظام الوقف”.
3- مقصد السلم الأهلي
يعزز العمل الخيري حالة السلم الأهلي بين الفئات الاجتماعية المختلفة بطرق متعددة، لعل من أهمها أن حصيلة المبادرات الخيرية تشكل شبكة من العلاقات التعاونية، وتدعم روح الأخوة والتراحم والتعاطف في الاجتماع السياسي الإسلامي بصفة عامة. وإلى ذلك أشار العلامة ابن عاشور حيث يقول: “عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة، الخادمة لمعنى الأخوة؛ فهي مصلحة حاجية وتحسينية جليلة، وأثر خُلُق إسلامي جميل؛ فبها حصلت مساعفة المعوزين وإغناء المقترين وإقامة الجم من مصالح المسلمين”.
وإذا كان الإنسان “ذئبا” لأخيه كما يرى بعض فلاسفة النهضة الأوربية الحديثة مثل “توماس هوبز” مثلا، فهو أخ للإنسان في الرؤية الإسلامية؛ يسعى لإسعاده ويتعاون معه على عمل الخير، ومحرمٌ عليه أن يتعاون معه على الشر أو الإضرار بالغير. قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾(المائدة:2).
وقد تكررت وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم التي تحض على فعل الخير لنفع الناس -مطلق الناس- قال صلى الله عليه وسلم: “خير الناس، أنفعهم للناس” (رواه الطبراني والضياء). وقال: “كل معروف صدقة” (رواه البخاري). كما حض النبي على المبادرة بفعل الخير ولو كان شيئا بسيطا جدا، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقىأخاك بوجه طليق” (رواه مسلم)، وقوله: “اتق النار ولو بشق تمرة”(متفق عليه)، واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من الصدقات التبسم في وجه الآخر، فقال: “تبسمك في وجه أخيك لك صدقة” (رواه الترمذي)، وغير ذلك كثير من الأحاديث الشريفة التي تركز على المبادرة بعمل الخير بشكل عام، وتنبّه إلى ضرورة أن ينتشر على أوسع رقعة ممكنة من النسيج الاجتماعي عبر المبادرات التي يستطيع أن يقوم بها كل إنسان مهما بلغ ضيق ذات يده؛ إذ أرشد صلى الله عليه وسلم إلى كثير من المبادرات الخيرية قليلة التكلفة (شق تمرة)، أو التي لا تكلف شيئا ماديا يذكر (وجه طلق) أو (البسمة الصدقة)؛ وذلك لما لهذه المبادرات الخيرية المتنوعة في قيمها المعنوية والمادية من تأثير كبير في إشاعة جو من الطمأنينة والسلام والأمن بين أعضاء المجتمع مهما اختلفت مواقعهم الوظيفية، ومهما تباينت مراتبهم الاجتماعية. ومن ذلك ومن مثله عرفنا أن من مقاصد العمل الخيري الإسهام في تعزيز السلم الأهلي، وتقوية شبكة العلاقات التعاونية بين أبناء المجتمع.
ويسهم العمل الخيري في تحقيق مقصد “السلم الأهلي” بصور أخرى متعددة، منها: المسارعة إلى إزالة نقاط التوتر من المجتمع، ودفع الحراك الاجتماعي.
بالنسبة للمسارعة إلى إزالة نقاط التوتر من المجتمع، نجد أن العمل الخيري يسهم فيها بشكل مباشر؛ وذلك في أوقات الأزمات التي قد يتعرض لها المجتمع، أو عند وقوع الكوارث والأوبئة التي قد تصيب فئة أو أكثر من فئات المجتمع. وهنا تظهر أهمية الأعمال الخيرية الإغاثية التي تقدم المساعدات العاجلة من كساء وغذاء ومأوى وإسعافات أولية وما شابه ذلك.
ويحدث العمل الخيري أثره الإيجابي ليس فقط في الوسط الاجتماعي الذي يقدم له الفرد مبادرته الخيرية، وإنما على معنويات فاعل الخير نفسه؛ إذ يكون عمل الخير سببا من أسباب سعادته في الحياة، وتزكية نفسه وانشراح صدره وتقوية حبه للآخرين، والسعي في جلب النفع لهم، ودفع الأذي عنهم.. إلى جانب أن عمل الخير يشعر فاعله بمكانته ودوره في محيطه الذي يعيش فيه، ويدعم إحساسه بأن لديه مقدرة -حتى وإن كانت محدودة- على مواجهة مشكلات مجتمعه والإسهام في إصلاحه.
وأما عن أثر العمل الخيري في دفع الحراك الاجتماعي، فيتجلى بشكل واضح في نظام الوقف. وقد كشفت التجربة الحضارية الإسلامية عن أنه كلما زاد العمل الخيري وتشعبت موارده وتعددت مؤسساته والخدمات العامة التي توفرها، قل نطاق الاستبعاد الاجتماعي لبعض الفئات بسبب الفقر أو العجز، وتراجعت بالتالي فرص القلاقل والنـزاعات الأهلية والانقسامات الأهلية، وتعزز الاستقرار، وتهيأت فرص الإبداع والابتكار.
4- مقصد محاربة الفقر
العمل الخيري بمختلف صوره هو أحد السياسات الاجتماعية التي تستهدف القضاء على الفقر، وتسعى بشكل دائم ومستمر لتجفيف منابعه، وإخراجِ من يدخل في دائرته، وإعادةِ إدماجه في دورة العمل والإنتاج؛ كي يصبح معتمِدا على ذاته، مسهما في بناء مجتمعه وفي مساعدة غيره، خاصة أن علة الفقر تصحبها علل أخرى كثيرة مثل الجهل والمرض والبطالة والجريمة. وهي علل ذات آثار سلبية، تدمر قدرات المجتمع، وتعوقه عن التطور والنمو.
ويسعى النظام الإسلامي عامة إلى اجتثاث الفقر من المجتمع بوسائل متعددة، وكلما نبتت بوادر جديدة للفقر -وهذا أمر يتكرر ولا يمكن تحاشيه- أسرع إلى محاصرته وتجفيف منابعه. والمثل الأعلى للمجتمع الإسلامي من هذه الزاوية هو أن لا يكون فيه فقراء.
إن أول مصرف للزكاة المفروضة هم “الفقراء والمساكين” بنص قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾(التوبة:60). ووردت الزكاة في 32 موضعا في القرآن الكريم، منها 27 موضعا جاءت مقرونة بالصلاة، ووردت في أكثر من 80 موضعا إذا أضفنا إلى ذلك المصطلحات الأخرى التي تشترك معها كليا أو جزئيا في المعنى مثل النفقة والصدقة التي استعملت للحض على معالجة مشكلة الفقر على وجه التحديد.
إلى جانب الزكاة المفروضة حثت شريعة الإسلام على المبادرة بالأعمال الخيرية الطوعية للإسهام في مواجهة مشكلة الفقر، ومن أهم صور هذه الأعمال الخيرية: الصدقة التطوعية والوقف والهبة والانتفاع بفائض رؤوس الأموال والمنح التي تعطى لغير القادرين بدون تحصيل فوائد منهم (القرض الحسن). ومن ذلك كله عرفنا أن محاربة الفقر مقصد أساسي من مقاصد العمل الخيري. وتتجلى في ميدان مكافحة الفقر الجدوى الاجتماعية والاقتصادية للعمل الخيري الذي يثاب فاعله بالأجر الجزيل من رب العالمين.
ويمتلئ تراثنا الفقهي بمطارحات عميقة حول مشكلة الفقر المسائل والمشاكل التي ترتبط به؛ بدءا بتعريف الفقر ما هو؟ مرورا بكيفية قياسه وما أهم مؤشراته، وكيفية مواجهته، وصولا إلى مناقشات فلسفية عميقة حول المفاضلة بين الغنى والفقر، وأيهما بحاجة إلى الآخر: الغني إلى الفقير، أم الفقير إلى الغني؟ أم إن كلا منهما بحاجة إلى الآخر؟
ومن الملفت للانتباه أن ما تتناوله البحوث والدراسات الاقتصادية الحديثة تحت عنوان معضلة قياس الفقر، وكيفية تحديد “خط الفقر”، قد تناولها فقهاء الإسلام منذ قرون طويلة خلت. فالحسن البصري وأبو عبيدة مثلا كانا يحددان ما نسميه اليوم “خط الفقر” برصيد نقدي مقداره أربعون درهما، واستدلا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يسأل رجل أوقية أو عدلها إلا سأل إلحافا” (رواه أحمد والنسائي). وذهب الحنفية إلى أن الفقير هو من يملك أقل من نصاب الزكاة؛ ربع أو خمس النصاب كما قال البصري وأبو عبيدة، والمسكين عندهم هو من لا يملك شيئا. أما الطبري فيرى أن الفقير هو المحتاج المتعفف. وجمهور المالكية والشافعية والحنابلة يقولون: إن معنى الفقر مرتبط بمستوى الكفاية، ومدى تلبية احتياجات الإنسان الأساسية.
وثمة من قدماء العلماء من اهتم بتحليل ظاهرة الفقر تحليلا اجتماعيا واقتصاديا؛ بل ونجد في كتب التراث بحوثا شبه ميدانية تتضمن معلومات وآراء تساعد على فهم الأبعاد المختلفة التي تنطوي عليها مشكلة الفقر، وكيف تؤثر على بعض الفئات وخاصة العلماء والمثقفين، وكيف تؤثر أيضاً على مجمل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
وسائل محاربة الفقر
وللفقر صلة وثيقة بالقهر، وليس فقط بالجهل وبالمرض. ولهذا كان “التصدي للفقر” في مقدمة أولويات العمل الخيري في الممارسة الاجتماعية في الاجتماع السياسي الإسلامي، وتجلى ذلك بأوضح ما يكون في نظام الوقف الإسلامي عبر أغلب مراحله التاريخية. وبفضل تراكم الخبرات الاجتماعية في ممارسة العمل الخيري تبلورت أربع وسائل لتنظيم إسهام العمل الخيري في محاربة الفقر، واختصت كل وسيلة بشريحة أو أكثر من شرائح الفقراء.
1-المساعدات النقدية التي تقدم للفقراء موسميا، وخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية، أو تقدم لهم في أوقات حاجتهم إليها.
2-المساعدات العينية التي تشمل: الطعام، والماء، والكساء، وبعض أدوات الإنتاج البسيطة، والدواء، والمأوى أحيانا، وهي تقدم للفقراء والمعوزين موسميا أيضا أو في أوقات حاجتهم إليها؛ شأن المساعدات النقدية.
3-المساعدات المؤسسية؛ ونقصد بها تلك المساهمات التي يقوم بها فاعلو الخير من أجل دعم أو تمويل أو إنشاء مؤسسات تقدم خدمات عامة مثل: المساجد والمدارس والمستشفيات ومستوصفات العلاج ودُور الرعاية الاجتماعية التي تقدم خدماتها للأيتام والعجزة والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة.
4-المساعدات الفنية، وتشمل ما يتطوع به فاعلو الخير من خبرات واستشارات ومشاركات يقدمونها بدون أجر مادي، ويسهمون بها في تدريب وتأهيل الراغبين في العمل ولكنهم غير قادرين على تحمل نفقات التأهيل المهني اللازم لدخولهم سوق العمل.
وجرى تمويل هذه المنظومة الخيرية عبر طرق متعددة منها: الزكاة والوقف والوصايا والهبات الخيرية والنذور، والكفارات، والصدقات التطوعية الأخرى.