بقلم/ الشاهد البوشيخي
والتكريم جعل الشيء المكرم كريما في ذاته ليس منعما عليه إنعاما عاما بصفة من الصفات أو بمجموع من الصفات، ولكنه جعله في حد ذاته كريما أي نفيسا. فكل شيء شُرف في بابه فقد كُرم، والتكريم جعل الشيء كريما فعلا، والله عز وجل حين قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ خاطب “الإنسانية” بتعبير اليوم، و”بني آدم” بتعبير القرآن، فأفاد أمرين: أفاد تكريما لهؤلاء الذين تناسلوا من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، ذكورا كانوا أم إناثا، وأفاد أن من تكريمهم أيضا أنهم قد تناسلوا من آدم، وآدم قد كرم قبل في الانطلاق، في انطلاق الإنسانية منه، وذلك ما جاء على لسان إبليس نعوذ بالله منه حين قال: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(الإسراء:62)، ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ إشارة إلى آدم عليه السلام حين أمر الله عز وجل الملائكة أن يسجدوا له. فآدم بنص هذه الآية قد كرم أيضا، وبنص الآية الثانية كُرمت ذريته، ومن تكريم ذريته إشعارهم وتذكيرهم بأنهم أبناء آدم. فما هي مظاهر تكريم آدم عليه السلام؟
مظاهر التكريم الإلهي لآدم عليه السلام
آدم عليه السلام قال الله عز وجل فيه: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾(ص:75)، فأول تكريم لآدم أن خلقه الله بيده، وهذا فيه تنبيه على أن هذا الخلق ليس خلقا عاديا من قبيل “كن فيكون”، ولكنه خلق له خصوصية، هي أن الله باشره بيده، فهذا تنويه بنفاسة هذا الإنسان وهذا المخلوق، ثم إنه عز وجل بعد ذلك قال: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾(الانفطار:6-7).
﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(ص:71- 72).
هذه التسوية ترشد إليها آية أخرى بعبارة أخرى توضح معنى هذه التسوية حين يقول الله عز وجل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التين:4). هذه هي التسوية والتعديل الأول، والتسوية والتعديل اللاحق في كل مخلوق، أن يفطر الناس جميعا على الفطرة الأولى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾(الروم:30)، هذه التسوية أيضا مظهر من مظاهر التكريم لآدم عليه السلام.
ثم بعد ذلك الله عز وجل نفخ في هذا المخلوق من روحه ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(ص:72). ففي هذا الإنسان في الأصل الأول شيء من روح الله عز وجل، به سيصلح بعد لتلقي هذه المهمة الكبيرة التي أنيطت بالإنسان، مهمة الخلافة، به سيصلح بعد أن يكون عابدا لله عز وجل، به سيصلح بعد لتلقي الهدى النازل من عند الله عز وجل، الذي هو أيضا من جنس ما نفخ في آدم عليه السلام، أي إنه أيضا من روح الله كما قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾(الشورى:52). فهذا القرآن وكل الهدى النازل من عند الله عز وجل، هو من جنس ما نفخ في آدم عليه السلام؛ وبهذا النازل يقع الالتحام مع هذا القسم في الإنسان، فيكرم الإنسان ويشرف ويسمو. إذ هذا النفخ من روح الله عز وجل فيه هو من مظاهر تكريم آدم عليه السلام.
ثم أمر الله عز وجل ملائكته -وهم عباد مكرمون- بأن يسجدوا لآدم عليه السلام، وهذا أيضا مظهر من مظاهر تكريم هذا المخلوق، وفيه إشعار بأن جميع هؤلاء الملائكة -وهم جنود مجندون للقيام بوظائف لا عد لها ولا حصر في ملك الله- سيخدمون هذا الكون الذي هو أيضا خادم لهذا الإنسان، ليعبد اللهَ عز وجل.
ثم هذا التعليم للأسماء كلها وهو مناط الخلافة، فالملائكة حين أخبرهم الله عز وجل قبل خلق آدم بأنه جاعل في الأرض خليفة قالوا مستغربين: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾(البقرة:30-33). فهذا التعليم لآدم هو محض موهبة وفضل من الله عز وجل منّ به على أبينا الأول آدم عليه السلام الذي هو أصل الإنسانية ذكورا وإناثا، ثم من بعده كان إشعار بهاته النعمة نفسها على آخر صفوة خلقه كذلك محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق:3-5)، هذا جاء بعد صفة الأكرم نفسها التي منها صدر التكريم لهذا الإنسان. ومظهر هذا التكريم الأول هنا هو تعليم الإنسان ما لم يعلم، وهذا التعليم هو الذي ميز الله به آدم عليه السلام عن ما سواه بأن أودع فيه القابلية للتعلم، وهذا يعني منة أخرى أنه جعل له فؤادا أو قلبا أو عقلا يستقبل به هاته المعلومات ويحصل له به التعلم، ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَاْلأَبْصَارَ وَاْلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾(الملك:23)، هاته المصادر التي تدخل المعلومات إلى هذا القلب وهذا العقل الذي يستقبل، به تعلم هذا الإنسان وبه حصلت له منة أخرى.
حرية الاختيار
ومظهر آخر من مظاهر التكريم هو أنه مُنح الحرية والاختيار، ومعهما تكون -طبعا- المسؤولية؛ وهذا أيضا بالنسبة لآدم أيضا في اللحظة الأولى حين قال له ولزوجه: ﴿فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾(الأعراف:19) هذا أمر، وهذا نهي: لكما الحرية كل الحرية ولكما الاختيار التام بأن تفعلا هذا أو هذا، لكن إذا حدث هذا فلا إشكال ولكما الأجر؛ وإذا حدث هذا فهناك إشكال ولكما الوزر، فتنبني على الحرية دائما المسؤوليةُ، وعلى المسؤولية الثواب أو العقاب، فهذا أيضا من مظهر تكريم الله عز وجل لهذا الإنسان، أنه منحه عقلا به هو حر يختار، عقل مميز، يميز به بين الصالح والطالح، بين ما ينفع وما يضر، بين الطيبات والخبائث، وأصدر له الأمر على ضوء ذلك، عكس الملائكة الذين هم مسخرون لما هم مسخرون له، وعكس الشياطين الذين هم مصدودون عن الطاعة ولا يعرفون إلا المعصية، هذا الإنسان كان مسؤولا عن الحرية التي أعطيت له.
ثم إن من مظاهر التكريم المرتبطة بهذه الحقيقة نفسها هو أن الله علم هذا الإنسان كيف يصلح خطأه إذا أخطأ، وكيف يعود إليه مكرما إذا أهان نفسه بالخطأ، وكيف يمحو السيئة بالحسنة ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾(البقرة:37)، هي كلمات الاستغفار، وصارت هذه دائمة في بنيه مستمرة ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(الأنفال:33). بعد ذلك كانت هاته المنحة الكبيرة التي من أجلها خلق آدم، هي منحة الخلافة، هي منة الخلافة؛ بعد كل هذا وبعد هذا التدريب في هاته الصور استخلف آدم في الأرض؛ إذ في الأمر الأول قال الله عز وجل للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30) وكل ما سبق ذلك من صور التكريم الأولى ومن التداريب التي أجريت عليه في مرحلة الجنة، كل ذلك تحضير للمنة الكبرى التي هي الخلافة، التي من أجلها خلق آدم ومن أجلها كان ما كان من بعده من ذريته؛ فهذا أيضا من تكريم الله عز وجل له؛ وما معنى هاته الخلافة؟ معناها أن هذا الإنسان في موقع النيابة عن الله عز وجل، ولكن لا ينوب أحد عن الله عز وجل، فالله عز وجل وضع هذا الإنسان في موقع أعطاه فيه الحرية والاختيار وزوده باللوازم الضرورية للقيام بالمهمة وجعله في الأرض وسخر له كل ما سواه، هذا لا يظهر في التكريم الأول لآدم عليه السلام ظهورا واضحا، ولكنه سيظهر بعد في مظاهر تكريم ذريته من بعده.
تكريم آدم تكريم لذريته أيضا
فإذاً مظاهر تكريم الله عز وجل لآدم عليه السلام كثيرة ومتنوعة، وهي تجعله في موقع عليّ جدا، وحسبنا أنه في موقع الخليفة وأنه حين أهبط إلى الأرض واستخلف فيها زُود بالهدى والاجتباء ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾(طه:122) فحصلت له هاته الهداية التي جعلت لا يصدر منه إلا ما ينسجم مع تكريم الله عز وجل. وهاته الهداية ستستمر قانونا عاما في ذريته من بعده.
فهذا التكريم لهذا الإنسان الأول الذي هو آدم عليه السلام ستصبح الإشارة إليه في حد ذاتها مظهر من مظاهر تكريم بني آدم، أي إن الله عز وجل حين قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70) ولم يقل “ولقد كرمنا الناس” أو “البشر” أو “الإنسان”، فهو إشعار لهم بأنهم أبناء ذلك المخلوق الأول ذي النعم المذكورة، والموقعِ الذي هو موقع النبوة والرسالة، الراشد المهدي، والعبد الصالح المصلح، والإنسان السيد وسط كائنات متعددة متنوعة كلها جُعلت خادمة له وخُلقت من أجله، وخُلق هو لشيء آخر هو العبادة.. فهاته الإشارة: ﴿بَنِي آدَمَ﴾ في حد ذاتها تكريم للإنسان خصوصا في زماننا هذا، حيث أَرجع من أرجع أصل الإنسان إلى القرد.. إلى كائنات هي في الأصل خادمة للإنسان وخلقت مسخرة له. فمِن امتهانِ الإنسان وإهانته أن يُجعل خادما لغير الله عز وجل، ومن تكريم هذا الإنسان ألا يجعل عبدا إلا لله عز وجل. فما هي مظاهر تكريم بني آدم بعد آدم عليه السلام؟
مظاهر التكريم بعد آدم عليه السلام
مما نص عليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة أن هذا الخلق كله لاسيما مخلوقات الأرض، ما خلقت إلا لبني آدم ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾(البقرة:29). ثم أيضا من تكريم الله عز وجل لبني آدم أنه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾(لقمان:20). هذا التسخير فيه ما يدخل ضمن الإرادة البشرية، بمعنى أننا نكتشف سننه ونكتشف مفاتيح تسخيره، فهو داخل في قوله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾(فصلت:53). وفيه ما هو فعلا يمدنا بعطاء مستمر دائم لا حد له ولا حصر، لا يملك حتى القدرة الإحصائية، وقد أشار الله تعالى في آيات متعددة أنه سخر لنا الشمس والقمر، وسخر لنا الليل والنهار والبحر والفلك والأنعام… وما لا نعلم ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾(إبراهيم:34). فالله عز وجل سخر لنا كل شيء، هذا لنشعر نحن بجليل نعمة الله عز وجل علينا، فنشكر المنعم الكريم، ونتجه إلى أن نعبده بكل ذلك الذي سخر لنا، ونحسن تسخير ذلك في عمارة أرضه وفي نفع عباده كما في الحديث: “الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله” (رواه أبو يعلى والطبراني).
إنزال الهدى الرباني
ومن هاته المظاهر إنزال الهدى الرباني إليهم، وتزويدهم بمنهج يحفظ لهم كرامتهم، ويحافظ على ذلك التكريم الأول الذي لهم في الأصل أي آدم الذي منه تناسلوا، وعلى التكريم الأول الذي هو الفطرة التي خلقوا عليها. إذ من الولادة إلى البلوغ تعرو الإنسان حالات متعددة تؤثر فيه، حالات كسبية قد تطمس فطرته تماما، ذلك أن إبليس حين قال الله عز وجل: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(الإسراء:62). منذ تلك اللحظة يئس من آدم خصوصا بعد الاجتباء، ولكنه قطع وعدا على أن يعترض ذريته من كل الوجوه ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾(الأعراف:16-17)، هم خلقوا حنفاء كما قال الله عز وجل: “خلقت عبادي حنفاء” (رواه مسلم)، أي على الفطرة المستقيمة كأبيهم آدم عليه السلام، ولكن إبليس هذا الذي لم يرض أن يكرم آدم عليه، قطع وعدا على أن يضل أبناء آدم، ويقعد لهم في الطريق نفسه، في الصراط، حتى أنه حذف الخافضة لم يقل: “في صراطك المستقيم”. ونظرا لهذا الأصل الأول الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾(فاطر:6)، هو عدو لكم في الأصل، من لحظة الانطلاق، وقطع على نفسه أن يعاديكم باستمرار، لا يعرف كللا ولا مللا، وليست له وظيفة ولا مهمة غير هاته، فاتخذوه يا بني آدم عدوا، أقول: إبليس وجنده وأتباعه من شياطين الإنس والجن يجتهدون على أبناء آدم في أن يخرجوهم عن الصراط المستقيم، أن يخرجوهم من النور إلى الظلمات ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ (البقرة:257)؛ عملية الإخراج هاته التي قد تأتي تجعل الإنسان بعد أن يصير مسؤولا ويتأهل لحمل الأمانة بعد أن يبلغ ويرشد، يواجه الأمانة مباشرة، في هاته المرحلة يأتيه الهدى، يأتيه المنهج الرباني الذي يرشده إلى الكيفية التي بها يعود إلى كرمه الأول، والتي بها يحافظ على تكريم الله عز وجل له، والتي بها يكرم سواه أي يعامله معاملة كريمة، هذا المنهج هو الرسالات كلها، من أجل هذا الأمر جاء الرسل وأنزلت الرسالات، بتعبير آخر: إن الله عز وجل من تكريمه لبني آدم أنه منحهم هدية منه رحمة بهم وتفضلا منه تعالى. هي منهج إذا صاروا عليه ظلوا كرماء كأبيهم آدم بعد أن اجتباه الله وهداه، وحافظوا على هذا الكرم وعاملوا بعضهم بعضا بما يناسب هذا الأصل الأول الذي هو التكريم. إذاً فكل خروج عن منهج الله عز وجل فيه إهانة لهذا الإنسان، وفيه تدنيس له، لأن الكرم يضاده اللؤم، فالذي يخرج في تعامله فردا كان أو جماعة عن منهج الله عز وجل هو في الحقيقة يصير بذلك لئيما غير كريم، ويعامل الآخر معاملة لئيمة ليست كريمة. وبما أن ضد الكرم الإهانة ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾(الحج:18)، كل خروج عن منهج الله عز وجل فيه إهانة للنفس نفسها وإهانة للآخَر الإنسان المعامَل ومخالفة للأصل الأول ولمقتضى الفطرة، ولتكريم الله لآدم وبني آدم.
ما هي الأسس الكبرى لهذا المنهج؟ نكتفي بأمرين فقط، مظهران كبيران لتكريم الله عز وجل للإنسان في المنهج النازل لهذا الإنسان:
ميثاق الخلاقة
الأمر الأول: أنه طلب منه أن يعبده هو وحده لا شريك له، وجعل الهدف من خلقه هو هذا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56)، وجعل شديد العقوبة بل أشد العقوبة على الإطلاق أن يعبد هذا الإنسان غير الله ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(النساء:48)، لِمَ؟ لأن عبادة الإنسان لغير الله فيها إهانة عظمى لآدم الذي ننتسب إليه والذي أسجد له الملائكة وجعل خليفة وسيدا على سواه فيهينه هذا العابد لغير الله بعبادة شيء أدون من هذا الإنسان، فكأن الإنسان ينتكس تماما ويُدسى ويحط من قيمته، فبدل أن يتجه إلى فوق بأن يكرم ويشرف يدنى ويتجه إلى تحت، لأنه يعطي العبادة للأقل منه بدل أن يعطيها للأكبر منه الذي هو الله عز وجل. ومثل ذلك إذا أعطاها لمثله لماذا؟ لأنه وضع الشيء في غير موضعه، إذ من ميثاق الخلافة أن هذا الإنسان لا يعبد إلا الله وفق ما أنزل الله وهدى الله ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنيِّ هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:38) فأن يعبد غير الله -كيفما كان هذا الغير- هو وضع للشيء في غير موضعه ومخالف للتكريم، لأن أمره بعبادة الله عز وجل هو من تكريم الله عز وجل له، أن يتجه إلى الأعلى إلى الله عز وجل، وحين ينصب مخلوق ما في مقام المعبود كذلك يضع نفسه في غير الموضع الذي وضع فيه، وذلك أيضا خلاف التكريم لهذا الإنسان.
فإذاً هاته النقطة التي هي عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، وتعبيد الناس لله وحده لا شريك له هي أكبر مظهر لتكريم بني آدم، وعكسها هو أكبر إهانة وتدنيس لهذا الإنسان، لأن في التكريم تزكية وتطهرا ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾(الفرقان:72) أي لم يتدنسوا بذلك اللغو وكانوا متطهرين. فكلُّ وضعٍ فيه غيرُ وضع العبادة هو وضع فيه إهانة للإنسان، وهو مخالف لتكريم هذا الإنسان كيف ما كان هذا الوضع، ولذلك عبر الله عز وجل بقوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(لقمان:13). والظلم في العربية هو وضع الشيء في غير موضعه. فلا يوجد خلل بدرجة هذا الخلل، فما خُلق الإنسانُ له أساسا يقع فيه الخلل، ويُعكس تماما.
إقامة القسط بين الناس
الأمر الثاني: يَتْبَعُ هذا وينتج عنه وله كذلك جاءت الرسالات كلها، وله نزل هذا الهدى من عند الله عز وجل، هو إقامة القسط بين الناس: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25). فكل ما حدث قبلُ هو من أجل هذا الأمر، هذا القسط الذي تشير إليه هذه الآية هو الذي يحفظ لكل ذي حق حقه، أي هو الذي يجعل الإنسان في نفسه يعامل نفسه بكرم ويحافظ على تكريم نفسه كأصل خلقتها الأولى وهو الذي يجعله حين يتجه بسلوكه نحو الآخر، كذلك يعامله بكرم.
ومن هاهنا كانت كل النواهي تعني أن المنهي عنه فيه إهانة للإنسان، وإضرار بالإنسان، وفيه خلاف تكريم هذا الإنسان.. وكل الأوامر عكس ذلك؛ فيها تكريم لهذا الإنسان، وفيها فعل ما يجعله كريما وما يناسب كرمه، لأنها تجر إليه المنفعة، وتدرأ عنه المفسدة. فإذاً كل الصفات الخبيثة وكل الأفعال القبيحة هي في هذا الميزان إهانة للإنسان وليست إكراما له، فهي مناقضة لتكريم الإنسان.
وعلى ضوء هذا نستطيع القول بأن الإنسان اليوم في وضع لا يحسد عليه؛ الإنسان في العالم الإسلامي وفي غير العالم الإسلامي لا يحظى بهذا التكريم لسبب بسيط واضح أنه لا يسير وفق هذا المنهج الذي هو وحده يضمن تكريم هذا الإنسان ويضمن معاملته بكرم، وهو وحده الذي يقوم الناس فيه بالقسط، لأن من الذي يعرف القسط أولا؟ هل يستطيع الإنسان أن ينصبّ نفسه في موقع المشرّع لهذا الإنسان؟ هل يستطيع الإنسان أن ينصبّ نفسه في موقع يخطط فيه لهذا الإنسان بمعزل عن هدي الله لهذا الإنسان؟ كلا ثم كلا؛ هل يستطيع هذا الإنسان بمحض عقله فقط، وبمحض إمكاناته الشخصية التي ليس لها مدد من الله عز وجل الماثل في الرسالات وهي هنا في زماننا القرآن الكريم؟
هل يستطيع الإنسان اليوم بغير القرآن أن يهتدي إلى طريقة على جميع المستويات: في المستوى الاقتصادي والسياسي والتعليمي والإعلامي والحقوقي والمادي والروحي…؟ هل يستطيع الإنسان بمحض إنتاجه الشخصي معزولا عن الله مستقلا عن هدى الله مبتعدا عن منهج الله؟ هل يستطيع فعلا أن يرسم لبني آدم طريقة بها يعيشون مكرمين كما خلقهم الله عز وجل؟ كلا ثم كلا؛ إنه لا تكريم لهذا الإنسان في ديارنا هاته وفي غير ديارنا، وفي دار الأرض كلها التي وُعد بوراثتها الصالحون ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105)، وعباد الله الصالحون يشرحهم الآية بوضوح، قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾(العنكبوت:9)، والإيمان عنوان على كل ما يدخل إلى عقل ابن آدم من المعلومات التي مأتاها الوحي أساسا، و”عمل الصالحات” هو عنوان على كل ما يلزم لخلافة الله عز وجل في الأرض وفق شرع الله، وفق هدى الله، حسب ميزان الله، فلا صلاح لعمل إلا من بعد أن يأذن الله في هذا العمل ويرضى عنه.