بقلم/عرفان يلماز
ومع أن عدد العظام في جسدك يبلغ 217 عظمة إلا أن التحام بعض هذه العظام في منطقة الورك والرِدف والعصعص وتكوينها بنية قوية يقلل هذا العدد إلى 206 من العظام، منها 22 في القحف، و32 في العمود الفقري و24 في الأضلاع و64 في اليد والذراع وعظم الكتف و66 في القدم والرجل والورك. ثم هناك ست عظام صغيرة في الأذن، فإذا أضيفت عظمة واحدة في الصدر وعظمة في منبت اللسان يصبح العدد 217 عظمة.
الهندسة الربانية الرائعة
وقد ألف هذا العدد الكبير من العظام فيما بينها نظاما رائعا يذهل الإنسان عند تأمله، فقد خُلقتْ كل عظمة من هذه العظام بشكل خاص حسب موقعها وحسب الأوصاف التي تملكها. فالعظام التي تقوم بحفظ وصيانة الدماغ مسطحة الشكل، أما عظام الذراع والرجل فأسطوانية الشكل وطويلة، وعظام الرسغ كروية، والعظم الكتفي وعظام الورك كبيرة ومتكونة من أجزاء كبيرة. ولكي ترتبط العضلات بعظامي جُعلتْ هناك نتوءات مناسبة فوق سطح هذه العظام.
ومن الممكن حساب الثقل وقوة البرم وقوة الضغط التي تستطيع كل عظمة تحملها. وقد درس العديد من المهندسين العاملين في علم الحياة أشكال هذه العظام فلاحظوا أنها خلقت في أفضل شكل حسب مواقعها وحسب الوظائف التي تقوم بها، واستفادوا منها عند صنع بعض النماذج المستعملة في التكنولوجيا. وكما تَعرف يجب على المهندسين الذين يقومون بتصميم وبناء الجسور أن يكونوا دقيقين جدا في حساباتهم، إذ يجب عليهم استعمال مواد معينة في المناطق التي تتعرض للضغط، ومواد أخرى في المناطق التي تتعرض للشد. فإن لم يقم المهندس بأخذ هذا بنظر الاعتبار، ولم يقم بالحسابات الضرورية انهدم الجسر بكل سهولة. ثم هناك أيضا ناحية الإسراف في استعمال المواد، فقد تعمل أو تبني شيئا متينا ولكنه يكون ثقيلا ومُكْلفا. وأحيانا تستعمل مواد ولكنك لا تستعملها في الموضع الصحيح فتذهب جهودك سدى. ولكن الله سبحانه وتعالى خلقني بشكل دقيق وحساس بحيث لا تستطيع العثور في أي عظمة من عظامي علىخطأ واحد، فلا مادة زائدة أو ناقصة فيها. ولا يمكن تفسير هذا الأمر إلا بإرجاعه إلى خالقٍ ذي قدرة وعلم لانهائيين.
ولكي تستطيع القيام طوال حياتك بجميع الحركات من ركض أو نوم أو قفز أو حمل ثقل أو أي شكل من أشكال الرياضة أو بالكتابة أو بتناول الطعام وغيرها من مئات الحركات فقد خلق الله تعالى كل عظمة من عظامي وكل الأنسجة والعضلات الرابطة بشكل مناسب وملائم لأداء جميع هذه الحركات، لذا استعمَل مواد مختلفة في المتانة والتحمل والقوة. وتأتي مادة العظم في مقدمة هذه المواد.
وعظامي ليست كلها متشابهة؛ فمادة العظم المضغوط المتضام تؤلف أصلب أجزاء العظام كالموجودة في عظمة الفخذ وعظمة القصبة الصغرى وعظمة بطة الساق (الربلة). فهذه العظام صلبة، أما الأجزاء المفصلية الموجودة في نهايات العظام وكذلك الأجزاء الداخلية للعظام المسطحة فهي ببنية إسفنجية وتوجد فيها فراغات، لذا فهي أكثر ليونة.
وهناك مادة أخرى مستعملة وهي الغضاريف التي توجد في نهايات العظام وفوق سطوح المفاصل لمنع تآكلها، وكذلك لامتصاص الضغوط الواقعة على هيكلي العظمي لمنع انسحاق الأعصاب التي تمر من هذا الهيكل العظمي، فهذه الغضاريف تؤمّن لي مرونة جيدة وكاملة ومنظرا جميلا. وبفضل المرونة والخواص التي وهبها الخالق للغضاريف تتم الحيلولة دون تكسّر العظام بسهولة بسبب صلابتها وعدم مرونتها، وتعطي هذه الغضاريف مرونة في حركة العظام. ولو لم توجد الغضاريف في نهايات المفاصل لتآكلت سطوح العظام بسهولة ولكانت حركاتك حركات ميكانيكية وغير مرنة تماما مثل حركة الإنسان الآلي (الروبوت).
والمادة الثالثة المستعملة هي الأنسجة الرابطة والألياف، وهي متكونة من مادة بروتينية اسمها الكولاجين. وهذه الأنسجة الرابطة عبارة عن حبال متينة تربط بين الألياف والغضاريف والعظام ببعضها، وهي بأطوال وأسماك وخواص مختلفة. والألياف المصنوعة من بروتينات الكولاجين تستعمل أيضا كأرضية للعظام وللغضاريف. وهذه الألياف الموجودة بين خلايا أنسجة الغضاريف والعظام وبين المواد الرابطة -التي تعمل عمل السمنت الرابط- تُكسب هذه الأنسجة متانة وقوة. ويتعين توزيع الألياف في عظامي حسب قوة الضغط الواقع واتجاهها؛ فمثلا نرى أن توزيع الألياف في منطقة المفصل الذي يربط بين عظمة الفخذ وعظمة الورك توزيع رائع وكامل ويتطلب حسابا وتخطيطا دقيقا.
المفاصل وحركاتها
ليست جميع مفاصلي متحركة بالدرجة نفسها، فمثلا تكون المفاصل بين عظام القحف التي تحفظ مراكز الحواس في الدماغ بشكل أسنان المنشار، وهي متداخلة بعضها في بعض بشكل قوي ومتين، لذا فهي مفاصل ثابتة لا تتحرك. وطبعا فالذي وهب هذه القوة والمتانة لعظام القحف هو الله تعالى الذي يعرف مدى حساسية دماغك وعينيك وأذنيك. ويعود السبب في وجود المفاصل في القحف إلى أن القحف ليس بشكل كبسولة عظمية، بل هناك في أماكن مناسبة تجاويف وقنوات صغيرة لمرور الشرايين الدموية، وتجاويف لاحتواء أعضاء الحواس، وكذلك هناك ثقب كبير لاتصال الحبل الشوكي بالدماغ. والآن لنتساءل أيمكن أن يظهر كل هذا النظام الدقيق عن طريق المصادفة؟
والمفاصل الموجودة بين فقرات العمود الفقري تملك قابلية أكثر على الحركة من المفاصل الموجودة بين عظام القحف، ولكن مفاصل الأصابع لها قابلية حركة أكثر من مفاصل الفقرات. وهكذا فكما أُيسِّر لك الوقوف عموديا، كذلك أيسر لك جميع حركاتك من قعود وقيام وانحناء وتمدد على الفراش. وقد تم خلق مفاصل الذراع والرجل بشكل يسهل جميع الحركات. أما مفاصل اليد فرائعة! وليس من المبالغة القول بأنها وراء جميع المخترعات والاكتشافات والتكنولوجيا. فجميع الأجهزة والآلات والأدوات وجميع الآثار الفنية والكتابة والكتب.. إلخ، وكل ما يخطر على بالك قد خرجت من القوة إلى الفعل نتيجة قابلية الحركة الموجودة في اليد. ولو لم تكن هناك هذه القابلية الرائعة للحركة في مفاصل الأصابع لما وجدت العديد من الأفكار أي مجال لها في ساحة التطبيق العملي.
أما العضلات التي تقوم بتأمين وتسهيل جميع حركات العمود الفقري فهي في حاجة للارتباط بعظامي لكي تقوم بهذه المهمة. فإحدى نهايات العضلات تكون مرتبطة بشكل ثابت بإحدى العظام وتكون النهاية الأخرى مرتبطة بمفصل من المفاصل المجاورة لها فتسحبها فتتيسر لك الحركة إذ تخطو في مشيك أو تهز يدك.
الحاجة إلى الكالسيوم
وقابليتي في تجديد نفسي جيدة وإن لم تكن بدرجة قابلية الجلد في التجديد. فإن انكسرت عظمة من عظامي فيكفي أن يُربط القسم المكسور بشكل صحيح فيتم الالتحام، وذلك بقيام خلية التعظم أي الخلية البانية للعظم بانقسامات سريعة وبعملية التحام ذلك الجزء المكسور، وتمتص هذه الخلايا أملاحَ الكلسيوم فترجع العظام صلبة كالسابق مرة أخرى.
وأنا في حاجة إلى مقدار كبير من الكالسيوم حتى وأنت لا تزال جنينا في بطن أمك، وذلك من أجل النمو. فإن كانت أمك تتغذى جيدا بمنتجات الحليب وبالخضراوات وبالسمك فلن تشتكي من نقص الكالسيوم. وحتى لو لم تتغذ الأمهات جيدا بمادة الكالسيوم فإن الجنين في بطن الأم لن يشكو من قلة الكالسيوم، لأن الخالق الرحيم يأخذ مادة الكالسيوم من عظام الأم ومن أسنانها ويعطيها هذا الجنين البريء ليواجه حاجته إلى هذه المادة الضرورية لنمو هيكله العظمي. لأن الأم تملك الإرادة والإمكانية لإشباع نفسها، أما الجنين فهو عاجز، لذا فهو في حاجة ماسة إلى مادة الكالسيوم المأخوذة من أمه. وبعد الولادة يجب أن يتغذى جيدا بالأغذية المحتوية على مادة الكالسيوم وفيتامين D، وأن يتعرض للشمس أحيانا. لأنه يكون في حاجة ماسة إلى أملاح الكالسيوم وإلى فيتامين D الذي يحصل عليه بأفضل شكل من تعرضه لأشعة الشمس. لذا كان من الواجب عليك أن تهتم بي كثيرا ولاسيما في مرحلة طفولتك. فإن لم تأخذ هذه الأملاح والفيتامينات لا تنمو عظامك بشكل جيد، مما يؤدي إلى ظهور مشاكل في هيكلك العظمي.
تجويفات العظام
ولفراغ مخ العظام الموجود داخل العظام وظائف مهمة جدا، فلو كانت عظامي مملوءة بالمادة العظمية لزاد وزنك كثيرا ولما استطعت القيام بسهولة. ثم إن العظام المملوءة لا تكون أكثر متانة، فحسابات القوة والمقاومة أظهرت بأن الأنبوب الحديدي المملوء يكون أقل مقاومة من الأنبوب الحديدي المجوف، ويكون أكثر قابلية للانحناء. وتكون العظام المستديرة والطويلة مصممة على هذا الأساس، فهي تبدي مقاومة أكثر للقوى المسلطة عليها.
الوظائف المهمة لمخ العظام
ومن الوظائف المهمة جدا لمخ العظام هي قيامه بإنتاج الكريات الحمراء الضرورية التي لها وظائف مهمة في دمك. في مرحلة شبابك يكون لون هذا المخ أحمر، وعندما يتقدم بك العمر يتحول هذا اللون تدريجيا إلى اللون الأصفر، ويزداد الدهن فيه فلا يعود ينتج الكريات الحمراء. أما البنية الإسفنجية الموجودة في العظام المسطحة فإن مخ العظام فيها يبقى أحمر اللون ويستمر في إنتاج الكريات الحمراء طوال حياتك.
إن شكل عظامي ونسبة بعضها إلى بعض من ناحية الطول تتعلق بهيئتك وسمتك. وحتى لو نَمَوْتُ أنا حسب الخصائص الوراثية التي أخذتها من والديك فإن الأحمال التي أضطر لحملها والضربات التي أتعرض لها تؤثر كثيرا على نموي. فإن تعرضت في سن مبكرة وقبل أن يتم تصلب عظامي إلى أحمال ثقيلة لا يزداد طول عظامي لكي لا تتكسر، وتسرع عملية التصلب عندي، وهكذا تبقى ذراعك ورجلك وطولك قصيرا. أما عند ممارسة بعض أنواع الرياضة مثل رياضة كرة السلة وكرة الطائرة فيتم تنبيه عظامي لكي تطول. وبجانب تأثير الأملاح المعدنية وفيتامين D في عملية تصلب العظام يؤثر الهرمون الذي تفرزه الغدة جنب الدرقية في هذه العملية. وفي مناطق التعظم -وهي المناطق الموجودة في نهايات العظام- تجري عمليات انقسام الخلايا العظمية وتضاف هذه الخلايا إلى العظام، وهكذا تطول العظام. ولكن عملية تطويل العظام تتوقف بعد انتهاء سنوات المراهقة. وبينما تتوقف هذه العمليات عند البنات في سن 18-19، تستمر هذه العمليات في الذكور إلى سن 21-22. لذلك كان معدل طول الرجال أكثر من معدل طول النساء.
عندما جئتَ إلى الدنيا كانت كل عناصري من الغضاريف، لذا كنتُ لينا ومرنا جدا. ذلك لأن الله تعالى الرحيم بخلقه والبصير بكل شيء قدر هذا الأمر بكل حكمة لكي لا تتضرر أنت في أثناء الولادة ولا تتضرر أمك.
ولو تصلبتُ تماما قبل الولادة لكان من المحتمل أن تموت أمك المسكينة أثناء الولادة، وتَكسّر العديد من الأماكن في جسمك. ولكن بفضل الغضاريف التي تملك قابلية مرونة وليونة كبيرة يقل احتمال تضرر الوليد وتضرر الوالدة إلى حد بعيد. وبمرور الوقت تخلي الغضاريف مكانها للخلايا العظمية. وبخزن أملاح الكالسيوم يزداد تصلبي وتعظمي. ولكن تبقى الغضاريف في سطوح المفاصل وفي نهايات أضلاع القفص الصدري.
عزيزي عبد الله..
الآن جاء دور سؤال قد ينهي بهجتك: هل تيسر لك حضور فتح قبر قديم؟ أحيانا لا تبقى أماكن كافية في ساحات المقابر فيقومون بفتح قبر قديم ليدفنوا أحد أقارب صاحب القبر القديم. ستلاحظ في هذه الحالة أن جميع أقسام جسد الميت -عدا عظامه- قد تحولت إلى تراب، وترى أن جمجمته وبعض الأقسام من عظامه قد بقيت دون أن تتفتت ودون أن تتحول إلى تراب. ولكن بعد مرور مدة أطول تتفتت العظام أيضا. ولكن بما أن هذه العملية تحصل بعد مدة طويلة من تحلل الأنسجة الأخرى لذا نجد بقايا العظام فقط عند فتح قبر قديم. وفي القديم وعندما كان القرآن يتنـزل كان بعض الذين لا يؤمنون بيوم الحشر يأخذ بيده عظمة ويقول: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾(يس:78)، والآية ترد عليه وتقول: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾(يس:79). وفي مواضع أخرى عديدة يرِد ذكر إحياء العظام الرميمة في الآيات القرآنية عندما تتحدث عن بدء الخلق أو عن يوم الحشر. إذن فالله تعالى يوجه الأنظار إلى العظام، وربما كان يريد أن يقول -أو في الأقل هذا ما أتصوره-: “يا عبد الله! لقد خلقتُ عظامك ومفاصلك وجميع منظومة هيكلك العَظمي بشكل كامل ورائع، واتخذتُ جميع التدابير اللازمة لكي تحيا حياة سهلة ومريحة، وخلقتك حتى أدق تفاصيلك بشكل حساس وكامل. فهل اتخذتُ عند خلقك أنموذجا كان موجودا؟ وهل قمتُ بتطبيق خطة وضعها غيري؟! كلا! إذن فكما خلقتك في البدء بعلمي وبقدرتي اللانهائيتين من العدم، فأنا قادر أن أبعثك حيا بعد موتك”.
هذا ما أفهمه يا عبد الله! هذا ما أفهمه من الكتاب المجيد لخالقنا والذي يوجه خطابه إليك وإلى الإنسانية جمعاء. إن مداركك -يا عبد الله- خُلقت أفضل من مداركي أنا الهيكل العظمي.
إذن فعندما تمشي أو عندما تقوم بأي عمل فتذكّر على الدوام مدى روعة قِطَع وأجزاء عظامك الموجودة بين أعضائك. وأنا أعتقد وآمل أن مثل هذا التفكر والتأمل سيفتح أمامك آفاقا جديدة.
ــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.