بقلم/ بركات محمد مراد
الرازي والقراءة
ويقول ابن أبي أصيبعة ناقلا عن أحد معاصريه: “ولم يكن يفارق المدارج، وما دخلتُ عليه قط إلا ورأيته ينسخ، إما يسوّد أو يبيّض”. وقد بلغ من صبره واجتهاده في ميدان المعرفة أنه كتب بخط مثل خط التعاويذ في سنة واحدة أكثر من عشرين ألف ورقة واستمر في تأليف “الجامع الصغير” خمس عشرة سنة ليلا ونهارا، وهو دليل على التأني والجودة.
ولكثرة انكبابه على الكتب والقراءة على أنوار القناديل ضعف بصره، واختتم أمره بالعمى ونزول الماء في آخر عمره على عينيه. ولم تطل أيامه بعد مرضه، وتوفي بـ”الري” عام (313هـ/925م). وفي أوج نشاطه أصبح كبير أطباء مستشفى “الري” حيث مارس مهنة التطبيب محاطا بتلاميذه وتلاميذ تلاميذه. وكان إذا قدم مريض فحصه التلاميذ، وإذا استعصى عليهم تشخيص المرض قدموا إليه المريض. وكان الرازي أيضا رئيس أطباء مستشفى بغداد. ولكثرة ممارسته للطب ومباشرته لعلاج المرضى في مختلف التخصصات، تراكمت عنده معرفة علمية إضافة إلى قراءته النظرية للتراث الطبـي اليوناني. لذلك صار الرازي أول من أظهر أهمية الطب الإكلينيكي أو السريري في الحضارة الإسلامية. ولم يغفل الطب النفساني، فقد كتب عنهما في مؤلفاته باستفاضة غير مسبوقة، كما صنف في الكيمياء وأسرارها والعقاقير وتحضيرها، بل ويعتبر واضع أصول فلسفة النظريات الطبية في الإسلام، على الرغم من أنه ساعد على تطور أدب الطب وأخلاقيات ممارسة مهنة الطب والعمل في البيمارستانات.
وقد حارب الشعوذة في هذه المهنة وهاجم الجهلاء والمبتزين من الأطباء. ففي كتاب “المرشد” كان شارحا ومفندا فصول أبقراط مبديا آراء أصيلة في تجارب الطبيب وأهمية علاقته مع مرضاه واعتباره كل مريض كفرد مستقل عن سواه، له شخصيته وتدبيره الخاص الذي ينفرد به بالنسبة لتاريخه وعاداته وبيئته، وما يناسبه من علاج ودواء.
وكان الرازي معاصرا للفارابي (299هـ). وقد اطلعا معا على كتب أرسطو في “التحليلات الثانية”. وتنقل الرازي كثيرا، وكان لهذا أثره في اكتساب المعارف. فقد كان كثير الترحال حتى طاف بمصر وسورية والأندلس، وتنقل من بلاط إلى بلاط، وقد مارس الطب وجربه في كل مستشفى طرقها أو عمل فيها. وهو يشبه في هذا الترحال فيثاغورس وجالينوس وأفلاطون.
وقد قدره الدارسون من الأوربيين حق قدره، شهد له “ستابلتون” الإنجليزي بعد أن درس كتبه الكيميائية بأنه “قد بقي بلا ند حتى بزوغ فجر العلم الحديث في أوربا”.
آثاره وتراكمه العلمي
كتب الرازي كثيرا من المؤلفات بأسلوب رصين يجمع بين الإيجاز والعمق في دقة تحليل لكل ما يعرض له من كتب ومؤلفات السابقين. فهو يشرح ويفسر ما في هذه الكتب ويجعلها أقرب إلى الطلاب وأيسر فهماً، في وقت كانت علوم الطب والكيمياء غريبة على العرب والمسلمين، وتعد عندهم من علوم الأوائل. وكان عليه أن يبين لطلابه كيف يتقنون هذه الصناعة الشريفة والهامة، وكان عليه أن يبين رأيه في محنة الطب (امتحانهم)، وأن يهديهم إلى ما يعينهم في ممارستهم العلاج.
ولذلك يقول في أول كتاب “الفصول”: “دعاني ما وجدت عليه فصول أبقراط من الاختلاط وعدم النظم والتقصير به عن ذكري جوامع الطب كلها مع ما مال إليه علمه من سهولهة تعلق علم الفصول بالنفس إلى أن أذكر جوامع الصناعة وعلمها على طريق الفصول.. ليكون مدخلا إلى الصناعة وطريقة للمتعلمين”.
وله مثل هذا القول عن مؤلفات جالينوس، الذي كان يجله مع أبقراط أعظم إجلال، ولم يجد حرجا في أن يتسعين بمؤلفات السابقين من اليونان وبخبراتهم المدونة في تطوير مختلف العلوم الطبية. فقد كان الرازي يؤمن بخاصية التراكم العلمي، وكيف ينبغي أن تتواصل الحضارات وتتلاقح الثقافات مما يؤدي إلى تراكم العلوم والمعارف. ولذلك يقول في علم الطب: “هذه صناعة لا يمكن الإنسان وحده إذا لم يحتذ فيها على مثال من تقدمه أن يلحق فيها كثير شيء، ولو أفنى جميع عمره فيها، لأن مقدارها أطول من مقدار عمر الإنسان بكثير. وليست هذه الصناعة فقط، بل جل الصناعات كذلك. وإنما أدرك من أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية في ألوف من السنين ألوف من الرجال، فإذا اقتدى المقتدي صار كمن أدركهم كلهم في زمان قصير، وصار كمن قد عمّر تلك السنين”.
وكان الرازي يؤمن بقوة اجتماع القراءة والمعرفة النظرية إلى جانب الخبرة واكتساب التجارب العملية. ويقول: “إن قليل المشاهدة (أي الخبرة) المطلع على الكتب خير ممن لم يعرف الكتب، على أن لا يكون عديم المشاهدة”. ويقول: “من قرأ كتب بقراط ولم يخدم، أفضل ممن خدم ولم يقرأ كتب بقراط”.ولذلك يقول الدكتور “محمد كامل حسين” في بحث علمي دقيق له عن طب الرازي: “لا تقاس عظمة الأستاذ بابتكاره، على الأقل في العصور الوسطى، ولكن باستقراء مذهبه في التعليم ووضوح آرائه وأسلوبه، وحسن شرحه وتفسيره، وله فضل كبير في الدعوة إلى تدبير المشاهدات. والتدوينُ أول المعرفة الحقة بالطب، ومثل هذا التدوين عمل تحضيري لابد منه قبل أن تكتب الكتب الطبية المستقرة. أما الرواد المبتكرون فليس لهم أن يقطعوا برأي في العلل والعلاج ما لم يسبق ذلك تدوين كثير واختيار لما هو حق وما هو باطل”.
ورغم كل ذلك فقد أضاف الرازي إلى المعرفة الطبية كثيرا من المعارف والحقائق والنظريات والتجارب، وهو يهتم بتدريب الطبيب وامتحانه.
مؤلفاته وأثرها في الحضارات
ولم يمنعه اعتماده على كتب السابقين وشرحه وتفسيره لها من اعتراضه على كثير مما جاء بها، خاصة عندما تتعارض مع ملاحظات طبية صحيحة، أملتها التجربة وأثبتها الواقع العلمي. ومن هنا لم يقصر في تدوين كل ما سمع وقرأ ورأى. وهذا سر كثرة تآليفه ورسائله العلمية التي دفعت البيروني إلى تصنيف رسالة لإحصاء عناوين هذه المؤلفات مع تبويبها في دراسة ببليوغرافية مبكرة هي “فهرست كتب الرازي”. ويحتوي هذا الثبت على كثير من المؤلفات في الطب وفي الطبيعيات، وفي المنطق وفي الرياضيات والنجوم، وفي التفاسير والتلاخيص، وفي الفلسفة وما وراء الطبيعة والإلهيات، وفي الكيمياء، وفي مواضيع شتى متنوعة.
ومن أهم مؤلفاته “السيرة الفلسفية” و”البرهان” و”شكل العالم” و”الطب الروحاني” و”الجامع” و”الحاوي” ومؤلفات في مختلف الأمراض كـ”الحصبة والجدري”.
ويعتبر كتابه في “الحصبة والجدري” من أشهر مؤلفاته المبتكرة. وهو أول كتاب من نوعه في هذا الموضوع، ميز الرازي فيه بين المرضين، ووصف بدقة مميزاتهما وتشخيصهما، وهو يلمح في الإشارة إلى أهمية الفحص الدقيق للقلب والنبض والتنفس والبراز عند مراقبة المرض، ولاحظ أن ارتفاع الحرارة يساعد على انتشار الطفوح (Eruption) وأشار إلى وسائل وقاية الوجه والفم والعين وتجنب الندوب الكبيرة.
وقد امتاز الرازي بمواهبه الإكلينيكية (السريرية) الممتازة، وظهر هذا في أكبر مؤلفاته الطبية وأشهرها “الحاوي” (Continens). وهو موسوعة طبية تقع في أربعة وعشرين جزءاً حشد فيها معارف السابقين سواء كانوا يونانا أم فرنسا أم هنودا أم عربا مع النص بأمانة على صاحب الفكرة، مما يدل على غزارة اطلاعه وأمانته العلمية، كما ضمنه أهم أفكاره التجريبية والإكلينيكينة في الطب، وخاصة تلك الممارسات السريرية التي كان أول من نبه عليها. ولم يبق من هذا الكتاب سوى اثني عشر جزءاً مبعثرة في مكتبات أوربا.
أما كتاب “المنصوري” فإنه كان أقل حجما من “الحاوي”، إلا أنه في نفس مستواه من الأهمية العلمية، وظفر بشهرة واسعة في القرون الوسطى. وهناك كتابه “منافع الأغذية” الذي يعتبر من رسائل أطباء العرب في حفظ الصحة، حيث اعتبر مبدأ “الوقاية خير من العلاج”، مبدأ أساسيا في عالم الطب. ورغم اهتمام الرازي بالجانب العملي من الممارسة الطبية، إلا أنه ينصح المعنيين بالطب بالتدوين؛ وله في ذلك رأي مستقر سار عليه هو نفسه فيقول: “إن كنت معنيا بالصناعة، وأحببت أن لا يفوتك ولا يشذ عليك منها شيء -ما أمكن- فأكثر جمع كتب الطب جهدك، ثم اعمل لنفسك كتابا تذكر فيه كل علة، ما قصر الكتاب الآخر وأغفله في كل نوع من العلل وحفظ الصحة الرتبة، من تعريف أو سبب أو تقسيم أو علامة أو علاج أو استعداد أو إنذار أو اعتراض، فيكون ذلك كنـزا عظيما وخزانة عامرة”. ومن هنا لم يكن عجيبا أن يصاب الرازي في آخر أيامه -من كثرة تدوينه- بمرض منعه الكتابة يسميه الأطباء (Witere Camp).
الطبيب والإكلينيكي
إن خير ما في تأليف الرازي وموضع فخره هو من غير شك مشاهداته الإكلينيكية وحسن إدراكه للدلالات، وصواب حكمه. إنه تفوق في التشخيص، وخاصة في ما يسمى بالتشخيص المقارن، وهو نوعان. والرازي متفوق في كلا النوعين، النوع الأول يتناول علامة من العلامات المرضية ثم يبحث في أسبابها وكيفية التفريق بين الأسباب المختلفة، ومثال ذلك قوله في احتباس البول. والنوع الثاني يتناول أمراضا متشابهة ويقارن بين علامات كل منها مقارنة توضح ما يجب الأخذ به عند التشخيص. وهذا واضح في كثير من رسائله التي حققها “بول كراواس”.
وقد تمكن الرازي في التشخيص المقارن من التفريق بين القولنج وحصاة الكلي. والقولنج مرض يرد ذكره كثيرا في كتب القدماء، وهو مرض غير محدد الأعراض، وليس من السهل أن نضع له أسما حديثا -كما يقول أحد الباحثين- يوافق ما جاء عنه في تلك الكتب. ولكنه من غير شك مجموعة من الأمراض تتصل بالقولون، ومنها التهاب الزائدة الدودية، وهو مرض ظل أعراضه تختلط وأعراض التهابات القولون إلى عهد حديث جدا. ويرجح ذلك قول الرازي أنه يصيب الجهة اليمنى من البطن أكثر وبعض حالاته كان على الأرجح حالات انسداد معوي، وإن لم يبلغ حد الاختناق المعوي. وتتضح أهمية هذا الأمر أن التمييز بين التهاب الزائدة والمغص الكلوي، أمر لا يزال الأطباء في حاجة إليه حتى اليوم، والخلط بينهما كثير الوقوع.
دقته في الدلالات الطبية
وهناك كثير من الدلالات الطبية في رسائل الرازي ومؤلفاته، وكلها مفيدة لا غنى للطبيب الممارس عن تقصيها، وفيها دقة يقدرها كل طبيب غاية التقدير. على أننا لا نجد في التشخيص المقارن بين الحميات هذا الوضوح في تحديد العلامات ودلالاتها. ولا غرابة في ذلك، فلم يكن لهم أن يفرقوا بين الحميات المتشابهة بما يعمله الأطباء المحدثون من تحاليل، خاصة بعد تقدم الأدوات والأجهزة العلمية، بل كان اعتمادهم الكلي على أشياء يصعب تحديد الحميات على أساسها، فكانوا ينظرون في الزمان والسن والمزاج والنبض والبول والنافض والعرق وكيفية الحرارة ومقدار النوائب والعطش وحال الأحشاء والقيء والبراز والسهر والنفس والصداع والتشنج.
وحار الأطباء القدماء -ولهم العذر في ذلك- في تقسيم الحميات. وكان جالينوس على حد قول الرازي يقسمها إلى حمى ورمية وحمى غير ورمية. والرازي يقسمها أصلا إلى حمى عرض وحمى مرض، وهو تقسيم جيد، وهو ما يفضله المؤلفون المحدثون. يقول الرازي: “حمى العرض تكون من ورم أو طحال أو الرئة أو الحجاب أو معي الصائم أو الجراحات أو الديبلات أو في الدماغ، كالحال في قراينطش وليثرغس”، ويقول عن حمى المرض إنها تكون بعفن أو بغير عفن، ثم يأخذ في تحليل أنواعها المختلفة.
وهناك نوع آخر من التشخيص المقارن يكون بوصف حالة مرضية وصفا دقيقا يمكن معه تشخيصها والتفريق بينها وبين الأمراض الأخرى التي تشبهها في بعض أعراضها، ومن ذلك شرح الدلالات التي تؤدي إلى ترجيح مرض على آخر. وللرازي في هذا تفريق واضح، وقوله في هذا الباب ممتع جدا.
ومن الحالات الجديرة بالذكر قوله: “رأيت رجلا تقيأ قطعة لحم أعظم من الجوزة، ولم يمت، فحدست أنه كان في معدته باصور كبير دقيق الأصل، انقطع ودفعته الطبيعة بالقيء”. وهذه -كما يقول طبيب معاصر- حالة “Polypus” في المعدة وهي حالة نادرة، ولكن الرازي فهمها فهما جيدا. وله في وصف داء الكلب: “كان عندنا في المارستان منهم من يهيج بالليل. وكان رجل لا يشرب، وإذا قرب إليه الماء لم يخفه، لكن يقول: هو منتن. وفيه بطون الكلاب والنسانيس. ورجل كان إذا رأى الماء ارتعد واقشعر، وانتفض حتى ينحى عنه”.
وهناك كثير من الحالات التي نشرها الدكتور “ماكس مايرهوف” في مجلة إيزيس، وهي مجموعة فريدة، وصف فيها الرازي ثلاثا وثلاثين حالة، وليس لها نظام واضح، وسبب ذلك أن الرازي اختارها من غير شك لتكون موضوع محاضرات إكلينيكية، وهي وإن يكن منها ما هو مذكور لغرابته وندرته، إلا أن أكثرها يصلح، بصفة خاصة، لشرح المبادئ العامة للتشخيص والعلاج. وهي مدروسة درسا وافيا في مقالة الدكتور “مايرهوف” ويمكن الرجوع إليها، ومنها يتبين أن قدرة الرازي في الطب الإكلينيكي أمر لا شك فيه، فيه دقة مشاهدة، وقوة المقارنة، وصدق الحكم، والقدرة على تمييز الدلائل وتقويمها، رغم تقيده بالنظريات اليونانية، ويكون في أحسن حالاته عندما يفزع للمشاهدة والمقارنة والاستنتاج، حين يكون بعيدا عن الشروح القائمة على الأخلاط والأمزجة.
الرازي طبيب وصيدلاني
وللرازي في علاج مرضاه مبادئ طبية هامة وناجحة بدأ الطب الحديث في العودة إليها واعتمادها مثل قوله: “ما قدرت أن تعالجه بدواء مفرد فلا تعالجه بدواء مركب”، وقوله: “الطبيب الحاذق من يبرئ بالأدوية الأدواء التي تعالج بالحديد مثل الخراجات، والعظام التي تتعرى من اللحم، ولا يحتاج في شيء منها إلى البط والقطع إلا أن يدعو إلى ذلك ضرورة ملحة، والذي يبرئ كثيرا من الأدواء بالأدوية والتدبير، والذي يقدر أن يعالج بدواء واحد عللا كثيرة”. أليس في ذلك شبه كبير بقول الجراح موينهان: “إن الجراحة هي بلوغ غاية ما بالقوة لعجزنا عن بلوغها باللين”.
وكان الرازي يرى أن لا يضيع الطبيب جهده في العلم بتعريف العقاقير وصفاتها على وجه الدقة إلا ما كان منه كثير الاستعمال. والظاهر أن الأطباء كانوا يتركون تركيب الأدوية للصيدلاني، وإن كان الرازي يقول: “إنه أعد للمريض كذا خمسة دراهم، وكذا ثلاثة دراهم” مما يدل على أن الطبيب كان أحيانا يعد الدواء بنفسه. ولدينا أمثلة من “الروشتات” التي كانوا يكتبون فيها الدواء للصيدلاني على نحو معروف عندهم. وكانوا يكتبون ذلك أحيانا بالرموز، وكثيرا ما كانت تكتب الأدوية باللاتينية والتعليمات بلغة المريض. وهو يرى أن الدواء المفرد خير، ولكنه لا ينكر من الأدوية ما يجب أن يكون مركبا، وهو يضع قواعد للتركيب ومقدار كل دواء مفرد في الأدوية المركبة، فيقول: “المقدار في التركيب يكون حسب غلظة الدواء وقوته وما يخشى ضرره في علة أخرى”.
ويبدو أن براعة الرازي في علم الكيمياء ومعرفته بكل عملياتها قد ساعدته في هذا الجانب الصيدلاني من علم الأدوية أو الفارماكولوجي، على الرغم من أن كبار الأطباء كانوا يترفعون عن عمل اليد. ففي كتابه “الأسرار” له تدابير “تجارب” كثيرة ولا شك أنه قد قام بعدد كبير منها. وقد وصف الآلات والأدوات التي تستخدم في التجارب وفي المختبرات كالكور والمنفخ والبوطقة والإنبيق والأقداح والقناني وصفا دقيقا. كما وصف عمليات التقطير والتصعيد والتشميع وأنواع التكليس والاحتراق، وحضر عددا من الأحماض منها زيت الزاج (حامض الكبريتيك) بتقطير الزاج الأخضر (كبريتات الحديدوز)، كما حضر الغول (الكحول) باستقطاره من مواد نشوية متخمرة، وحضر عددا من السوائل السامة من روح النشادر.
وهو كغيره من الأطباء القدماء والمحدثين شديد العناية بالغذاء، وله في ذلك أقوال طريفة، من ذلك قوله في “الفصول”: “إذا اتفق أن يكون ما يشتهى العليل نافعا، كان كما يقال في المثل: أتم السعادة هوى وافق عقلا”. وله مبدأ عام في العلاج الطبي، ذلك أن “الطبيعة تجاهد العلل وتعاركها، وتروم إحالتها. ومتى كانت وافية بالعلل لم يحتج إلى معونة الطبيب. ولذلك تسلم الأمم القليلة الاستعمال للطب كالأعراب ونحوهم من أمراض كثيرة”.
الرازي والطب التجريبـي
أما في جانب الطب التجريبـي حيث يشرع دائما في التطور، هاجرا ميدان المذاهب ومتمسكا بالأسلوب التحليلي التجريبـي، فقد برع الرازي فيه حيث يقول: “ما اجتمع الأطباء عليه وشهد عليه القياس وعضدته التجربة فليكن أمامك وبالضد”.
وإذا كان الطب التجريبـي يمثل في العصر الحديث أرقى مكانة، فإن للرازي فضل السبق إليه حيث أجرى تجاربه الطبية على الحيوان -القرد- قبل تجربتها على الإنسان، حيث إن البعض يتصور تحريم الإسلام لتشريح الحيوان. وكان الرازي أول من ميز عصب الحنجرة من غيره. ومن ابتكاراته في مجال الجراحة قوله: “لي غرض جراحات العصب ألا تعفن أولا، وألا تبرد ولا ترم، لأنه إن عفن زمن، وإن رم أو برد تشنج”.
ويرى أن العضو المخلوع لا يرد على مكانه، لأنه يصير خبيثة: “كذلك يفعل أصحاب الجراحات، لأنهم قد عرفوا بالتجربة أنه يصير خبيثة فيقطعونها أبدا، والكي بالزيت بعد ذلك أحمد، يصنع أن يصير ما بقى قرحة رديئة، لكي تصير خشكريشة ثم تسقط وتبرأ بإذن الله”. وهو يوجب الفصد في بعض الأمور: “أنا آمر بالفصد في جميع العلل الامتلائية والصعبة، وهي كالنقرش والرمد ووجع الكبد”. وقد ثبت حديثا أن التجريب أساس عملي للطب، وأنه فيه أصعب منه في سائر العلوم. وكان للبيمارستان أثر كبير في حياة الرازي التجريبية، فقد جرب بنفسه أولا مكان بناء هذا البيمارستان بوضع قطع لحم في مواضع متفقرة، ثم أشار ببنائه في المكان الذي لم يهلك فيه اللحم بسرعة، وهو تثبت في الاستنتاج وحرص على كرامة الإنسان. وقد أشاد به بعض باحثي الغرب من أجل هذه الفكرة.
وقد استعان الرازي بمركزه كرئيس لبيمارستان بغداد، فحصل على ملاحظات تجريبية دقيقية وجرب بنفسه تطور المرض وتعدد أعراضه وتشابهها كما ذكرنا من قبل، فصار أعظم أطباء الطب الإكلينيكي (السريري) كما هو واضح في كتابه “الحاوي” وفي مؤلفاته المتخصصة الأخرى.
وفي الحقيقة فالتعرف على الرازي وفكره يبطل الادعاء القائل بأن العرب أو المسلمين لم يعرفوا المنهج العلمي. فإننا نجد الرازي مؤمنا بالمنهج العلمي السليم، منهج القوانين كلية وجزئية. ومثال الكلّيّ عنده “الحامض يدفع إسخان الحلو إعطاشه وتوليد المرارة وبتهييجه الدم وإحداثه للسدد”. وهناك حالات جزئية لا نهاية لها ذكرنا بعضها من قبل في مؤلفاته. ويقول مستحسنا هذا المنهج: “من أجود الأمور ذات المعاني النافعة، أن نذكر كليّها مرة وجزئيّها أخرى، ليمكن ويستقر ويستتم مهمها في النفس ويعظم موقعها عندها، فيبادر إلى استعمالها، ولا يكل عنها استهانة بها”. وإن اهتمام الرازي بالتقنين الكلي جعله يقيم تآليفه على أساس فكري ومنهجي حيث يؤلف “برء الساعة” و”السر في الصنعة”، وينص على أن كلا منهما دستور في الطب. وهي محاولة من الرازي للكشف عن العلاقة المتبادلة بين الكون والإنسان في صورة قوانين كلية لم يعرفها الإنسان إلا في العصر الحديث، حيث أصبح يرى أن البيئة الطبيعية ونظمها الإيكولوجية مترابطة متشابكة يؤثر بعضها في بعض ولا يشذ عنها أي إنسان.