بقلم/عماد الدين خليل
ابتداءً، ما دمنا بصدد العملية الإبداعية، فإن المسألة لا تقف عند حدود المضمون الفكري، وإنما تعكس حيثياتها بالضرورة على فنيّة الأداء أو أسلوبيته، لأننا ههنا لا ننجز عملا فكريا أو بحثا في التاريخ، أو أيّاً من المعارف الإنسانية، وإنما ننتج أدبا، وهذا بالضرورة ينطوي على الاثنتين معا، المعنى والمبنى، أو التصوّر والأسلوب. ولذا فمن المستحيل أن تكون الواقعية الإسلامية منـزوعة الجلد أو الملامح، أي بعبارة أخرى، لا تملك قيمها الفنية المتميزة التي تعكس أبعادها ومغزاها، كما يتوهم البعض ممن لم يقتنعوا بعد بمذهبية الأدب الإسلامي.
لنقف لحظات عند واحدة من ملامح الواقعية الغربية -بأنماطها كافة-، والتي يقف وراءها صفّ طويل من الأدباء العرب. تلك هي قضية “العري” التي تلح عليها واقعيات الغربيين، وتصل بها أحيانا حدّ التكشف الكامل الذي يعرض الجسد البشري، وأحيانا العملية الجنسية أو جوانب منها على أقل تقدير. إن هذا يعكس رؤية للحياة قادمة من العمق اليوناني الذي تشهد منحوتاته بهذه الرغبة المتأصلة لنـزع الغطاء، وتعرية الإنسان على مستوى الجسد أو الغريزة أو اللاواعية التي تتهتك فيها الأستار. هذه الرؤية التي غذتها -فيما بعد- جملة من المعطيات الفلسفية، وما يسمى بالكشوف العلمية، وبخاصة في مجال علم النفس، ثم جاءت المذهبيات الفنية الأكثر حداثة لتزيد من توقها للعري، ولتقودها إلى دهاليز الكبت والشبق وتضعها، كما فعلت السريالية، وكما يقول “فاولي” في “عصر السريالية”: “على حافة الجنون والدجنّة”.
ولقد تشكلت قبالة هذه الرؤية، أو في نسيجها بعبارة أدق، وبحكم قوانين الإبداع الأدبي، منظومة من المعادلات الفنية التي عمقت الملامح المذهبية للواقعية ومنحتها شخصانيتها المتميزة بين المذاهب.
التغطية زينة الإنسان
القانون نفسه يعمل عمله في الدائرة الإسلامية التي تملك رؤيتها الخاصة لظاهرة التكشّف أو التعري، وترى -على العكس من الموقف الغربي- أن زينة الإنسان وجماليته لا تتحققان إلاّ بالتغطية، وترى في التكشّف، “عورة” أو “سوءة” يجب حجبها عن الأنظار إذا أريد التحقق باحترام إنسانية الإنسان.
إذا وسعنا المنظور فإننا سنجد الحجاب -إسلاميا- يتجاوز بعده الاجتماعي-الأخلاقي صوب دائرة أشمل وأبعد. إنه يحمل بعداً حضاريا، ليس فقط لكونه يحمي الطاقة البشرية من الهدر والتضييع ويعين القدرة على الإنجاز ويرفع وتائرها، وإنما لكونه يتجذر في البدايات الأولى، في لحظات الخلق الإلهي للإنسان الذي حمل في البر والبحر، وكرّم على المخلوقات، وأريد له أن يكون سيدا على العالمين.. أن يتعفف ويتطهر ويتغطى.
إن آدم عليه السلام وزوجه، لحظة تناولهما ثمر الشجرة المحرمة، عوقبا للحظات بالعري، ولكنهما ما لبثا أن ﴿طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾. ويكفي أن نقرأ معا هذا المقطع من سورة الأعراف بحثاً عن الجذور الموغلة للظاهرة وعن البعد الحضاري للحجاب الذي أريد للإنسان أن يوظفه في اثنين؛ الستر والتزيّن:
﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(الأعراف:19-28).
منذ بدايات الخلق أريد للإنسان أن يتغطى ويتزيّن حيث يصير الاحتشام والحجاب مرادفين للزينة والجمال وحيث يكتسبان بعداً حضاريا. حيثما تلفتنا وجدنا الحجاب، ليس في حدوده الفقهية المنظمة فحسب، وإنما على امتداد الحياة البشرية، في كل خلاياها ومنحنياتها وممارساتها ودروبها.. فإما النظافة والطهر والجمال وإما الفحش والقبح والفجور.. ولا شيء بين هذا وذاك. لا شيء وراء هذا وذاك. وليس بعد الحق إلاّ الضلال.
ويظل المنطلق إلى هذا كله، نقطة البداية لهذا كله، هو الحجاب الذي بتحققه يقوم المجتمع النظيف المتوازن الجميل، وبانهياره يجيء الزهري والسفلس والأيدز فيأكل الأخضر واليابس.. وحيث لا يأمن الزوج على زوجته، ولا هذه على زوجها، ويتكاثر أولاد الحرام فلا تكاد تستوعبهم المحاضن والملاجئ.. وحيث يصير الفعل الجنسي المحرم نزوة عابرة يتحتم إطفاؤها سريعا كما يشرب الإنسان العطشان كأساً من الماء، فيما قالت به يوما تنظيرات الماركسية البائدة في بدايات تشكل الاتحاد السوفياتي المنحلّ على يد عالم النفس الماركسي المعروف “ولهلم رايخ”، وفيما دفع “لينين” نفسه بعد سنتين فقط إلى أن ينهض محتجاً ويدعو ثانية إلى الاحتشام والتعفف واحترام قوانين العائلة، وإلاّ أصبح الجيل التالي من السوفيات كله من أولاد الحرام.
ولنرجع إلى نقطة البداية، فإذا كان “التعرّي” ينعكس في الواقعيات الغربية على الخصائص الفنية للمذهب ويسمها بملامح متميزة، فإن “التحجّب” في المقابل سينعكس هو الآخر على الخصائص الفنية للواقعية الإسلامية ويسمها بملامح متميزة. ليس التحجّب بمفهومه الحسيّ فحسب، وإنما بأبعاده النفسية والسلوكية والاجتماعية والحضارية في نهاية الأمر.
هل الواقعية ترفض الإيمان
لنقف -كذلك- عند مسألة أخرى. فإذا كانت الواقعية الغربية بأنماطها كافة تقف عند حدود المحسوس والمنظور وترفض الإيمان بما وراءهما، فيما ينعكس بالضرورة على منظومة القيم الفنية للواقعية، فإن الواقعية الإسلامية تنطوي -بقوة العقيدة- على المرئي وغير المرئي، على الظاهر والغيب، على المنظور والمحسوس وما وراءهما، فيما ينعكس -بالضرورة- هو الآخر على منظومة القيم الفنية للواقعية الإسلامية.
وفي الحالتين أو المثلين اللذين ضربناهما، تنـزاح الواقعية الإسلامية عن حافات التصوّر ومقولاته باتجاه شبكة من اللمسات أو البنى الفنية التي تشكل المعادلات الموضوعية للأفكار على المستوى الفني والجمالي.
والحق أنه ما من مذهب أدبي، كالواقعية، تعرّض للأخذ والردّ، والضيق والامتداد، وللجدل المتواصل حول مضامينه، وأبعاده النهائية. فالمذاهب التي سبقته كالكلاسيكية الجديدة والرومانسية، والتي عاصرته وأعقبته، كالرمزية والسريالية والبرناسية والانطباعية والتعبيرية والوجودية والعبثية والمستقبلية.. إلخ. لم تجد من قلق التفسير ومتغيرات التنفيذ الإبداعي عشر معشار ما شهدته الواقعية.
وإننا لنتذكر هنا الكلمات المعبرة التي وصفها بها “ديمين كرانت” أستاذ الأدب الإنكليزي المعاصر في جامعة مانشستر حيث يقول: “من المؤكد أن كلمة الواقعية بما يبدو عليها من استقلال عن أي وصف يتعلق بالمحتوى أو بالنوع، وما تتصف به من مطاطية جموح، هي معجزة يشعر كثير من الناس أن بوسعهم الاستغناء عنها”.
كما نتذكر العبارة الساخرة التي أطلقها عليها الشاعر الأمريكي المعاصر “والاس ستيفنـز” (1879-1955م) من “أن الواقعية هي إفساد للواقع”.
قد يرجع السبب إلى أن هذا المذهب دون غيره من المذاهب يريد أن يتعامل مع الواقع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وبما أن الواقع في المنظور الوضعي مسألة نسبية قد تشمل الذات وقد تقتصر على الموضوع، وقد تمتد لكي تشمل العالم والكون على امتدادهما، وتضيق لكي تنحصر في عملية نقل فوتوغرافي شيئي لشريحة اجتماعية أو جزء من شريحة أو فئة محدودة من الناس، فإن لنا أن نتصوّر كيف تستحيل أية محاولة تسعى للتنظير للواقعية، أو تقسر معطياتها الإبداعية على أن تمرّ من هذا المعنى المحدّد أو ذاك، وتلتزم التحرك عند هذه المساحة المحدودة أو تلك.
الواقع مفهوم غير محدد
ويزيد الأمر قلقا وتأرجحا أن الواقع في رؤية الفيلسوف هو غيره في رؤية الفنان والأديب.. مفهوم غير محدد، وساحة قد لا تتعدى دائرة ضيقّة وقد تمتد لكي تشمل الوجود كله.
وبما أن الفنان أو الأديب يصدر في معظم الأحيان عن رؤية فلسفية، أو تصوّر ما للكون والحياة والوجود والإنسان، فإن لنا أن نتصور كيف سينعكس ذلك على المعطيات الإبداعية المتعاملة مع الواقع، فتكون الواقعية تياراً من المتغيرات بعبارة أدق، بحيث أن أديبين يقف أحدهما في أقصى اليمين -إذا صح التعبير- ويقف الآخر في أقصى اليسار يمكن أن يكونا واقعيين.
ويجب أن نتذكر أن النقد الأدبي في الغرب وذيوله في الشرق، يمارس نوعا من الخداع أو الإيهام في اثنتين: أولاهما التعميم الذي يطبقه على المعطيات الأدبية في عصر من العصور فيرغمها على أن تنتمي لمذهب واحد، وهذا التعميم هو إحدى الثغرات المنهجية في الفكر الغربي يمارسها باتجاه مطّ الحقائق لكي تغطي الحياة وظواهرها وتفسّرها من جهة، ومطّ المذاهب لكي تغطي المعطيات كافة من جهة أخرى.
هذه واحدة، أما الثانية فهي أن المذاهب غير الواقعية ليست بالضرورة غير واقعية، بالصيغة الصارمة التي لا تقبل ردّاً ولا تحويلا. فإذا ما تجاوزنا التنظير المتشنّج وجدنا مذهبا كالرومانسية -مثلاً- أو السريالية، واقعيا بمعنى من المعاني، لأنه يتحدث عن تجربة واقعة في الذات أو اللاوعي أو -حتى- في الأحلام. ومن ثم فإن المشكلة إنما هي مشكلة عدم القدرة على تحديد ما هو الواقعي وما هو غير الواقعي، أو بعبارة أكثر تبسيطا: ما هي على وجه اليقين المساحة التي تشمل “الواقعي” بحيث أن تجاوزها ينقلنا بالضرورة إلى “اللاواقعي”؟
التصور الإسلامي للواقع
وهكذا فإن محاولة معرفة الموقف الإسلامي من “الواقعية” على مستويي التنظير والتنفيذ، أو التصور العقدي والإبداع الأدبي، يعد أكثر إلحاحا -ههنا- من المحاولة مع سائر المذاهب الأخرى.
من هنا، ولأسباب نقدية عديدة كما سنرى، تأتي أهمية كتاب الأخ الدكتور أحمد بسام ساعي “الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد”. إنه محاولة جادة للإجابة عن اثنتين: التصور الإسلامي للواقع، وطبيعة النشاط الإبداعي المتمخض عنه، ولذا سنقف عنده بعض الوقت بسبب ارتباطه بالمسألة التي بين أيدينا.
منذ اللحظات الأولى نجد أن الواقعية التي يتبناها الإسلام تنفرد بميزتين: صدقها وتطابقها مع الإنسان “وإلى أن يصل الأديب إلى الواقعية الكاملة التي يسعى إليها تلقائيا بقوة تيار الحياة وتجاربها، سيكتشف في النهاية أن الإسلام قد سبقه إلى إقرار تلك الواقعية الإنسانية التي يبحث عنها”.
ليس هذا فحسب، بل إن العلم الجاد، لا الفلسفات المهزوزة، يجيء لكي يؤكد التصوّر الإسلامي للواقع، ذلك الذي يتضمن الروحي والمادي معا، ويحتضن الإنسان بما أنه كائن متفرّد. والمؤلف يبشر بأن المستقبل سوف يعزز هذا التوجه في ميدان الأدب العالمي: “إن كل الدلائل تشير إلى أن الأدب في العالم يتجه نحو تلك الواقعية الموضوعية -أو الإسلامية- التي أضحى العلم الحديث الآن يؤيدها، وهي أن الإنسان مادة وروح معا، وأن عنصر الروح يوشك أن يطيح في تدهوره السريع بحياة الإنسان المادية نفسها، إذا لم نتدارك سقوطه وننقذه قبل فوات الأوان”.
يتضمن الكتاب أبوابا ثلاثة، خصص أولها للنظرية وجعل ثانيها وثالثها، في معظم مساحاتهما، ميدانا لتنفيذ “الواقعية الإسلامية” على عدد من القضايا والنصوص في الشعر والنثر، وبذلك يستكمل الكتاب أسبابه من حيث أنه لا يقف عند حدود التنظير بل يمارس نقده التطبيقي فيمنح الواقعية الإسلامية فرصتها للفعل والاحتكاك.
لا بأس من الوقوف قليلا عند الفصل الأول من الباب الأول لأنه المعني بطرح القواعد وتحديد المصطلح من منظور إسلامي مقارنا بمعطيات الغربيين، وهو يجيء تحت عنوان “النظرية الإسلامية في النقد: الواقع والحقيقة والفعل”.
الضربة الأولى في محلّها تماما: حاجتنا الماسة لمصطلح نقدي إسلامي خاص بنا من أجل التحرر من أسر المصطلح الغربي، هذا المصطلح الذي يبلغ قدرا كبيرا من التعقيد والتشابك والإحراج للناقد عندما يتعامل مع الواقعية بالذات، وهو كذلك كثيرا ما يقع في مظنة التعميم. فإن “فكرة إيجاد مصطلح يستوعب مئات الكتاب والشعراء ويوحّد اتجاهاتهم المتباينة ليضعهم جميعا في سلّة واحدة اسمها “المذهب الأدبي” فكرة قسرية في الأصل، سبق أن حيرت الأدباء والفنانين والنقاد جميعا في الغرب، حين وضعوا بداية مصطلح “الكلاسيكية” في القرن السابع عشر من غير أن يستطيعوا “ضبط” كل الكلاسيكيين تحت قواعدها الرصينة القاسية”.
وجل المذاهب التي جاءت بعد الكلاسيكية -على اختلافها- عانت من التعميم القسري ذاته. ومهما يكن من أمر فإننا “حين نتحدث عن واقعية إسلامية، فلابد أن نكون على حذر شديد من السقوط في التعريفات القديمة الجاهزة لكلمة (واقعية)..”.
ومن أجل تجاوز ذلك لابد من محاولة تلمّس الخيط الحقيقي الذي يربط بين المصطلح والواقع، عندها سيتكشف لنا صدق الواقعية الإسلامية وانفساحها واستحقاقها لهذا الاسم دون الواقعيات الأخرى. فهي على خلاف الواقعيات الوضعية تنطوي على الحقيقي والواقعي معا، وبهذا تتحطم حواجز المحدود وينفسح المنظور القريب لكي تمتد الرؤية إلى مساحات أوسع بكثير فتتجاوز “البصر إلى البصيرة، والمادة إلى الروح، والعقل إلى ما وراء الطبيعة”.
قد تلتقي الواقعية الإسلامية مع الواقعية الاشتراكية -مثلاً- في جوانب متعددة ولكنها تختلف عنها في الجذور “إنهما تنفصلان عند الأساس حسماً، أقصد الأساس الروحي”.
الشمولية الإسلامية للواقع
وهكذا فإنه بالإحالة إلى شمولية الرؤية الإسلامية للواقع وانحسار سائر الرؤى الأخرى، يمكن أن يتبيّن للمرء الفارق النوعي الحاسم بين هذين النمطين من الواقعية، إن على مستوى التصور أو على مستوى التنفيذ الإبداعي “ولعله أصبح من السهل علينا الآن التفريق بين كل من الواقع والحقيقة والواقعية الإسلامية. فالأول ذو بعد واحد: الأرض، والحقيقة ذات بعد واحد أيضا يقابل البعد الأول وهو السماء، إنها الواقع “الميتافيزيقي”، أما الواقعية الإسلامية فهي الرباط السليم المتوازن الذي يجمع بين الأرض والسماء، بين الطبيعة المحسوسة والطبيعة غير المحسوسة”.
إنه “الواقع المثالي” ولكن ليس بمفهوم مثالية الفلاسفة التي تعاني من الازدواجية واستحالات التحقق في الواقع، والتي كانت تنبثق في معظم الأحيان كردود أفعال متطرفة لواقع مترع بالشروخ والتناقضات، وإنما هي مثالية الإسلام المتوحدة والقادرة على التحقق والمرسومة بعناية على عين الله الذي يعلم من خلق والذي هو بكل شيء عليم.
والواقعية الإسلامية واقعية حضارية فاعلة تنطوي على العقل والفعل معا، ويكون هدفها الإنسان المؤمن المتوحد السعيد. فليس ثمة جسدي أو روحي، ولكنه التعاشق الذي يتلاءم تماما مع تكوين الإنسان ومطالبه وضروراته وأشواقه. وعلى ضوء هذه الرؤية الرحبة الشاملة للواقعية يمكن أن يستمد النقد الإسلامي معاييره الأكثر مرونة وصدقا، ويمكن للإبداع الأدبي الإسلامي أن يتحرك في مساحات أوسع بكثير من تلك الجحور الضيقة التي تحركت في سراديبها آداب الوضعيين وفنونهم.
إن تسليط الضوء في الأعمال الأدبية على ظاهرة ما، يسهم بالضرورة في تشكيل وبناء منظومتها الفنية: السرد والحبكة والشخوص والحوار والمنولوج والفضاء.. إلخ.
وإذا كانت الواقعيات الغربية -على سبيل المثال- تقدم لنا أبطالاً تأسرهم قوة الغريزة، فإن الواقعية الإسلامية تقدم لنا البطل الذي يملك قوة الإرادة. وإذا كانت الواقعيات الغربية تضيّق الفضاء الروائي في مدى المحسوس والمنظور، فإن الواقعية الإسلامية تكسر جدران العزلة بين الإنسان والكون، وتوسع مجال حركته إلى ما وراء المنظور والمحسوس، وتنقله بين الحين والحين من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وهو في الحالتين يتحرك في دائرة الواقع، ولكنه الواقع المنفتح على مداه.. وهكذا.
ولن يكون بمقدور المرء، كائنا من كان، قارئا أم ناقداً، أن يفصل تأثيرات الرؤية عن تلبّسها الفني.. ومعضلة أيهما أسبق قد وجدت حلّها منذ زمن بعيد، ففي معظم المذاهب الأدبية الغربية كانت الرؤية هي نقطة البدء، ثم تجيء المنظومة الفنية لكي تعكس مفردات هذه الرؤية وتتلبّسها بطرائقها الإبداعية الخاصة، وليست الواقعية الإسلامية بدعاً من الأمر.