بقلم/ فريد الأنصاري
وللصلاة في الإسلام جمال الدخول في موكب الكون العابد، سيرا إلى الله تسبيحا وتمجيدا. فذلك إذن مقام الأنس البهي، حيث يستشعر العبد صحبة الكائنات كلها، تنافسه في حبه الجميل، ووجدانه العليل، وتسابقه في مسراه عبر قافلة العابدين الراجين الخائفين: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِه﴾(الرعد:13). فيا أيها الإنسان! ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾(الحج:18){س} أيّ تناسق هذا بين الأرض والسماء؟! وأي تناغم هذا بين شتى المدارات؟! وأي شذوذ هذا الذي يمارسه الإنسان في تمزيق وحدة الوجهة نحو الخالق العظيم؟! فَلِمَ لا يسجد داود عليه السلام لربه في هذا الموكب المتسق التغريد والتجويد… ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِين﴾(الأنبياء:79)، ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ (ص:18-19) ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾(الإسراء:44)، و﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾(النور:41).
الإنسان عبد كوني
إن هذا القرآن يخاطب الإنسان باعتباره كائنا “كونيا” بامتياز. إنه يعيش في الأرض. نعم، ولكنه يمتد بفكره الطموح إلى الآفاق البعيدة بملايين السنوات الضوئية، بل بملاييرها وزيادة. فهو “كوني” بما هو عبد الله رب العالمين، يحمل رسالة الله في رحاب هذا الكون كله، “الكون” بمفهومه القرآني الفسيح، الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، لا بمفهومه الفزيائي الضيق -على سعته- الذي يقف علماء العصر عند حدوده حائرين. فما النجوم والكواكب كلها بفضاءاتها وسُدُمها إلا سقف هذه السماء الدنيا. والكون القرآني يمتد فوقها سبع سماوات. و”السماء” في القرآن مفهوم غيبي لا علاقة له بالمادة المتجلية في عالم الشهادة. قال جل وعلا: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾(الصافآت:6)، وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾(نوح:15-16).
أيْ عبدَ الله! انظرْ، هذه الأجرام السماوية تسبح الله وتصلي، سابحة في مدارها السائر أبدا إلى الله: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(الأنبياء:21).
أما أنت أيها العبد المؤمن! ففلكك السيار إنما هو مواقيتك الخمسة، تجري بك عبر أبراج المحبة ومنازل الشوق، فالبِدارَ البدارَ يا سالك بأوقات المطالع! فقد جمعت كل الخير في تجليات الجمال، وما بقي بعدها إلا التيه في فيافي الضلال. عجبا! وأي كوكب هذا الذي يرحل في مداره مجذوبا إلى جاذبيته، ثم يتخلف عن مطالعه؟ كيف وها ﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾(النساء:103).
الوقت هو الصلاة
كان الوقت فكانت الصلاة.. وإنما الوقت هو الصلاة.. فتأمل! الإنسان، هذا الجرم الكوني الصغير، كان المفروض فيه أن يدور بفلكه كسائر الأجرام السيارة في الكون طوعا لا كرها. ولكن لو كان يدري… إن هذه الآية العظيمة تضعه في مداره الطبيعي ليسلك سبيله إلى ربه ذلولا: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتاً﴾. وما الإنسان إن لم يكن هو هذا العمر المحدود بداية ونهاية، وبينهما يوجد شيء اسمه الإنسان، فتأمل!
وإنما الصلوات الخمس مواقيت لرموز التحولات الزمنية؛ فالفجر بدء وبه تبدأ الحياة، وما بدأ شيء إلا لينتهي. والفجر اسم وقت قبل أن يكون اسم صلاة، لأننا إنما نعبد الله بالوقت. وإنما الوقت هو الصلاة لله رب العالمين الذي أنعم عليك بالبدء، أنعم بالحياة، فاملأ رئتيك -يا سالك- بالنفَس الأول من صلاة الميلاد، ميلاد الحياة. ويا لخيبة من نام عن شهود النبع الأول من عين الصفاء، فكرع من بعد الوقت ماء مسنونا! وهل يكرع الكارعون في آخر الماء إلا غسالة الأولين والسابقين؟!
ويدور الكوكب العابد في مداره هونا، حتى إذا توسطت الشمس كبد السماء اشرأبت الأعناق لسماع المؤذن يعلن بدء الزوال وانقلاب الظل إلى الجهة الأخرى. زوال الشمس يا صاحبي بداية العد العكسي في عمر الإنسان، فمذ دشن فجره وهو يعد عدا تصاعديا. حتى إذا زالت الشمس وامتد الظل قليلا إلى الجهة الأخرى بدأ الانحدار. ففرارا إلى الله إذن؛ تشهد منتصف عمرك صلاة ظهر، فما بقي أكثر مما سلخت من أنفاس، ذلك هو التحول الفلكي الثاني: محطة كبرى من محطات الزمن الأرضي، تشهدها عابدا لا شاردا عن باب الله. حتى إذا صار الظل مثل طول كل قامة امتد عنها بدأ العصر ينذر بقرب الأفول! وما العصر إلا إنذار لك يا سالك أنْ لم يبق لك من العمر إلا لحظات وتنتهي الأضواء إلى ظلمة القبر.
ماذا أعددت لذلك البيت الموحش من مؤنسات؟ والعصر محطة فلكية أخرى ينعصر فيها الزمن انعصارا ليشهد تحول الصهد المنخنق إلى أصيل. ذلك آخر الزاد إذن من سبحات النهار، ليس بعدها إلا مسك الختام. ومن هنا النذير الشديد لمن غفل عن هذه الساعة الفاصلة. فلحظة أو لحيظة -لا تدري كيف- ويكون الغروب. هنالك تشهد كيف يموت الضوء، بل كيف تموت الحياة، وتصلي. وإنما المغرب غروب، تلك هي الحقيقة الأولى التي نطق بها الفجر مذ تفجر عن أنواره لو تعلمون. فيا عبد، ما أخرك عن شهود حقيقتك؟! هذا الكون كله يغرب، ولا عودة للحظة ماتت، لا عودة لها أبدا… محطة فلكية من تحولات الأزمنة، تشهدها صلاة خاتمة للأضواء، وفاتحة للعتمات. ثم ندلج إلى الله بالعشاء صلاة سارية. وإنما العِشاء من العَشاء، وهو في الأصل ضعف البصر حيث العتمة تمنع الإبصار إلا قليلا.
تلك إذن هي الصلوات الخمس، أوقات للتحولات الفلكية الكبرى، نعدها بالصلاة عدا. ألم أقل لكم كان الوقت فكانت الصلاة، وإنما الوقت هو الصلاة؟! ولقد قلت لك يا صاح، فتأمل!
وإنما الأوقات الخمسة رموز لليوم كله؛ فجر، فظهر، فعصر، فمغرب، فعشاء. فماذا بقي بعد ذلك من الوقت إلا امتدادات لهذه أو تلك؟ فالوقت كله إذن هو الصلاة. أنت تصلي الأوقات الخمسة؛ إذن أنت تصلي العمرَ كله، قلت: كله. وإنما فرض الله الصلاة عمرا، لا حركة ولا سكنة إلا صلاة. ألم يفرضها عز وجل أول ما فرضها خمسين صلاة، ثم خففها إلى خمس، كل وقت منها ينوب عن عشرة أوقات، والحسنة في ديننا بعشرة أمثالها؟
أن تعبد الله بالوقت يعني أنك تعبده بمهجتك، وما المهجة إلا العمر، وما العمر إلا زمن، وما الزمن إلا أعوام، وما الأعوام إلا أشهر، وما الشهر إلا أيام، وما الأيام إلا ساعات، وما الساعات إلا دقائق، وما الدقائق إلا ثوان. فما عمرك يا ابن آدم،
دَقّاتُ قلب المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائقٌ وثوانِ
هكذا إذن؛ أن تعبد الله بالخمس يعني أنك تعبده بالعمر كله، تنثر مهجتك بين يديه تعالى وقتا وقتا، أو قل نبضا نبضا، ما دام هذا الفلك يعبر العمر إلى ربه هونا.
أما أن يفوتك وقت فيعني أنك قد خرجت عن مدارك. فانظر أي حافة من الفراغ العاصف تنتظرك، وأي قوة بعد ذلك ستعود بك إلى هدوء المدار…
أن يفوتك وقت يعني أنك فقدت جزءا من العمر. ومن ذا قدير على استعادة الزمن الراكض إلى وراء؟ ولقد قال الفقهاء لفعل الصلاة إذا كان في الوقت “أداء”؛ وإذا كان بعد الوقت “قضاء”؛ لأن الذي يقضي لا يؤدي أبدا. هل يمكنك استعادة الوقت؟ هل يمكنك استعادة التاريخ؟ هل يمكنك أن تعيش اللحظة مرتين؟ ولقد صدقوا في الفلسفة القديمة إذ قالوا: “لا يمكنك أن تسبح في النهر مرتين”. لو لم تكن الصلاة “وقتا”، لأمكنك أن تفعل ذلك على سبيل التشبيه والتقريب، أما وإنها وقت فإنك لن تفعل، وإنما الذي تفعله أنك “تعوض” تعويضا، وما كان العِوَضُ -بعذر أو بغير عذر- ليكون كالأصل أبدا، لسبب بسيط هو أن المسألة وقت، فانظر لو أنك لم تأكل طعام عشائك حتى كان الصباح، ثم طلبته؛ أتكون حينئذ تتعشى أم تفطر؟ طبعا إنك لن تتعشى عشاءك ذاك بعدُ أبدا، ولو كان الطعام هو عين الطعام. لسبب بسيط هو أن المسألة وقت. ولا صلاة تفوت فتؤدى بعد ذلك أبدا، وإنما فرصتك الوحيدة أن تقضي إن جاز لك قضاء. وشتان شتان بين أداء وقضاء! ألم أقل لكم كان الوقت فكانت الصلاة، وإنما الوقت هو الصلاة؟!
الوضوء حلية المؤمن
وأول البدء في الصلاة تجمل بالوضوء، فهؤلاء المؤمنون يتسابقون إلى تزيين وجوههم، وأيديهم إلى المرافق، ورؤوسهم، فأرجلهم إلى الكعبين. و”تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء” (رواه مسلم)، ذلك شرط المرور إلى عتبة الصلاة، إذ “لا تُقبل صلاة بغير طُهور” (رواه مسلم).
وتتقاطر أفواج المصلين على الماء؛ ليرِدوا من بعد عطش شديد، مما أصابهم من دخان المال والأعمال. وتمتد الأيدي خاضعة ذاكرة يدفعها الحنين إلى ارتداء أوسمة الإيمان طهورا ينقلهم مباشرة إلى مناجاة الرحمن. وإن “الطهور شطر الإيمان” (رواه مسلم)، كلمة سرٍّ مُودَعة في كتاب الاستئذان من حديثك يا رسول الله.
وتدور الفصول من حر إلى قر، فيبقى الوضوء سرا من أسرار الجمال الذي ينسخ نوره آثار معركة الحياة، من سهام إبليس ورشاقته.
كانت كلمات النبوة بلسما، يوضع على الجروح فتشفى بإذن الله. فها أنا ذا يا حبيبي أرتحل إليك مخترقا حدود الزمان والمكان؛ لعلي أصيب رذاذا مما أصاب الصحابة الكرام، فجنبات المعمور ما زالت تردد أصداء النور النبوي: “ألا أدلكم على ما يمحو به الله الخطايا، ويرفع به الدرجات؟” قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط، فذلكم الرباط” (رواه مسلم).
ألا هونا عليك يا صاح! فما في الدنيا وسخ، أو دَرَنٌ لا يغسله أريج الطهور. لكنما التحلي مقام ينبئ عن تمام التخلي. فهلم إذن، وَأْتِ من أي الجهات أتيت، وبأي الأدواء ارتديت، فكل حفنة من الماء كفيلة بمسح بعض غبار الطريق.والمكاره شتى في هذا الزمن الرهيب يا نبي الله… فهذا قر الشتاء أصبح اليوم خنقا، بتوقيت تعده عليّ ساعات الدرهم والوظيفة، وأشياء أخرى ما سلمت منها عين ولا خد ولا يد ولا رجل. فبأي حمأ آسن امتلأت برك هذا العصر الغريب!
أوَليس “إذا توضأ العبد المسلم، أو المؤمن، فغسل وجهه؛ خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه، مع آخر قطر الماء. فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع آخر قطر الماء. فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب” (رواه مسلم). بلى يا رسول الله!..
مع الغر المحجلين
فما أبطأ بك إذن يا صاحبي؟ هذي جموع المؤمنين سارعت إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم القيامة، يرِدون حوضه الكريم، بأوسمتهم النورانية: كانت الخيل وهي مقبلة فأل خير، ترفع غُرَرَها البيضاء نحو سماء الانتصار، ولقوائمها المحجّلة -وهي تباري الأسنة راكضة- جمالٌ، لا يضاهيه إلا جمالها وهي تقف هادئة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجه أغَرَّ وأطراف محجَّلة. وإنما ذلك في المؤمن نور يكتسبه بسبب ما كان يحلي به وجهه وأطرافه من طهارة، في مسرى العبادة، السالك إلى الله.
فلتسبغوا الوضوء على المكاره إذن سادتي الأتقياء، فإنكم “أنتم الغُرُّ المحجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله” (متفق عليه). تلك سيم الجمال في وجوهكم، وأطرافكم يوم تَرِدون على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سِيَم “ليست لأحد من الأمم” (متفق عليه)، بها تُعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدر المتناثر في دلجة الفضاء.
هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحا لا يذبل وميضه أبدا. فإذا النبي الكريم يميز المحبين وسط الزحام واحدا واحدا: “ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة”، قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: “أرأيت لو دخلت صُبْرة [محجرا] فيها خيل دُهْم، بُهْم، وفيها فرس أغر محجل، أما كنت تعرفه منها؟” قالوا: بلى. قال: “فإن أمتي يومئذ غُرٌّ من السجود، مُحَجَّلُون من الوضوء” (رواه أحمد).
هذه قصة الماء الطهور في جداول السلوك إلى الله. وفي الماء سقاء لدالية الشعور بالرضى الرباني، والقبول للمثول أمام جلال الله. ألا ما أعمق الفرق في الغصن الواحد بين زمانين: الأول سنوات عجاف، لا نصرة ولا نعيم، ولا صدى لصهيل إلا قعقعة الحطب في ليالي الريح.. والثاني عام فيه يغاث الناس، فتتسلق الدوالي أغصان البروق، ويحتفل المطر، فإذا الأشجار مورقة ريانة، وإذا صفوف المصلين تتراص عند فاتحة الزمان الجديد، والوجوه مازالت ترشح بماء الطهور… وتكون الصلاة… “والصلاة نور” (رواه مسلم).
كانت كلمات الإقامة إشعارا ثانيا -بعد الأذان- بضرورة نفض كل ما بقي من علائق التراب قبل الإذن للأجنحة أن تقلع في طريقها إلى مقام المحبة: “قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة!” وترتفع الأيدي المحجلة تجاه القبلة في تكبيرة الإحرام، لتفريغ البال من جميع الأحوال، إلا حال الفقر المرفوق بالشوق إلى الغني الحميد، ثم تتأدب بالتزام الصدر في وقفة العبد بين يدي الملك العظيم، تأسيا بجمال الامتثال في قيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في وقوفه بباب الله “يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد” (رواه أبو داود والنسائي)، و”كان يضعهما على الصدر” (رواه أبو داود)، ثم تشرق التجليات…
القِبلة جامعة الأفئدة
والقِبلة جامعة لشتات القلب والبصر، وإنقاذ للعبد السالك من مقام الحيرة إلى حدائق الطمأنينة، قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾(البقرة:144).
وكيف لا يحتار هذا الفكر الجزئي البسيط، القابع في مدار كوكب ضئيل، يدب في بحر لُجِّيٍّ من الكواكب والمجرات، وتيه من العوالم والمخلوقات، مما يستعصي حتى على مجرد التصور الشامل والاستحضار الكلي… فكيف إذن لا يحتار هذا الفكر المحدود المنحصر، وهو بصدد الاتصال، وعلى أعتاب المناجاة مع رب هذه العوالم المحيط بجميع هذه المخلوقات…
فلتكن القبلة إذن قنديلا آخر في طريق التعبد يجمع المصلين في العالم أجمع حول قلب واحد، ينبض بتوحيد الله ذي الجلال، ويبعث من مكة المكرمة أنوارا تتلقاها أفئدة العابدين في كل مكان “أن هلموا، هذا بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس”، فتحج الأرواح من محاريبها خمس مرات في اليوم… “الله أكبر!”
كأن سيف النور قد قطع الزمان نصفين، الأول إلى خلف، فما زال راكضا في تغيره يذوب فناءً بذوبان الأشكال والألوان المتهاوية تترى، في عالم الأوراق السافرة بين ربيع وخريف، ولا برعوم يورق مرتين: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾(الرحمن:26-27). والثاني إلى أمام، ما يزال متوجها إلى مقام البقاء، فالنور المتجلي على الغرر البهية مستمد من معين لا ينضب. والعبادة لحظة تستمد خلودها من مناجاة الحي الذي لا يموت، فتفنى الذوات عند آجالها، وتبقى لحظات الصلاة حرما آمنا لا يناله أثر الزمان، ليرسم نعيما سرمديا بقناديل تستمد زيتها الوضاء من مشكاة الله، ويُتَخَطّفُ السعي العابث من حوله، فإذا هو محض سراب.
المناجاة بين الخالق والمخلوق
كان الوارد نورا يهمي من أعلى، فينفتح القلب بكلمات من نور آخر، فإذا اللحظة مناجاة بين الخالق والمخلوقات.
أنت الآن أمام جلال الله، تقدم إيمانك إخباتا بين يديه تعالى، والقلب مفتوح الأبواب، فلا شيء به يبقى مستورا. وقد تنتابك أدخنة الطين رياء ونفاقا، ما بين الذرة وأقل، فتفر إلى ربك مذعورا. وتناجيه حزينا أن أبرئني يا سيد هذي الأوراد مني… “أوَ لست تصلي” و”إنَّ أحدكم إذا صلى يناجي ربه” (رواه البخاري).
عجبا! فأي قوة ما زالت تصمد في ساقيك، فتمتثل وقوفا أمام عظمة الواحد القهار، والجبل قد اندكّ وراءك من خشية الله؟ أن تصلي يعني أنك تقابل ربك غصنا منفوض الأوراق… فأنت كما أنت، لا تخفى منك خفقة قلب واحدة؛ صَفَتْ أم خالط دمعتها ريحُ الحمأ المسنون… و”إنَّ أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله قِبل وجهه” (رواه البخاري)، والله قَبل ذلك وبعده ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾(غافر:19). فكيف يمكن لهذا البصر أن يمتد قيد أنملة نحو السماء، والرب بجلاله قِبَلَه؟ إذن تندكّ ضلوعه، فيخر القلب صعقا، ولا يبصر شيئا بعدها أبدا. كان التحذير النبوي حريصا على أمر المحبين بالتزام آداب المحبة حتى لا تستحيل حديقة النور إلى ظلام دامس. قال صلى الله عليه وسلم: “لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم” (متفق عليه).
وأما التفات عن يمين أو شمال فهو “اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد” (رواه البخاري). وأنّى لعبد في مقام الخضوع أن ينصرف عن مشاهدة الجمال بقلب ملؤه التقوى والورع؟! وأنى لعبد في مقام الخضوع أن ينصرف عن تذوق كؤوس الترتيل الطافحة بشهود الفلاح؟! كيف و﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(المومنون:1-2).
يا لآيات البهاء تنطلق كلماتها من ألسنة رطبة بذكر الله، مصطفة مثلما تَصُفُّ الملائكة عند ربها… وكيف تَصف الملائكة عند ربها؟ قال: “يتمون الصفوف الأُوَلَ، ويتراصون في الصف” (رواه مسلم).
ألا صلى الله عليك يا رسول الله! أصَفٌّ في الأرض، وصف في السماء؟ والصلاة جامعة؟ هكذا إذن تخف الأجنحة المثقلة بأحزانها، وتنطلق الأسراب محلقة لمزاحمة الملائكة في مدارات النور عند أعتاب ملك الكون الظاهر والباطن.
ألا ما أشقى ذلك الجمل الشارد في صحراء الظلمات… لا يفتأ يلهث راكضا خلف سراب مال متسخ، حتى يتسخ وبره وتنتن رائحته، فيرين على قلبه ما يحجب رؤيته لجدول الصلاة الرقراق، وراء رمال العصيان، ثم يموت يلهث عطشا دون ظل المورد العذب. وما بين استحالة الموت ميلادا إلا أن يركع لمالك خزائن القطر، فإذا القفر حواليه حدائق ذات بهجة، ترشح غصونها بأنداء الطهور، نورا يصفيه من جميع الأدران.
كان البهاء يحيط الحبيب المصطفى، وهو في هالة صافية من أصحابه إذ قال: “أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات؛ هل يبقى من دَرَنِه شيء؟” قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: “فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا” (متفق عليه).
ويوقد الحبيب قنديلا آخر فيقول: “ما أدري أحدثكم بشيء أم أسكت؟” فقلنا: يا رسول الله إن كان خيرا فحدثنا، وإن كان غير ذلك؛ فالله ورسوله أعلم. قال: “ما من مسلم يتطهر، فيتم الطهور الذي كتب الله عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها” (متفق عليه)، وفي ومضة قنديل آخر: “وذلك الدهر كله” (رواه مسلم).
هذا المسرى الربيعي إلى الله، رَغَبا في ينابيع الرحمة والمغفرة، تتعانق الصلوات فيه أقواسا من الدوالي المورقة، حيث تتشكل العناقيد قناديل خضراء، ترسم خطوات النور الهادي إلى الرحمن، فتختزل العدد والزمان، إذ بكل خطوة عشر خطوات في طريق الله، فقد فرض الله على نبيه صلى الله عليه وسلم -في السماء السابعة، وبغير واسطة الملاك جبريل عليه السلام- خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم خففها سبحانه، اختزالا في خمس، ثم قال في الحديث القدسي: “يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة” (رواه مسلم).
أي فريضة هذه التي هي فضل كلها، ورحمة كلها، ونور كلها، وجمال كلها؟! وإن عبادة فرضت في السماء من غير واسطة الملاك؛ لحرية بالارتقاء صعدا بعشاقها إلى مقامات السماء.
فاصطبري يا أبدان على إدامة التطهر بنهر النور، فإن غصنا ينبت في جوار الغدير لا يجف أبدا، إن لم ينل من فيضه نال من نداه. والأمل يسري نضرة وجمالا في قده المياد ركوعا وسجودا.