بقلم/ الصفصافي أحمد القطوري
كانت الهجمات المغولية الكاسحة والمتتالية تهدم وتحطم النظم القائمة، والإمبراطورية السلجوقية في النـزع الأخير تتهاوى داخليا وخارجيا. القلاقل والعصيان يشمل كل عشائر الترك والتركمان على حد سواء. بصيص الأمل وشعاع النجاة يتركز فيما أبداه العلماء والمتصوفة والدراويش الذين كانوا بين الجموع البشرية الوافدة من أواسط آسيا أمام الجحافل المغولية، بحثا عن الاستقرار في الأناضول والرغبة في النجاة. وإبان هذا العصر المتلاطم بتيارات الفكر المتصارع، والذي تسوده القوة والقنص والسلب والطمع، كان المسرح مهيأ لظهور بطل. ولكنه بطل من نوع جديد، بطل يسعى للاستقرار والتوطن، بطل يسعى لامتلاك مفردات حضارية جديدة تتواءم مع العصر، حضارة الزرع والنماء. في هذه الأجواء سطع شمس الشاعر يونس أمره.
يونس أمره، شاعر شعبي وصوفي. لا نعرف بالضبط تاريخ ميلاده، وإن كانت وفاته سنة (720هـ/1321م) عن عمر ناهز السبعين. ووفقا لآخر ما وصل إليه الباحثون الأتراك، فإن يونس أمره ولد وعاش ومات ودفن في قرية تسمى “صارِي كُويْ”، وهي تقع في المنطقة الممتدة فيما بين إقليم “بورصوق” و”سقاريا”، وأنه تجول في كل مناطق الأناضول وسوريا وأذربيجان، وأنه كان درويشا لشيخ يدعى “طابطوق أَمْرَهْ” في منطقة سقاريا. وقد صرح يونس أمره في ديوانه أنه ينتسب لهذا الشيخ وأنه تلقى عنه الفيض لسنوات طويلة.
إن الشعب التركي المتدين نظر إلى يونس أمره كدرويش من الصالحين الواصلين أو كبطل ملحمي؛ فكما أقام له مدفنا في “صاري كوي”، فقد أقام له أضرحة أخرى في أماكن مختلفة كثيرة. وبعبارة أخرى، فإن الكل أراد أن يدّعيه لنفسه ويجعله بمنطقته. وقد أثبت الباحثون الأتراك بالوثائق التي استنبطوها من ديوان الشاعر، ومن كتابه المسمى “الرسالة النصْحية” أنه مدفون بقرية صاري كوي.
بيئته الحضارية
إن مشاعر الإنسان وتفكيره، يتشكلان تحت تأثير البيئة والمحيط الحضاري الذي يعيش فيه. وإذا كانت الحيوانات قد احتلت مكانا بارزا كرمز في الأعمال الأدبية التي تحكي حياة التنقل والترحال في الأدب التركي القديم، مثل “ملحمة أوغوزقاغان” وكتاب “حكايات دادا قورقوت”، فإن النباتات قد تصدرت الرموز المستخدمة في الأعمال الأدبية التي ظهرت في البيئة الزراعية المستقرة. فالنبات تابع لقوانين الطبيعة أكثر من تبعيته لإرادة الإنسان وقدرته ومهارته. فالإنسان أمام عوامل الطبيعة سلبي لا يرى مسبباتها بعينه المجردة، بل يراها بالعين ويحسها بالفؤاد.
من هذا المنطلق، هناك تضاد عميق وفوارق شاسعة بين شخصية “البطل” في الحضارة الرعوية، وشخصية الدرويش الولي المتسامي في الحضارة الزراعية. الأول، تسيطر عليه القوة المادية؛ أما الثاني، فتسيطر عليه القوة المعنوية. ولقد استغرقت عملية الانتقال من النموذج الحضاري الرعوي إلى النموذج الزراعي المستقر زمنا وجهدا كبيرين.
اعتنق الأتراك الإسلام، واستقر في نفوسهم ووجدانهم الفكر الصوفي، فسيّروه جنبا إلى جنب مع فكر الجهاد والفتح في سبيل نشر الدين الذي تمثلوه. وما الحضارة العثمانية إلا نموذج ملموس للمزج بين التصوف والفكر العالمي المعتمد على الدين. وكانت شخصية الفاتح “الغازي” و”الولي”، أهم شخصيات المجتمع العثماني. الأول يقوم بالفتح، والثاني يجعل الاستقرار والعيش على مبادئ الدين الجديد شيئا ممكنا ويعمر المناطق المفتوحة ويجعل الإقامة بين ربوعها شيئا محببا إلى النفس بما يزرعه من رياض وبساتين.
لقد كان للمتصوفة دور ملحوظ في عملية التوطين والاستقرار. فيونس أمره كغيره من مئات الدراويش والآخِيان (الفتوة)، كانوا من ذلك النوع الذي يطلق عليه درويش (Kolonizatör)، أي، الدرويش الإيجابي الذي يبني ويعمر. وهذا ما يجعل الباحثين ينظرون إلى هذه الفترة على أنها مرحلة اجتماعية مهمة؛ حيث كان هؤلاء الفتوة والدراويش، يختارون الأماكن الموحشة والخاوية ليقيموا فيها الزوايا والتكايا، ويحولونها بأيديهم إلى أماكن مأهولة ومسكونة.
كان التراث الشعري الشعبي -قبل التوطن والاستقرار- يمجد البطل المهاجر، والمسمى في ذلك التراث بـ”Alp tipi”، وكان جلّ همه هو الاهتمام بالحيوان تدجينا واستئناسا. فبعد الانتقال إلى حضارة القرية والمدينة، احتلت عناصر الطبيعة من تربة وماء ونبات محل العناصر الحيوانية.
وكانت رؤيا الغازي عثمان (مؤسس الإمبراطورية العثمانية) التي تجسد له فكرة امتلاك العالم، كانت عبارة عن شجرة مباركة تخرج من صلبه؛ حيث تقول الرؤيا: “وما إن دخل البدر في أحضان الغازي عثمان، حتى نبتت من أحشائه شجرة تظلل العالم بظلها، وتحت ظلالها تظهر الجبال وتُرى، وتتدفق المياه من تحت جذورها، ومن هذه المياه يشرب البعض، والبعض الآخر يسقي الرياض والبساتين، وتتدفق الغدران”.
فالشجرة هي رمز لحضارة التوطن والاستقرار، ومناقبُ أولياء الأناضول مليئة بالأشجار وعيون الماء والرياض والبساتين. ويونس أمره يعقد صلات حميمة بين الإنسان والعناصر النباتية، فيجعلهما يتحادثان ويتحاوران. الوردة عنده هي رمز الجمال ورواء المعشوق، وبهذا الرمز يربط بين الحب والسلام اللذين تنعقد وتتأسس عليهما نظرته تجاه العالم والإنسان. والوردة عنده لا تعيش وحدها، بل في البساتين، حياتها مرتبطة بالماء، وتستمد من التربة النماء. والله هو المحبوب وهو الروضة التي فيها حياته. فيناجي قائلا:
لأصِلْ ولأكُنْ صَفِيَّ ذلك الصديق
وردةً متفتحةً فلأكنْ،
وبلبلاً غريداً فلأكُنْ
ومقامي في روضة الحبيب فليكُنْ…
إذا ما تناولنا المحيط الذي عاش فيه يونس أمره بشكل رمزي، وجدنا أن عالمه الروحاني هو ديار مليئة برياض الرياحين والورود، وفي هذه الأبيات يشبّه الشاعر نفسه بوردة تحترق طوال العام بنار العشق المتقد. إن وردة العشق هذه تنمو، وتترعرع طوال العام:
في أَتون نار العشق أتقد،
كلما زاد احتراقي،
تضوع شذي
ولن أذبل أبدا…
مشربه السلوكي
إن يونس أمره الذي يبدأ به الشعر الشعبي الصوفي، أي شعر التكايا، نجد أشعاره انصهارا لتيارات الشعر التركي، أي إنها مزج بين شعر الديوان وشعر التكية والشعر الشعبي. فهو شاعر ولي من أولياء الله الصالحين، ومن الذين وصلوا إلى قمة الهداية. إنه عاشق إلهي ترنم بالحب الإلهي. ومع أنه استشف فلسفة التصوف من “مولانا جلال الدين الرومي”، غير أنه لم يكن مولويا. وإنه نجح نجاحا كبيرا في تبسيط ونقل هذه الفلسفة ونظرتها إلى الحياة، إلى الجماعات الشعبية الواسعة، بلغته الراقية السلسة وبطريقته وأسلوبه الخاص به. وقد تناول في أشعاره بصفة عامة، الحياة والموت والآخرة والحب الإلهي والنـزعة الإنسانية الخالصة. كان يونس أمره ينطلق في كل ذلك بفكر حر واضح، لا يهتم بالشكل بقدر اهتمامه بالمعنى والجوهر. إنه يركز على فلسفة التوحيد في أشعاره ولم يكن في يوم من الأيام سوى عاشق إلهي، تغنى وصدح بهذا الحب وكثر إنشاده، بل هو بلبل صداح يتنقل بين الورود والرياحين، يتنسم تلك الرياحين ويجعلها تسبّح الخالق في ترانيم شعرية عذبة المذاق فواحة الرائحة.
منهجه في التفكير
يتضمن ديوان يونس أمره كثيرا من النماذج الشعرية التي تدل أصدق دلالة على نشأته الريفية. فعندما يتحدث عن عواطفه أو أفكاره، كثيرا ما يستخدم رموزا وتشبيهات وكنايات مستقاة من حياة الزرع والبستنة وإنماء الرياض والحدائق، أي إنه ينظر إلى نفسه أولا وإلى البيئة المحيطة به ثانيا:
قد عبرنا تلك الجبال،
والوهاد، والبساتين المواجهة،
بالصفاء، والسلامة،
فالحمد لله…
فالعبور معتمد على الصفاء والسلامة والحمد. وإطار البيئة المحيط جبال ووهاد وبساتين ناضرة، كلها ممزوجة بالسلامة والصفاء ويتبع ذلك “الحمد لله”. والإنسان عنده ما لم يكن عاشقا محبا، فهو يستحق القطع والحرق كالشجرة الجافة التي لا تثمر:
من لا يحب فإنه لا يسجد،
ولا يعرف قلبه الإيمان،
الإنسان الذي لا يحب،
يشبه شجرة
وعندما لا تثمر الشجرة،
لا تنحني هامتها…
إذن، فبعد العبور المعتمد على السلامة والصفاء والحمد، يأتي التطهر بالمعاناة ونار الحب والفناء.
ويتساءل الشاعر، أين توجد النيران؟ وما لم توجد فما العمل؟ لا بد من اللجوء لموقد آخر، لا بد من المرشد العارف. يرسم يونس أمره الطريق، ويخط المنهج لمن يريد أن يكون درويشا حيث عليه أن يتوسل بست مراحل:
عليه أن يدع الشراب،
أن يتجرع السم،
أن ينـزع قلبه من الدنيا بيمينه،
أن يحصد الشعير،
عليه أن يخلط دقيقه بالرماد،
وأن يجففه في الشمس…
وعلى من يصبح درويشا أن يعي ما حوله، ويفكر في جبلته وكيفية خلقه. فالماء والتراب هما عصب القرية. وإذا كان فلاسفة العصور الوسطى جعلوا الإنسان وسائر الموجودات مكونة من أربعة عناصر: النار والهواء والتراب والماء، فهو أيضا يعتقد أن لهذه العناصر تأثيرا كبيرا على تعيين مزاج الإنسان وشخصيته. فالنار والهواء هما تجسيد للصفات السيئة في الإنسان، كالهدم والحرق والتخريب. أما التربة والمياه فهما مبعث الخير والنماء دائما في الإنسان. إذ يقول:
جاءت مع الصلصال أربع صفات:
الصبر، وحسن الطبع،
والتوكل، والمكرمة.
ومع الماء نبعت أربع خصال:
الصفاء، والسخاء،
واللطف، والوصال.
ومع الرياح هبت أربعة أهواء:
الكذب، والرياء،
والخسة، والهوى.
ومع النيران شبت أربعة مظالم:
الشهوة، والكبر،
والطمع، ومعها الحسد…
يصور يونس أمره هؤلاء المنتسبين إلى النار والهواء على أنهم سفكة للدماء، محبّون للحرب والدمار. وعلى النقيض من هؤلاء يمتدح أخلاقيا أهل التراب والماء، فمنها خُلقنا وإليها نعود. فمن صفات هؤلاء الصبر والتوكل على الله ولين الجانب والسخاء والمكرمة. والدرويش هو من تتجلى في ذاته هذه الصفات. يبدأ يونس بنفسه فيدعوها إلى التمرغ بالتراب:
يونس، أيها المسكين!
لا تتكبر على الواصلين،
وكن ترابا.
فالكل منبته من التراب،
والتراب روضة لك…
ثم إن يونس الفلاح القروي هو كغيره من الزراع، لا يثق بقوةٍ غير قوة الخالق سبحانه. فالحياة في القرية هي الصبر والانتظار. فالفلاح يبذر البذور في أعماق التربة ولا يملك سوى الصبر والانتظار. فبعض البذور تنبت وتثمر والبعض يفنى ويبتلعه الفناء. وما حياة الإنسان عند يونس أمره إلا كذلك:
مسكين ابن آدم،
شبّهوه بالحصاد،
فهو كالبذور المنثورة،
بعضه يفنى،
وبعضه يترعرع…
وأشد ما يلفت نظر يونس هو دوران الفلك وتتابع المواسم الأربعة، وما يتبع ذلك من تأثير على حياة النباتات. في الموسم الذي تصل فيه النباتات إلى كهولتها، وما إن تسلم الروح بالحصاد، حتى يكون ذلك إيذانا لبدء حياة جديدة في موسم جديد. ومن ذلك تَولد فكر الفناء والخلود لدى يونس أمره. والإنسان عنده كالنبات وسائر الكائنات، في دوران ودورات متتابعة. وأمام هذا الدوران والتتابع، ومن متابعته ومشاهدته، يتولد الإيمان لدى الإنسان فيسمو. وهذا ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات.
فحياة الكون كلها قائمة على مبدإ الدوران. ذلك أن كل شيء في الكون يدور؛ الذرات تدور، بل الإلكترونات والبروتونات، والنيترونات الموجودة فيها تدور. ويعتمد الإنسان في حياته ووجوده على دوران الذرات المختلفة التي تتكون منها عناصر جسده الأساسية، وعلى دوران كرات دمه، وعلى خلقه من تراب وعودته إليه، فهذا نوع من الدوران. وتعتمد معيشة الإنسان على دوران الفصول وتتابعها. والعاقل هو من يدرك بعد تتبع وتدبر… ومن هنا يتولد الإيمان. وفي هذا يقول:
قطّعَ بَردُ الشتاءِ الأَوْصالَ،
وهبّتْ نسائمُ الربيع العليل من جديد.
وفجأة، لفّت رحمةٌ شاملةٌ المكانَ،
وقدم الصيفُ المبارك من جديد.
فاكتسى العالم من خزائنه خلعا جديدة،
ووَهب النباتَ حياة جديدة.
لم تأت كلمتي،
من أجل الصيف، أو الخريف،
بل من أجل المعشوق من جديد.
أتوسّل للسلطان
أن يهب الحياة،
للذين أفناهم من جديد…
فكره ورؤيته
لقد كان يونس أمره أميا، ولكنه كان ملهما إلهاما إلهيا في كل ما قاله من شعر. وهو نفسه يقول:
لا علم عندي،
ولا إحاطة،
ولا قدرة لدي،
ولا طاقة،
ولكن عنايتك يا إلهي،
هي التي أنارت وجهتي.
ومن هذا الضياء
تتنـزل الأشعة النورانية،
لكل كلمة في الأرض أو في السماء،
ويونس المسكين ليس له حظ
من علم القراءة والكتابة…
فهو إن كان ينفي معرفته بالقراءة والكتابة، إلا أنه صاحب معرفة وعرفان. وكان مصدر هذا العلم والمعرفة هو المسجد والمدرسة، وجاء ذلك عن طريق العبادة:
عبَدتُ كثيرا؛
في المسجد، والمدرسة،
واحترقت بنار العشق،
فتوهجت معرفتي،
وما وجدته في قلبي،
هما العلم والوصول…
إن يونس الذي نلمس في أشعاره الكثير من الاقتباسات القرآنية ومن الأحاديث النبوية، والذي كان يفهم الفارسية بالقدر الذي يجعله يفهم مولانا جلال الدين الرومي، لا بد أنه قد تعلم علوم عصره. ولكن العلم الذي كان ينكره ولا يعترف به، هو العلم الذي لا يصل بصاحبه إلى معرفة الحق سبحانه وتعالى، العلم الذي يحول دون الوصول إلى الحقيقة وإلى الموجود المطلق. تلك الأمور لا تتأتى بالعلم، بل بالعرفان، ويتم الوصول إليها بالحب الإلهي. وكان يتعرض دائما للجهلاء وينفر منهم، ويبغض إلى النفوس الجهل والجهلاء، فيقول:
لكي تكون يونسيا،
فابتعدْ عن أهل الجهل؛
فكم من المساوئ،
تصيب المؤمن من الجاهل…
وكان يونس أمره يكره الإنسان الذي لا يحب والذي لا ينبض قلبه بالحب والهوى، كما يوصي بالنظر إلى كل الناس بعين المساواة. ومن يفرق في النظر يعتبر عاصيا، فالكل عنده سواء:
إن من لا ينظر بعين المساواة،
إلى شعب الاثنين والسبعين أمة،
فهو في الواقع عاص،
حتى وإن كان ذا عِمّة وجبّة…
إن يونس أمره يحب كل البشر ويراهم جميعا سواسية. وإنه كدرويش مسلم ينظر إلى كل الكائنات بنفس النظرة الإنسانية:
لم أُخلق من أجل الخصام،
بل خُلقت من أجل الحب،
القلب هو بيت الصديق،
وقد خُلقت من أجل القلب…
القلب عند الدرويش يونس هو المكان الأعلى والأسمى، ولما كان القلب هو مكان التجلي الإلهي، فعلى المرء أن يطهر قلبه من كل الرزايا، حيث يقول:
القلب هو عرش الحق،
نظرَ الحقُّ إلى العرش،
من تطهّر قلبه،
فما أسعده في الدارين…
إن القوة المعنوية التي تسيطر على أشعار يونس أمره، ليست بخارج الإنسان، إنما بداخله. ولذلك كثيرا ما كان يدعو الإنسان إلى العودة إلى نفسه، حيث يجد فيها الأدلة على وجود الله ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾(الذاريات:21). والشخصية المحببة إلى نفسه، هي شخصية الدرويش الباحث في ذاته، الراغب في المساواة والحب والسلام والصداقة. والدرويش الباحث عن نفسه عنده، هو شجرة مثمرة يستفيد كل شخص من ثمارها، وحتى أوراقها بلسم لكل ذي داء عضال:
مِن فروعه يقتات الشارد والوارد،
أوراقه دواء لكل ذي داء،
وفي ظلاله يتفيأ كل ذي شأن عظيم…
ويصل يونس أمره إلى قمة روعته الفنية والصوفية، بل والرمزية في آن واحد، إذ استنطق الأزهار والورود، وأخذ يحاورها ويجعلها تسبح الخالق:
سألت الزهرة: وما الوردة بالنسبة لكِ؟
قالت الزهرة: أيها الدرويش،
إن الوردة عَرَق محمد صلى الله عليه وسلم.
سألت الزهرة أيضا،
لـمَ عنقك مائل؟
قالت الزهرة: أيها الدرويش،
قلبي نحو الله قائم…
وكان يونس أمره يرفض رفضا تاما المظهرية والخيلاء. وعلى الدرويش الحق أن يترك كل وسائل الخيلاء:
ليست الدروشة،
بالتاج والخلعة،
بل الدرويش المفعم قلبه بالحب،
ليس بحاجة إلى الخرقة، أو التاج…