بقلم: محمد علي قرطجالي
لندن (زمان التركية) – تصوروا معي أن مدمنًا للقمار يمتلك خزائن نفيسة تحت يديه، ويبدد المجوهرات التي ورثها عن عائلته أو يخسرها في لعبة قمار أو يرهنها في مقابل ديونه.. فمثل هذا الإنسان سيخسر البتة يوما ما كل ثرواته؛ وذلك لأنه وكل مَنْ حوله من رجاله سقطوا في دوامة الكسب والربح السهل والسريع دون تعب وعرق ويواصلون التردي إلى دركات غير مسبوقة في هذا المضمار.
لقد ذكرت هذا المثال لأن القصص القصيرة قد تعبر أحيانا عن حقائق عميقة وتساعد على فهمها بسهولة.
لكن المثال الذي ينطبق على تركيا الراهنة تماما ليس ذلك الشاب المتهور الذي يبدد ثروات عائلته المتراكمة عبر سنين. ومع أن هناك أوجه شبه عديدة بين المثال الذي ذكرته وبين الواقع التركي، إلا أن الصورة أكبر وأعقد منه بكثير، حيث يُقبل شخص واحد على تبديد كل ما تملكه الدولة والشعب، سواء كان ماديا أو معنويا، بلا هوادة. فالحزب الحاكم في تركيا يطرح على موائد المقامرة دولة بحضارتها وثرواتها المادية والمعنوية التي تراكمت عبر ألف عام ونيف، تمامًا مثل مقامر حريص وخسيس يضع كل ثرواته على الطاولة من أجل مزيد من الكسب والربح.
إن السلطة الحاكمة في تركيا تستمر منذ سنين في إهدار القيم والروابط التي تعتبر المقومات الأساسية لقوام ودوام أي أمة ودولة، اعتقادًا منها أنها تستطيع توظيف واستغلال الحشود المتخاصمة والمتنافرة بصورة أكثر سهولة. لذا نرى أنها اتجهت إلى نبش الجروح القدمية ليبدأ سيل الدماء مرة أخرى بعدما كادت أن تندمل، حيث أحيت المشاكل القديمة بدلاً من دفنها بل أضافت إليها أنواعًا جديدة. كل جرح جديد فتحته السلطة في البنية الاجتماعية أهدت لها أفراد مجتمع لا يمكنهم الالتئام والاجتماع حول قواسم مشتركة وقابلون للاستعمار. لقد باتت التغذية على مشاعر الفرقة والتنافر بين أفراد المجتمع ديدنها وأهدرت الغراء الذي كان يربط بينهم على طاولة المقامرة.
ليس هذا فحسب، بل أقدم الممسكون بزمام الأمور في تركيا على إهدار السمعة الطيبة التي صنعها أجدادنا على مدار قرون أيضًا، وذلك من خلال أخطائهم القاتلة في السياسة الخارجية. إذ أقبلوا على استثمار جميع رؤوس أموالهم في تغذية الفرقة والنزاع والصراع بين دول المنطقة وشعوبها، بحيث أصبحت تلك الدولة العملاقة بمثابة اللص الذي يحطم الباب لكي يدخل حرم البيت الداخلي لكل دولة وينهب ما يجد أمامه، في الوقت الذي يزعمون دون حياء أنهم يبنون جسور الصداقة والمحبة مع كل الجيران.
صناع القرار في السياسة الخارجية التركية باتوا اليوم بمثابة أشخاص مرائين مجردين من المبادئ والمواقف النبيلة يبحثون عن الحل في سياسة التوازن بين القوى واللاعبين الإقليميين والدوليين بعدما بادروا إلى أمور تفوق بكثير حدود قدراتهم وقلبوا كل الموازين القائمة.
نظرًا لأن المأساة أو التراجيديا التي تشهدها تركيا كبيرة للغاية فإن الحديث فيها طويل وهناك الكثير من الأمثلة التي تنطبق على الحالة التركية. طبعًا ما ترجوه قلوبنا هو أن تتخلى الحكومة التركية عن أخطائها وتعود إلى صوابها وتمد جسور السلام مع جميع الدول المجاورة، لكن إذا لم يتم صوغ تلك التمنيات في ضوء قواعد العقل والمنطق فإنه ليس بالإمكان التأكد من أن طلب إصلاح العلاقات الثنائية سيتحول إلى مطية للوصول إلى أهداف مشبوهة.