بقلم: *محمد أبو سبحة
القاهرة (زمان التركية) – دون خوض صراعات علنية، أو ضجة إعلامية، تنضم روسيا رويدًا رويدا إلى قائمة المشاركين في التنقيب عن الثروات النفطية شرق البحر الأبيض المتوسط، في محاولة للاستثمار وتنظيم السوق الجديد للغاز الذي تعتبر من أكبر منتجيه، حيث لا تزال موسكو تفرض في هدوء مشاركتها بهذا الاستثمار الضخم، بالمنطقة المشتعلة بالتوترات على الرغم من أن الروس ليس لهم حدود مطلة على البحر المتوسط.
على مدار سنوات عملت موسكو على تعزيز حضورها في الدول المطلة على شرق المتوسط مثل مصر ولبنان بالقطاع النفطي، وفي قبرص واليونان بالاستثمارات والقروض، وفي سوريا بالسيطرة على الوضع السياسي وتحقيق النفوذ الاستراتيجي وإعادة تأهيل حقوق النفط في الدولة التي تمتلك ساحلا طويلا على البحر المتوسط. كما لم تتخلَّ روسيا أيضا عن حقول النفط في ليبيا رغم عدم الاستقرار السياسي والأمني، ويبدو أن الرئيس التركي أردوغان أقنع نظيره الروسي مؤخرًا بتقاسم عوائد النفط والغاز في الحقول الليبية، مقابل تقليل النفوذ العسكري الروسي في ليبيا التي وقعت معها تركيا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في أواخر 2019 حيث يتوقع أن تحتوي المنطقة على احتياطيات هائلة من الهيدروكربون.
تواجدت بذلك روسيا فعليًا على الأرض بدول شرق المتوسط النفطية لكنها غابت إعلاميا بشكل متعمد بغية عدم لفت الأنظار فغاب ذكرها عند الحديث عن الصراعات على كعكة الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، والتي تتنافس عليها مصر وتركيا وسوريا وقبرص ولبنان وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، وهم أعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط الذي أسسته القاهرة عدا سوريا وتركيا، بينما تشارك فيه الأردن باعتبارها دولة عبور سينتقل من خلالها أنبوب الغاز المنتظر مده من الدول الـ6 المنتجة إلى أوروبا، ومن جهتها تحتاج روسيا التي تمد أوروبا بنسبة 40% من احتياجاتها من الغاز أن تضمن من خلال تواجدها في الشرق الأوسط استقرار إمدادتها نحو الدول الأوروبية وعدم ظهور منافسة أمريكية لها عبر سوق الغاز الجديد.
بشكل مباغت مع الحفاظ على عدم التصادم، تتحرك روسيا الآن بتفويض سوري نحو بدء خطوات مباشرة للتنقيب بموقع جديد في شرقي المتوسط بسواحل محافظة طرطوس، بمنطقة تبلغ مساحتها 2250 كيلومترًا مربعًا والحفر في موقع آخر، مقابل ميناء طرطوس على الساحل الشرقي لسوريا.
روسيا كانت قد حصلت في غفلة من الزمان، على حق تشغيل مرفأ طرطوس الاستراتيجي لمدة 49 عامًا في صفقة سياسية قدمها رئيس النظام السوري بشار الأسد عام 2019 إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي منع انهيار نظامه وطرد المعارضة المسلحة من مساحات واسعة من الأراضي التي سيطروا عليها بتدخله العسكري الواسع منذ عام 2015، مقلصا نطاق الأراضي التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة حاليا من تركيا إلى الحد الأدنى.
صحيفة “الثورة” السورية قالت مؤخرًا إن وزارة النفط منحت شركتين روسيتين صلاحية التنقيب عن النفط والحفر بالمنطقة الاقتصادية لسوريا، الأولى شركة “كابيتال ليميتيد” والتي صرح لها بالتنقيب في البلوك البحري رقم (1) بالبحر المتوسط بمساحة 2250 كيلومترًا مقابل ميناء طرطوس حتى حدود البحرية اللبنانية.
الاتفاق الذي لم تشر إليه روسيا حتى الآن ينص على منح الشركة النفطية الأجنبية صلاحية التنقيب لمدة 25 عامًا قابلة للزيادة 5 سنوات في المنطقة، يسبق ذلك إجراء دراسة استكشافية لمدة 4 سنوات، ويمكن تمديدها لعام آخر إذا لزم الأمر، أي أننا نتحدث عن مدة إجمالية ممنوحة لروسيا للبقاء في شرق المتوسط لا تقل عن 35 عامًا. أما الشركة الروسية الثانية وهي “إيست ميد عمريت” التي أنهت دراساتها وتنتظر تعيين مواقع أولية للحفر، عقب نتائج الأبحاث ثلاثية الأبعاد، فتعمل في البلوك (2)، بالمنطقة الواقعة شمال محافظة طرطوس إلى جنوب مدينة بانياس في المحافظة ذاتها بمساحة 2190 كلم، وكانت الشركة حصلت على تصريح المسح والتنقيب عن البترول في عام 2013 وحتى 25 عامًا، الأمر الذي فتح شهية الرئيس فلاديمير بوتين نحو النفط السوري ليصبح وكيله في المنطقة فقرر لاحقًا التدخل في الحرب الأهلية.
مؤخرًا قدمت روسيا رسالة غير مباشرة إلى تركيا، مفادها “كفى استنزافا للنفط السوري” في صورة هجوم صاروخي ضرب أكثر من مرة معامل بدائية لتكرير النفط في شمال سوريا حيث النفوذ التركي، وسبقه استهداف قافلة نفط قبل أن تعبر الحدود السورية التركية. الرسالة حملت أيضا إشارة للولايات المتحدة وإسرائيل تشير إلى أن عليهما “تجنب” شمال سوريا، التي يريد الروس السيطرة عليها بالكامل بعد اتهام سابق للأمريكان بالاستيلاء على النفط السوري.
بعد سنوات من التحرك الروسي الحذر في شرقي المتوسط، بينما لم تهدأ المناوشات بين تركيا واليونان، وفي ظل محاولة فرنسا والولايات المتحدة فرض وجودهما عبر التحالف مع قبرص واليونان، من غير المعروف إن كانت موسكو ستستطيع الحفاظ على تحركها الحذر لحماية تواجدها الاستراتيجي في الشرق الأوسط وشرق المتوسط، أم أن المشهد سيتحول إلى صدام بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا.
ورغم تصاعد التنافس الجيوسياسي بين تركيا وروسيا في الشرق الأوسط والبلقان، بسبب الخلاف في وجهات النظر حول سوريا، والخلاف حول ليبيا وإقليم قرة باغ الأذري وانفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا، لا يزال هناك احتمال أن يتلاقى البلدان المنبوذان أمريكيا وأوروبيا من أجل فرض وجودهما في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط المقدر احتوائها على 122 تريليون قدم من الغاز، والتحكم بسوق منتجيه ومستهلكيه.
وكان وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، أكد صراحة خلال مقابلة مع وكالة الأناضول التركية الرسمية، أثناء اجتماع اللجنة الاقتصادية المشتركة بين البلدين في يوليو الماضي بولاية أنطاكيا استعداد الشركات الروسية للتنقيب عن الطاقة لصالح تركيا شرقي البحر الأبيض المتوسط. وفضلا عن محطة “آك كويو” النووية الروسية في ولاية مرسين جنوب تركيا، هناك تعاون روسي تركي استراتيجي في مجال الطاقة من خلال مشروع “السيل التركي” لإيصال الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا، حيث تم مد أنبوبين، ينقلان الغاز من روسيا إلى تركيا مرورا بالبحر الأسود، يغذي الأول تركيا، والثاني دول شرق وجنوب أوروبا.
وفي مثال واضح على أن اللجوء التركي إلى روسيا ليس ببعيد، نجد أنه عندما رفعت الولايات المتحدة حظر الأسلحة الذي كان مفروضا على جمهورية قبرص، عقب توقيع قانون شراكة الطاقة والأمن بشرق المتوسط والذي سينشأ بموجبه “مركز أمريكي للطاقة لشؤون شرق المتوسط”، لغرض الاستثمار في استكشاف الطاقة بالتعاون مع قبرص واليونان وإسرائيل، لوحت تركيا على الفور باستدعاء روسيا إلى شرق المتوسط في سبتمبر الماضي لإجراء مناورات عسكرية بالمنطقة في رسالة إلى قبرص واليونان مع تنامي حلفائهما، مفادها أنه بالإمكان إضافة لاعب كبير وحليف هام إلى الصراع.
ومؤخرًا اختار أردوغان الانحياز إلى روسيا في النزاع المتصاعد مع الولايات المتحدة، معتبرًا أن اتهام الرئيس الأمريكي جو بايدن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “قاتل” تصريح “لا يليق برئيس دولة” مشيدًا برد بوتين. أظهر أردوغان انزعاجه من وصف حليفه بالقاتل، متغاضيًا عن مقتل جنود أتراك في إدلب العام الماضي، بينما كانت روسيا المتهم الأول. كما كان غاز شرق المتوسط سببًا كافيا بالنسبة لأردوغان لنسيان كافة الخلافات المشتعلة مع مصر منذ ثماني سنوات والتودد إلى القاهرة وعرض التصالح معها، بل وتوقيع اتفاقية بحرية بين البلدين.
من الواضح أن الرئيس التركي رجب أردوغان المتهم بالإضرار بحلف الناتو، يحافظ على وجود تحالف قائم مع روسيا على كافة الأصعدة رغم نقاط الخلاف العديدة مع نظيره فلاديمير بوتين، ما لا يستبعد معه إمكانية استدعاء روسيا إلى شرق المتوسط، فيما ستقبل موسكو العرض على الفور بغض النظر عن فرص الاستثمار، انطلاقا من مبدأ “ما هو سيء للولايات المتحدة جيد لروسيا”.
*باحث سياسي بالشأن التركي
Twitter: @MohmadAbosebha