بقلم: الشيخ أحمد التجاني
التعارف
كنت مدعواً لحضور صالون ثقافي في إحدى ضواحي القاهرة. في البداية لم أكن متحمساً، فمن خلال تجاربي لتلك اللقاءات “الثقافية” كنت أراها أشبه بملتقيات للنخب وليس لها علاقة بقضايا المجتمع الأساسية، إلا أنني كنت مشتاقًا للقاء الأحبة فقبلت الدعوة.
في البدء سألت عن موضوع الصالون؟ فقالوا لي إنه صالون ثقافي يعقد في السبت الأول في كل شهر ويجمع أعضائه على مناقشة قضايا سياسية واجتماعية وفكرية. وهذا الشهر سيتم استعراض كتاب عن شخصية تركية دولية. فزاد ذلك من فضولي للتعرف على الصالون وأيضاً هذه الشخصية التركية التي يخصص لها وقت في إحدى صالونات القاهرة خصوصاً في مثل هذه الأيام.
وصلت متأخرا عن الموعد المحدد قليلاً، ومع ذلك استقبلني شاب تركي على مدخل الصالون بحفاوة واحترام، عرفني بنفسه وتعارفنا بشكل سريع، وقد كان يتكلم اللغة العربية الفصحى والإنجليزية بطلاقة، إلا إنني لاحظت أنه يفضل الحديث بالعربية.
دخلنا الى القاعة، فكان هناك جمع غفير من الحضور من مختلف الأجيال والجنسيات والمهن من كُتاب وفنانين وأكاديميين، يجلسون في انتظارنا على مائدة العشاء، جلست على المائدة، وأنا أشعر بشيء من الضيق بسبب تأخري.
وكنت أفكر في كيفية التكفير عن خطئي، وكان الأخ مدير الصالون يشجعني على الحديث والمشاركة حيث إنها المرة الأولى لي للمشاركة في هذا الجمع الكريم. فزادني الأمر توتراً وما كنت أدري من أين أبد؟ وفجأة تملكتني قصيدة في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم مطلعها:
* لا يا رسول الله كنت رجاءنا… وكنت بنا براً ولم تكن جافيا
فألفيتها، وقد احتفى الصالون بالقصيدة حفاوة كبيرة وتفاعل معها، فكانت طوق النجاة الذي أخرجني من غياهب الحرج وأدخلني في قلب الصالون. وعندها تناسقت أفكاري مع خطابي.
لقد نشأت في بيئة متصوفة، وهذا سهّل عليّ فهم الكثير من قضايا التصوف والدين الإسلامي، وقد لاقت القصيدة تشجيع الحضور كما طربت بصوت المنشدين. وبعدها تبادلنا الأفكار و تعارفنا و شعرت بمودة لم ألفها في لقاءات القاهرة من قبل.
وعندما جالت في خاطري أسئلة بشأن موضوع الصالون، دخل علينا شابُ يوزع كتاباً. وكنت أنتظر اقتناء نسختي كشوق الطفل إلى الحلوى. وقد بدا مدير الصالون لبقاً ولماحاً يدير الصالون بسلاسة وفاعلية يستعرض لنا محتوى الكتاب الذي عنوانه: “فتح الله كولن: حياة في الخدمة” من تأليف د. جون باول.
لم أكن أعرف عن فتح الله كولن إلا معلومات عامة أنه مفكر إسلامي وداعية وقد تردد اسمه كثيراً في وسائل الإعلام خاصة بعدما ادعى الرئيس رجب طيب أردوغان واتهمه بضلوعه في محاولة انقلابية فاشلة في تركيا.
وأذكر عند دراستي الجامعية كنت مهتماً بأطروحات الفكر الإسلامي، وقد شهدت تلك الحقبة احتدام التيارات الفكرية، لاسيما ما بين الفكر الإسلامي والعلماني في العالم.
وكوني من مجتمعات تنتمي إلى ثقافة غير القومية العربية، ازداد شغفي بتلك الأطروحات الفكرية بعيداً عن التحيز العاطفي وتأثيرات التراث وما شابه ذلك.
وقد قرأنا في المدرسة كثيرا من أعمال الأدباء والعلماء الغربيين، فكانت أطروحات المفكرين الإسلاميين من الناحية النظرية عالما جديدا بالنسبة لي، وتفكير مختلف في الاقتصاد والأدب والفنون والسياسة بعيدا عن نمط الفقه وعلوم العبادات.
وقد كان الأستاذ فتح الله كولن بالنسبة لي مفكراً إسلامياً محسوباً على “الإسلام السياسي”، ومع أنني درست عن قرب النماذج الإسلامية السودانية والمصرية والتونسية والسعودية التي فشلت جميعها، وعلى الرغم من إعجابي بنجاح النموذج التركي إلا أنني كنت مهتماً بميراث محي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي والطرق الصوفية في تركيا أكثر من السياسة والأكاديميات الإسلامية.
لم يكن لي الحماس لعودة القراءة في الفكر السياسي، فكنت في حيرة هل أقبل الهدية أو أتركها على الطاولة؟ وتذكرت حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة والفضل والشغف اللذين دفعاني لحضور هذا الصالون فالتقطت الكتاب كي أشبع به نهمي وعطشي للمعرفة. وكان هذا أول كتاب اقتنيه في مصر دون أن أدفع ثمنه، قررت أن أدفع مهراً بأن أقرأه وأتعرف على الأستاذ فتح الله لعلني أجد في تجربته ما ينير بصيرتي في دربي.
دهشة المؤلف
وفرض السؤال التالي نفسه بقوة علي.. ما الذي يدفع كاتبا وباحثا أمريكيا مسيحيا لا يتحدث اللغة العربية أن يتجشم عناء البحث والتحليل والكتابة عن شخصية إسلامية تركية اسمها فتح الله كولن؟ ولو كان كاتباً عربياً لقلنا عله كتب تأثراً وتعصباً وانحيازاً من باب الدين، وإن كان الكاتب تركياً لقلنا عله تحيز من أجل قوميته، وإن كان أكاديمياً لما استطاع أن يكتب دون التأثر بأفكار الأستاذ فتح الله.
لا حظت أن الكاتب جون باول قد تقيد بصرامة المنهجية الأكاديمية، والثقافة، والأمانة العلمية في الطرح عند إعداده وكتابته لهذا المؤلف.
وقد بدا واضحاً بين صفحات الكتاب وفي مواقع مختلفة منه اندهاش وحيرة المؤلف من الإسلام وقدراته لصناعة وتغيير مجرى تاريخ البشرية من أول وهلة، وتسأله مقدمة الكتاب كيف لغلام متدين ولد في قرية صغيرة في تركيا أن يكون مصدر إلهام ورعاية لحركة عالمية مؤثرة وناجحة؟
هذا السؤال البديهي في حد ذاته هو ما حير الفكر الغربي ولكنهم للأسف تنكروا عليه لعدم استطاعتهم مجاراة مقتضياته… إنه الإسلام… ومنه عبقرية الأستاذ كولن كما هي عبقرية صلاح الدين الأيوبي وعبقرية عمر بن الخطاب منذ سيدنا إبراهيم عليه السلام، وتلك شؤون لن تدركها بكثرة الدراسات أو اجتهاد العلماء.
فتح الله كولن خطوة حياة
“ليس بالضرورة أن يكون الدين غير منطقي، فإن الدين أيضاً لا يورث العنف”، اقتبس المؤلف هذه المقولة في طرح أفكار الأستاذ كولن. وهي تختزل في محتواها منهجية العمل السياسي النابعة من مدرسة جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي في سلوك التصوف وتزكية النفس.
لقد عانى فتح الله من التنكيل والاضهاد، وهذا أمر في عُرف الرجل الصالح في الإسلام أمر طبيعي بل هو شهادة.
ونستشف من عرض الكاتب لسيرة كولن أن الأستاذ لم يسلم من الصراع بين الدين والسلطة، ذلك الصراع يدور في فضاء خارجاً تماما عن ما قد يدركه إلا القليل من الساسة.
وبعيداً عن فكرة أن الإسلام سلام، فإن الإسلام الذي هو من التسليم لله لا يتحدى للسلطة بل على النقيض من ذلك.
ولقد حاول الأكاديميون ومن قبلهم ممن ادعوا أنهم المتنورون بترويض الفكر والفنون والتجارة والدين والعلم لخدمة السلطة إلا الإسلام استعصى عليهم فهو يفاجئهم من حين لآخر ومن حيث لم يتوقعوا.
إن جيل الأستاذ فتح الله في الفكر الإسلامي وتعاليمه تواجه تحديات، لأنهم جمعوا بين الدين والعالم المعاصر واكتشفوا أسرار الكون. فقد تعرفت من خلال هذا الكتاب على شخصية ليست فقط فكرية أو قيادية بل إنها أيضاً شخصية لها مواقف ومبادئ عظيمة. فالأستاذ لم يهتم أن يكون بالضرورة سياسياً مناوراً بقدر ما اهتم أن يكون قيادياً نافذاً.
وكقليل من المفكرين الإسلاميين فقد تميز الأستاذ كولن “بالفكر الإسلامي الصوفي” باقتباس مصطلحات الأكاديميين وليس بالفكر الإسلامي الأكاديمي كالترابي في السودان أو فكر الإسلام الليبرالي لعبد الفتاح مورو في تونس أو فكر الإسلام الثوري لحسن البنا وجماعته في مصر أو فكر الإسلام الملكي كمدرسة عبد الوهاب في السعودية.
وإن تأثره بمعلمه سعيد النورسي والتعاليم الصوفية كان له أثر بالغ في فطانة فكره واستيعاب وإدراك بعض من الحقائق التي أرست دعائم القيم.
لقد دعم كولن فكرة “الإسلام المدني” في محاولة للجمع ما بين ” القلب” والعقل”، تلك المحاولة هي نتاج فيوضات الأنوار تتصارع في كولن نفسه، وتلك حالة صراع دائمة لكل من سار في الطريق إلى الله، وذلك ما يؤكده المؤلف عن كولن بترويض الـ”انا” وكبح جماح “النفس”، فتلك التي قادته للسعي “لإزالة عقبات (أنا) التي تقف في طريق أجيال (نحن)”.
وإن هذا المنهاج لا يكون إلا بالخدمة، خدمة الروح والنفس، ومازال كولن في الخدمة خادماً صابراً على ما أصابه على منهاج معلميه الصوفية.
نقد الكتاب
ومن الملاحظ أننا نجد أن المؤلف لم يتطرق إلى طرق فتح الله الإنسان، ولم يتضمن الكتاب عن طباعه إذا كان ودودًا أم صارماً مثلاً، ولم يحتوِ كذلك مشاهد تأملاته والعوامل التي تسعده أو تزعجه وأهم قضايا ومحطات حياته.
بلا شك فإن هذا الكتاب إضافة للمكتبة العالمية بصفة عامة والمكتبة الإسلامية على وجه الخصوص.
ومن تكن برسول الله نصرته … إن تلقه الأسد في آجامها تجم – البوصيري
الشيخ أحمد التجاني جرمة أبو الأنوار
ماجستير اقتصاد/ قانون وسياسة التجارة الدولية
خبير وباحث في الشؤون الإفريقية